منبر: الحق في النفاذ إلى المعلومة ومكافحة الفساد

بقلم: محمد العيادي
القاضي الإداري والنائب الأول لرئيس مجلس المنافسة وعضو مجلس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد


ننشر في ما يلي نص محاضرة الأستاذ محمد العيادي التي ألقاها مؤخرا بمناسبة ندوة علمية حول «الرقابة القضائية للنفاذ الى المعلومة» من تنظيم مشترك بين هيئة النفاذ الى المعلومة واتحاد القضاة الاداريين، علما بأن الندوة أقيمت بمناسبة الاحتفال بمرور ثلاث سنوات عن صدور القانون المتعلق بالنفاذ الى المعلومة.
لم تعد جرائم الفساد تقتصر على سوء التصرف في المال العام أو مخالفة القوانين والتراتيب بغرض تحقيق المنافع والامتيازات، بل طرأت أشكال وأصناف من الفساد المنظم والمعزّز بالأساليب التي أتاحها التطور التقني لنظم المعلومات والاتصال، كما اتّسعت رقعة الفساد لتشمل جرائم مستحدثة ومتشعبة أضحت تتدخّل فيها أطراف وشبكات تمتدّ من داخل إقليم البلاد لتضمّ غيرها من التنظيمات الدولية والإقليمية العابرة للحدود وللقارات.

فضلا عن ذلك، فإنّ نفوذ شبكات الإفساد طال الأجهزة الإدارية والسياسية والتنظيمات الاجتماعية من جمعيات وأحزاب ومنظمات، فكان من الطبيعي أن لا تجد لدى جزء من هذه الأجهزة الإستعداد الكافي للمساهمة والمساعدة على كشف جرائم الفساد لتداخل المصالح وتشبيكها، وغالبا ما يكون سلاحها في ذلك الإحتماء بنزعة السرية أو متطلبات أسرار الدولة وأمنها وسياساتها، وهي غالبا مبرّرات تهدف إلى التعتيم على المعلومة وعدم كشفها أو للتستّر على التجاوزات وإخفائها على العموم. لذلك تنامت منذ سنوات محاولات إصلاح أجهزة الرقابة على الدولة وسائر مؤسساتها بما فيها القضاء، كما برزت رغبة جامحة في الحصول على المعلومة وفي تعزيز مقوّمات الشفافية والنجاعة والمساءلة انطلاقا من بروز مفاهيم الحكومة المفتوحة والنفاذ إلى المعلومة والتفاعل والتشارك مع المجتمع المدني والهيئات العمومية المستقلة في رسم التوجهات والسياسات في مختلف المجالات، وهي جميعها مفاهيم تبنّتها الإتفاقية الأممية لمكافحة الفساد لسنة 2003 في ديباجتها بالأساس حين أوردت أنّ منع الفساد، حتى يكون فعالا، هو مسؤولية تقع على جميع الدول، ويجب أن تتعاون فيه أفراد وجماعات من خارج نطاق القطاع العام كالمجتمع الأهلي (المدني) والمنظمات غير الحكومية ومنظمات المجتمع المحلي.

كما أوردت المادتان 10 و12 من الاتفاقية وجوب اعتماد الدول على إجراءات أو لوائح تمكّن عامة الناس من الحصول عند الاقتضاء على معلومات عن كيفية تنظيم إدارتها العمومية واشتغالها وعمليات اتّخاذ القرارات فيها وعن القرارات والصكوك القانونية التي تهم عامة الناس، مع إيلاء المراعاة الواجبة لصون حرمتهم وبياناتهم الشخصية، فضلا عن ضرورة نشر معلومات يمكن أن تضمّ تقارير دورية عن مخاطر الفساد في إداراتها العمومية، على أن يشمل ذلك كيانات القطاع الخاص من خلال تعزيز الشفافية بها واتّخاذ تدابير في شأنها للإفصاح عن هوية الشخصيات الاعتبارية والطبيعية الضالعة في إنشاء وإدارة الشركات.

