تاريخ البشريّة صراعا شرسا على كلّ مستويات الحياة بين القديم والحديث. وعبثا يتكلّم البعض عن حضارات حديثة وعن عالم حديث لا يزال تسوده مبادئ وتيّارات ونزعات فكريّة هي أساسا من القديم.
إنّ ظهور اليمين المتطرّف في عدّة بلدان وبروز سياسات التفرقة والعنصرية وممارسات العنف الشيطانيّة ضدّ الحريّات وحقوق الفرد والإنسان لهي كلّها ممارسات مذهلة ومخيفة تعكس درجة الجهل والتخلّف في مجتمعات تتشدّق بالعلوم والتكنولوجيا والرقيّ. فهذا يبني حائطا بين دولته ودولة مجاورة وذاك يدعو شعبه إلى التّكاثر حتّى لا يعمّ بلاده تواجد المسلمين وذلك يدعو إلى أفضليّة الأوروبيّ وآخر يقسّم مواطنا إربا إربا ثمّ يذيبه في حمّام حامض مركّز. وتطول القائمة أكثر ممّا يتصوّره العقل. ليست هذه بالحداثة في شيء بل هي مظاهر خطيرة من زجّ القديم في الحديث واستغلال فاحش لأحاسيس الأنانية ورفض الآخر المتجذّرة في قلوب النّاس وعقولهم والتّي أتت الفلسفات التّنويريّة بعكسها، أخوّة النّاس والتّساوي بينهم وضرورة منح الفرصة لكلّ بشر في السّعادة والارتقاء ثمّ أيضا ضرورة التّآزر بين النّاس وبين طبقات المجتمع وبين أمم العالم.
لقد أتت ثورات العالم مبنيّة على مشاريع والمشروع هو المحرّك الأساسي لتحرّكات الشّعوب. هكذا كان الأمر بالنّسبة للثّورة البلشفيّة : عالم جديد يسوده العدل والعمل وفشل المشروع أساسا لأرضيّته الطوبويّة في أن ينسى الفرد نفسه ويعمل من أجل المجموعة. أمّا الثّورة الفرنسيّة فهي التي تماشت مع طبيعة الإنسان وفرضت المواطنة واحترام الفرد وسيادة القانون فكان لها الدّوام. ولكن عالمنا اليوم تسوده ركائز الأنانيّة والرّبح الأناني ويضرب عرض الحائط بحقوق الآخر والمبادئ الكونيّة من ضرورة حسن توزيع الرّبح وضرورة التّآزر بين الفئات ودور الدّولة في التّعديل وتوفير الضروريّات لكل المواطنين. هذه إنسانيّة جديدة وحداثة جديدة لا تزال في طور التّبلور والبروز وهي المعنى الصّحيح لإنسانيّة البشر وهي مغزى فلسفات الأنوار والأهداف السّامية التي حلم بها المفكّرون والمبدعون وممارسو العلم والمعرفة.
فالعلم والمعرفة تمشّ عقلاني مبدأه الفهم والتّوظيف من أجل الأفضل. وهذه المبادئ السّامية لم تمنع الكثير من تطبيق العلم لإضفاء الغطرسة والدّمار والتّنكيل بالآخر. تلك ليست حداثة بل هي توظيف للأفضل من أجل الشّيطان الكائن لدى الشّعوب وأغلبيّة ممارسي السّياسة.
الحداثة التّي نراها هي مثل وهي حلم ولكنّها مثل وحلم ضروريّان لأجل مجتمع أفضل وإنسان جديد.
لنعد إلى تونس.
هذه ثورة تبحث عن نفسها منذ ثماني سنين. ما مشكلتها؟ إن انقضّ عليها القديم فأفرغ محتواها وجرّدها من مشروع لم يكن واضحا ومبلورا وأغرقها في خدمة الأهداف الأنانيّة وأصحاب السّلطة. وفي المقابل تشتّت الجديد (الحداثيّون) إذ ليس لدينا اليوم مشروع حياتي واضح فنحن نتكلّم عن حداثة لا نفقهها ولا نعيها. هذا يريد أن يخرج بورقيبة من القبر وذاك يستنبط من النصّ الديني حداثة وهميّة والكلّ يلهث وراء كرسيّ السلطة لوحده لأنّ صديقه هو أيضا كوّن حزبا وله نفس الحلم، اعتلاء كرسي العرش ولما يجلس على ذلك الكرسي يتيه في الجزئيّات ويلهث وراء تحالفات وهميّة ويعجز عن فهم الواقع.
الحداثة اليوم في تونس تنطلق من مشروع واقعي يأخذ بعين الاعتبار طبيعة الإنسان التونسي والإمكانيّات الماديّة الفعليّة للمجتمع. من هنا ينطلق المشروع والقائد لا يكون الشخص الذي يريد ان يكون قائدا وإنّما يكون ذاك الفرد الذي يفرزه المجتمع في تفاعلاته لأنّه يأتي بمشروع واقعي يخاطب فيها الفرد والمجتمع وتقتنع به الأغلبيّة كطريق أمثل من أجل حلّ المشاكل والمضي إلى الأمام.
لقد تكلّم الكثير عن العودة إلى العمل وسيادة القانون والمؤسّسات. لم يكن ذلك بالكثافة المؤدّية إلى النّجاعة. وجب أن يكون ذلك خطابا وممارسة يوميّة وسياسة ممنهجة من أجل فرض العمل كاختيار أوحد للخروج ممّا نحن فيه وتوظيف القانون من أجل ذلك. الشّعوب تعمل والعرب والمسلمون يتكلّمون . وجب توظيف جديد للكلام.