وبغاية ضمان مشاركة المجتمع في منع الفساد ومحاربته، ولإذكاء وعي الناس بوجود الفساد وأسبابه وجسامته وما يمثّله من خطر، نصّت المادة 13 من ذات الاتّفاقية الأممية على وجوب تدعيم هذه المشاركة بجملة من التدابير المصاحبة على غرار تعزيز الشفافية في عمليات اتّخاذ القرار وتشجيع إسهام الناس فيها وضمان تيسير حصولهم فعليا على المعلومات وحماية حرية التماس المعلومة المتعلقة بالفساد وتلقّيها ونشرها وتعميمها، دون أن يمنع ذلك من وضع بعض القيود عليها بالقانون بما هو ضروري وبالقدر الذي يراعي حقوق الآخرين أو يحمي النظام العام والأمن الوطني أو لصون صحة الناس أو أخلاقهم.

انطلاقا من هذه المرجعية الأممية، انطلقت في تونس أولى محاولات تكريس الحق في النفاذ إلى المعلومة بموجب المرسوم عدد 41 لسنة 2011 المؤرخ في 26 ماي 2011 المتعلق بالنفاذ إلى الوثائق الإدارية للهياكل العمومية، قبل أن يتعزّز هذا الإطار بصدور القانون الأساسي عدد 22 لسنة 2016 المؤرخ في 24 مارس 2016 المتعلق بالحق في النفاذ إلى المعلومة، وهو قانون علاوة على إرسائه لأول مرة لهيئة وطنية للنفاذ إلى المعلومة في شكل هيئة عمومية مستقلة تتولى بالأساس البت في الطعون المرفوعة إليها في مجال النفاذ إلى المعلومة (الفصل 37 )، فهو يهدف إلى ضمان حق كل شخص طبيعي أو معنوي في النفاذ إلى المعلومة بغرض تعزيز مبدأي الشفافية والمساءلة، وخاصة فيما يتعلق بالتصرف في المرفق العام، وبغاية تحسين جودة هذا الأخير ودعم الثقة في الهياكل الخاضعة للقانون ودعم مشاركة العموم في وضع السياسات العمومية ومتابعة تنفيذها وتقييمها (الفصل الأول من القانون).

غير أنه وبالتوازي مع أهمية القانون الأساسي عدد 22 لسنة 2016 من حيث هو آلية قانونية أساسية لمكافحة الفساد، فإنّ القانون الأساسي عدد 10 لسنة 2017 المؤرخ في 7 مارس 2017 المتعلق بالإبلاغ عن الفساد وحماية المبلّغين يشكلّ هو الآخر إطارا جديا ووسيلة إضافية لمنع الفساد، ضرورة أنه تضمّن جملة من الأحكام التي تضبط صيغ وإجراءات الإبلاغ عن المعلومات المتعلقة بجرائم الفساد وبكيفية حماية المبلّغين بما يساهم في تكريس مبادئ الشفافية والنزاهة والمساءلة والحوكمة الرشيدة ومنع الفساد ومكافحته في القطاعين العام والخاص (الفصل الأول من القانون).

وبخلاف هذين النصين الأساسيين، توجد في التشريع التونسي العديد من النصوص التي تهدف في النهاية إلى المساعدة على كشف الفساد ومنعه، غير أنّ السؤال الذي يتبادر إلى الذهن في هذا المجال هو الآتي: كيف يمكن أن يكون النفاذ إلى المعلومة آلية أساسية لمنع الفساد ومحاربته، وهل يعتري الأمر في التطبيق بعض القصور أو الهنات التي قد تحول دون تحقيق الغايات المنشودة من النفاذ إلى المعلومة والمتّصلة بالأساس بالحرب على الفساد وتعزيز مبادئ الشفافية والمساءلة والنجاعة؟

• الجزء الأول:
النفاذ إلى المعلومة آلية أساسية (حاسمة) لتكريس الشفافية والمساءلة ولمكافحة الفساد

1 - من خلال تأمين الحق في النفاذ
بغاية دعم التمشي الرامي إلى تحصين البلاد من آفة الفساد عبر تعزيز قواعد الحوكمة الرشيدة ومبدأي الشفافية والمساءلة بالخصوص، تمّ تضمين الدستور الجديد عديد الأحكام المتعلقة بالقطع مع الفساد وبإرساء الحكم الرشيد، منها بالخصوص ما ورد بالتوطئة في فقرتيها 1 و3، حيث أورد المؤسّسون لدستور 27 جانفي 2014 أنّه:»...ووفاء لدماء شهدائنا الأبرار ولتضحيات التونسيين والتونسيات على مرّ الأجيال، وقطعا مع الظلم والحيف والفساد»، وأنّه: «تأسيسا لنظام جمهوري ديمقراطي تشاركي، في إطار دولة مدنية السيادة فيها للشعب...يكون فيها حق التنظّم القائم على التعددية وحياد الإدارة والحكم الرشيد... تضمن فيه الدولة علوية القانون واحترام الحريات وحقوق الإنسان واستقلالية القضاء والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين والمواطنات والعدل بين الجهات».

فضلا عن ذلك، فقد كرّس الدستور الجديد ضمن الفصول 10 و11 و12 و15 جملة من المبادئ المتّصلة بإلزام الدولة بمختلف هياكلها السياسية والإدارية المركزية والمحلية بالعمل على منع الفساد ومقاومة التهرب والغش الجبائيين، وبوجوب اعتماد مبادئ الحياد والمساواة والشفافية والنزاهة والنجاعة والمساءلة في تسيير الإدارة العمومية، كما تمّ التنصيص بالفصلين 31 و32 منه على أحكام تضمن حرية الرأي والتعبير والفكر والتعبير والإعلام والنشر، وتلزم الدولة بضمان الحق في النفاذ إلى المعلومة وبالسعي إلى ضمان النفاذ إلى شبكات الاتّصال.

ولما كانت المعلومة طبق التعريف الوارد بالفصل 3 من القانون الأساسي عدد 22 لسنة 2016 المؤرخ في 24 مارس 2016 المتعلق بالحق في النفاذ إلى المعلومة هي كل معلومة مدوّنة مهما كان تاريخها أو شكلها أو وعاؤها والتي تنتجها أو تتحصل عليها الهياكل الخاضعة لأحكام هذا القانون في إطار ممارسة نشاطها»، فقد كان النفاذ إليها أمرا مهما وحاسما في طريق مراقبة وقياس مدى اعتماد هياكل الدولة الإدارية والسياسية والمركزية والمحلية لمبادئ الحياد والمساواة والشفافية والنزاهة والنجاعة والمساءلة في تسيير الإدارة العمومية، لذلك تمّ التأسيس على أن يكون ضمان هذا النفاذ بسبيلين مختلفين: أولهما هو النشر الطوعي للمعلومة بمبادرة من الهيكل المعني، وثانيهما بإقرار واجب توفير هذه المعلومة لطالبها باعتباره حق يمكن الحصول عليه بناء على طلب. (الفصل 3 من القانون).

ويتجلى ضمان الحق في النفاذ إلى المعلومة الطوعي بغاية كشف الفساد في العديد من الصور التي اقتضتها العديد من النصوص القانونية، حيث أوجب الفصل 6 من القانون عدد 22 لسنة 2016 على الهياكل الخاضعة للقانون أن تنشر وتحيّن وتضع على ذمّة العموم بصفة دورية في شكل قابل للاستعمال المعلومات المتعلقة بالخدمات المسداة والشهادات المسلمة والرخص والوثائق الضرورية للحصول عليها والشروط والآجال والإجراءات والأطراف والمراحل المتعلقة بإسدائها، فضلا عن النصوص القانونية والترتيبية والتفسيرية المنظمة لنشاطها، كنشر الصفقات العمومية المبرمجة والمصادق على ميزانيتها ونتائج تنفيذها وتقارير الرقابة، وكل معلومة تتعلق بالمالية العمومية، بما في ذلك المعطيات التفصيلية المتعلقة بالميزانية وبالمديونية العمومية والحسابات الوطنية، وكيفية توزيع النفقات العمومية وأهم مؤشرات المالية العمومية، فضلا عن وجوب نشر كل معلومة تكرّر طلب النفاذ إليها مرّتين على الأقل وكانت غير مشمولة بالاستثناءات الواردة بالفصلين 24 و25 من القانون (الفصل 8) .