لقد تعب النّاس من خطاب بدون محتوى والسب والشّتم والصّياح الأجوف.
يقولون ربحنا الحريّة، عن أيّ حريّة تتحدّث؟ هل الحريّة تعني الفوضى ؟ هل الحريّة تعني أن يعتدي منحرف على شرطيّ ؟ هل الحريّة تعني أن يبني أناس حائطا على السكّة الحديديّة لقطارالفسفاط ؟ والأمثلة كثيرة وكثيرة جدّا. يأتينا الفيسبوك بوابل منها كلّ يوم، فوضى واغتصاب وظلامية. الحريّة لا وجود لها في حياة المجتمعات في المعنى المطلق. الإنسان مقيّد بضوابط تسود علاقاته مع نفسه ومع الآخر. هذا هو المعنى العميق لخطاب روسو (العقد الاجتماعي) وميشال فوكو (في المراقبة و العقاب). ليس هناك حريّة مطلقة. هناك حريّات مقننة ومنظّمة يضمنها احترام الفرد لنفسه واحترام الفرد للآخر الذي يتقاسم معه الحياة في المجتمع. الآن وهنا وجب أن يعلو القانون وأن تسلّط العقوبات التي فيها الدّرس وفيها العبرة. والعقوبة ليست فقط السّجن بل تنظيم الحياة في السّجن حتّى يكفّر المذنب عن ذنوبه وحتّى يدفع المجرم للمجتمع الثّمن الباهظ من التّعب والعمل والوصول بعد سنوات الوحدة والعمل المضني المفروض إلى التّوبة والاعتذار للمجتمع الذي استهتر بكيانه وقيمه. هذه فلسفة أخرى جديدة طبّقتها مجتمعات ذكيّة من أجل حماية نفسها من الجهل والعنجهيّة والفوضى.
إذن عمل وقانون وحريّات واضحة ولا حريّة مطلقة وهذا عمل دؤوب، هو عمل مضن لا خيار لنا غيره.
أمّا الاقتصاد فهو الأساس ولا خروج من أزمة بدون حداثة جديدة في الاقتصاد. البدء هو تفجير الطّاقات الكامنة في المجتمع. والدّليل هو محبّة تونس والإيمان بالوطن وقناعة بأنّ معنى الحياة هو خلق القيمة المضافة. وجب أن يفهم اتّحاد الصّناعة والتّجارة دوره الأساسي والثّوري في مجتمع تونس اليوم. وجب أن ينطلق أصحاب المؤسسات والمعامل والمتاجر والفنادق في قناعة جديدة. العمل والابتكار وخلق الثّروة من أجل تونس اليوم. هي قناعة قبل كلّ شيء وهي قناعة تولّد الشّجاعة وهي شجاعة وراءها إعادة الدّورة الدّموية لاقتصاد تونس.
النّجاح يصنع النّجاح وأمّا الحذر والفرجة والانتظار والخوف ففيها دمار تونس ومواصلة الانحدار نحو الجحيم وفي الجحيم كلّنا منهزمون !
لا يكفي اليوم في الحداثة أن نصنع القيمة المضافة والثّروة. الاقتصاد الجديد يفرض حتما عقليّة جديدة في التوزيع. إن لم ينجح التونسي في تقاسم الثّروة يعود حتما إلى مجتمع بن علي الفوضوي (الوصوليّة والمافيا...) وجب سنّ قوانين جبائيّة جديدة تراعى فيها مصلحة المستثمر ولكن تراعى فيها المصلحة العليا للوطن، توازن البلاد، وحدة الوطن، وضروريّات تنويع الاقتصاد وإيصال حداثته إلى الجهات : برامج واقعيّة ومدروسة تنطلق من الواقع المحلّي والجهوي لخلق الفرص. الطبيعة منحت كلّ مكان وكلّ جهة ثروات وجب اكتشافها وتوظيفها وتطويرها وحسن استغلالها وأوّل ثروة للمحلّ والجهة هو الإنسان القادر على الفعل (وليس الإنسان المتسوّل الذي ينتظر أن تمطر السّماء ذهبا). التنمية ليست كلاما بل هي نتيجة حتميّة لتشخيص للواقع وقدرة على استنباط العمل المفيد والقيمة المضافة انطلاقا من ذلك الواقع وتجارب العالم لا تحصى ولا تعدّ في هذا الميدان.
وخلاصة. كلّ شيء ممكن. نحن قادرون. ونصبح قادرين إذ وعينا وفهمنا حداثتنا ونحن قادرون إن نحن نهضنا للعلم والتفكير الذّكيّ وإلى الإدراك وإلى التّشخيص الواقعي والعلمي للصعوبات التي نبني انطلاقا منها الغد الأفضل. والغد الأفضل في ديناميكيّة شبابنا وباحثينا ومستثمرينا، شرط أن نحبّ فعلا تونس. وحبّنا لتونس هو بادئ ذي بدء حبّنا لبعضنا البعض والحبّ يبدأ باحترامنا لبعضنا البعض ولا يكون ذلك إلاّ بسيادة القانون وانتصار مبادئ العلم وضرورة التّآزر وفي ذلك حداثتنا وإنسانيّتنا.