كما يتجلى تكريس حق النفاذ للمعلومة في كونه متاح للعموم وبصفة يسيرة ومبسطة ومجانية ودون وجوب ذكر أسباب الطلب أو المصلحة المرجوة من الحصول على المعلومة، غير أنه ولئن وردت على حق النفاذ إلى المعلومة استثناءات ضبطها الفصلان 24 و25 من القانون في حدود إلحاق ضرر بالأمن العام أو بالدفاع الوطني أو بالعلاقات الدولية أو بحقوق الغير ذات العلاقة بالحياة الخاصة والمعطيات الشخصية والملكية الفكرية، فإنّ المشرّع وفي إطار حرصه على التشجيع على الإبلاغ عن الفساد، استثنى من قائمة المعلومات المتاحة للنفاذ تلك المتعلقة بالبيانات الخاصة بهوية الأشخاص الذين قدّموا معلومات بهدف الإبلاغ عن تجاوزات أو حالات فساد (الفصل 25) ، كما أنّ المعلومة المستثناة من النفاذ على نحو ما تم إيراده بالفصل 24 لا تشمل بصريح الفصل 26 المعلومة الضرورية بغاية الكشف عن الانتهاكات الفادحة لحقوق الإنسان وكل معلومة من شأن النفاذ إليها تحقيق مصلحة عامة غالبة لكل ضرر قد يلحق المصلحة المزمع حمايتها (الفصل26).

كما يبرز تكريس المشرع للنفاذ المباشر للمعلومة عن طريق الفعل الإرادي للهياكل الخاضعة للقانون من خلال تنصيص الفصول 10 و11 و14 و35 و36 و39 و40 من المرسوم الإطاري عدد 120 لسنة 2011 المؤرخ في 14 نوفمبر 2011 المتعلق بمكافحة الفساد على الواجب المحمول على الدولة لتشريك أفراد المجتمع في مكافحة الفساد في القطاعين العام والخاص، عبر نشر المعلومات المتعلقة بالفساد وآليات مكافحته وإلزام الدولة بالتقليص من العراقيل القانونية والعملية التي تمنع من كشف الفساد وإثباته، فضلا عن إلزام مصالح الدولة وخاصة منها المصالح الإدارية ومختلف مصالح وهيئات الرقابة والتفقد والتدقيق والجماعات المحلية والمؤسسات والمنشآت العمومية والمنشآت ذات المساهمات العمومية بمدّ رئيس الهيئة بصفة مباشرة وبمبادرة من هذه المصالح والهياكل بتصاريح تتضمن كل ما بلغ إليها وما أمكن لها الحصول عليه في قيامها أو بمناسبة قيامها بمهامها من معلومات ومعطيات تندرج ضمن مهامها، أو من شأنها أن تساعد هذه الأخيرة على القيام بالمهام المنوطة بعهدتها على أحسن وجه، وهو واجب ينسحب على كل شخص مادي أو معنوي أمكن له الحصول على معلومات وبيانات تندرج ضمن مهام الهيئة بما في ذلك محافظ البنك المركزي ورئيس هيئة السوق المالية ورئيس بورصة الأوراق المالية ورئيس مجلس المنافسة وكل الهيئات الأخرى المعنية، فضلا عن إلزام الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد ذاتها بنشر قراراتها ذات الصبغة العامة المتعلقة بمجال اختصاصها بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية وإعداد تقرير سنوي عن نشاطها تتولى نشره للعموم.

هذا وقد تمّ بموجب القانون الأساسي عدد 59 لسنة 2017 المؤرخ في 24 أوت 2017 المتعلق بهيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد تعزيز صلاحيات البحث والتقصي في شبهات الفساد من خلال التنصيص في جانبها المتعلق بحق الإطلاع من خلال التنصيص على واجب جميع الهياكل العمومية والخاصة والهيئات الدستورية المستقلة وغيرها من الهيئات مدّ الهيئة تلقائيا أو بطلب منها بالمعلومات والوثائق المتضمنة لكل المعطيات التي بلغت إلى علمها، مع التأكيد على وجوب إحالة الوثائق والمعطيات في أجل قدره 15 يوما إذا كانت موضوع طلب من الهيئة، على أنه وفي حالة انقضاء الأجل المذكور دون الاستجابة لطلب الهيئة أو في حالات التأكد، يمكن لهذه الأخيرة استصدار أذون استعجالية من القضاء الإداري في الغرض (الفصل29)، كما تمّ في نفس السياق التنصيص على تلقي الهيئة نسخا من التقارير الصادرة عن مصالح وهيئات الرقابة والتفقد والتدقيق والتقارير السنوية والخصوصية الصادرة عن محكمة المحاسبات، وذلك في أجل أقصاه 30 يوما من تاريخ تقديمها للسلطة المعنية (الفصل30)، فضلا عن إقرار مبدإ صريح مفاده عدم إمكان مجابهة طلبات الهيئة بالسر المهني أو البنكي أو الجبائي، وأنه إذا كان طلب الهيئة متعلقا بالاستثناءات المنصوص عليها بالتشريع الخاص بالنفاذ إلى المعلومة، فلها أن تلجأ إلى القضاء الإداري لاستصدار إذن استعجالي في الغرض وذلك في أجل أقصاه 15 يوما من تاريخ إيداع الطلب (الفصل 31 من القانون)، فضلا عن الاعتراف لأعوان قسم مكافحة الفساد بهيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد بصفة الضابطة العدلية حين ممارستهم لمهامهم، حيث يجوز لهم بصفتهم تلك تلقي الشهادات وجمع المعلومات والأدلة واستدعاء أي شخص للإستفسار والتحري معه حول شبهات الفساد، كالقيام كذلك بعمليات التفتيش وحجز المنقولات والوثائق والمعدات مع إمكانية الإستعانة بالقوة العامة، على أن يكون كل ذلك تحت إشراف السلطة القضائية المختصة (الفصلين 19 و20 من القانون).

من جهته، لم يغفل القانون الأساسي عدد 47 لسنة 2018 المؤرخ في 7 أوت 2018 المتعلق بالأحكام المشتركة بين الهيئات الدستورية المستقلة عن تكريس الحق في النفاذ إلى المعلومة، حيث ورد بالباب الرابع منه والوارد تحت عنوان «القواعد المتعلقة بالحوكمة والشفافية» وتحديدا بالفصل 27 منه إلزام كل هيئة مشمولة بهذا القانون بضمان حق النفاذ إلى المعلومة وفق التشريع الجاري به العمل وبالنشر الوجوبي على موقعها لما يثبت تصريح أعضائها بمكاسبهم ولقراراتها وطلبات العروض والصفقات المبرمة وأنواع الهبات والتبرعات والعطايا وقيمتها ومصدرها في أجل 15 يوما من تاريخ تلقّيها، فضلا عن الإعلانات الخاصة بالانتدابات والمناظرات والتقارير الدورية لوحدة التدقيق الداخلي بها والتقارير المالية وتقارير مراقبي الحسابات والتقارير السنوية وملخص محاضر الاجتماعات الدورية مع مكونات المجتمع المدني المعنية بمجال نشاطها.

كما تمّ بموجب القانون الأساسي عدد 46 لسنة 2018 المؤرخ في 1 أوت 2018 المتعلق بالتصريح بالمكاسب والمصالح ومكافحة الإثراء غير المشروع وتضارب المصالح، باعتباره يهدف بالأساس إلى دعم الشفافية وترسيخ مبادئ النزاهة والحياد والمساءلة وحماية المال العام طبق ما يبرز من فصله الأول ، إرساء آلية جوهرية في باب ترسيخ الحق في النفاذ كآلية حاسمة لمكافحة الفساد ومنعه تتمثل في نشر مضمون التصاريح بالمكاسب والمصالح الخاصة بثمانية أصناف من الأشخاص المشمولين بواجب التصريح، وهم بالأساس رئيس الجمهورية وأعضاده ورئيس الحكومة وأعضاؤها ورئيس مجلس نواب الشعب وأعضائه ورئيس المجلس الأعلى للقضاء وأعضاؤه ورؤساء الجماعات المحلية وأعضائها ورئيس المحكمة الدستورية وأعضاؤها، على أن يتمّ نشر مضمون تصاريحهم بالموقع الإلكتروني للهيئة بمراعاة التشريع المتعلق بحماية المعطيات الشخصية، ووفق أنموذج تتم المصادقة عليه بأمر حكومي يصدر باقتراح من الهيئة وبناء على رأي مطابق لهيئة حماية المعطيات الشخصية (الفصل 8 من القانون عدد 46 لسنة 2018) ،وهو أمر لم يصدر بعد إلى حين صياغة هذه المداخلة، وهو ما يبرّر عدم تولي الهيئة بعد نشر مضمون التصاريح المشار إليها بموقعها الإلكتروني.

كما أنه وطبقا لأحكام الفصل 14 من القانون عدد 46 لسنة 2018 سالف الذكر، تنشر الهيئة كل ستّة أشهر على موقعها الإلكتروني قائمة في القائمين بالتصريح والممتنعين عنه، وهو إجراء وجوبي انطلقت الهيئة في تفعليه على أرض الواقع، كما تنشر الهيئة على موقعها الإلكتروني قائمة الهياكل العمومية التي لم تتّخذ التدابير الضرورية لوضع حدّ لوضعيات تضارب المصالح، فضلا عن تمكين الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد إلى حين مباشرة هيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد لمهامها، من النفاذ إلى التصاريح بالمكاسب المودعة لدى الرئيس الأول لدائرة المحاسبات وطلب نسخ منها عند الاقتضاء، كإدراج نشر مضمون الحكم الصادر في حق الشخص المعنوي بأحد الصحف على نفقته كعقوبة تكميلية يمكن للقاضي أن ينطق بها ضد كل شخص يتعمد إخفاء مكاسب متأتية من جريمة الإثراء غير المشروع أو بحفظها من أجل إعانة مرتكبها.

2 - من خلال حماية الحق في النفاذ
لئن تكفّلت نصوص خاصة ومتعدّدة بإقرار الحق في النفاذ إلى المعلومة وتأمينه كآلية أساسية تمكّن من التوقي من الفساد ومحاربته باعتباره حقا دستوريا يتلاقى في أكثر من جانب مع جملة القواعد الدستورية المتصلة بحسن التصرف في الإدارة العمومية على أساس مبادئ الحياد والنزاهة والشفافية والمساءلة، ويمكّن بالتالي من تحقيق الواجب المحمول على الدولة في منع الفساد ومحاربته وفي تحقيق مشاركة المجتمع وسائر التنظيمات المجتمعية من المشاركة في مجهود مكافحة الفساد، فإنّ مهمة مراقبة وحماية الحق في النفاذ إلى المعلومة وحمايته من كل صدّ أو تعطيل أو انحراف أو تطويع لغايات جانبية، أوكلها القانون الأساسي عدد 22 لسنة 2016 المؤرخ في 24 مارس 2016 إلى هيئة النفاذ من خلال إسنادها اختصاص البت في الطعون المرفوعة إليها في هذا المجال وتمكينها للغرض من القيام بالتحريات اللازمة وبإجراءات التحقيق والسماع التي تراها مناسبة للغرض (الفصل 37 ).

في هذا الإطار، وبتفحص فقه القضاء الصادر عن الهيئة سيتبيّن للمطلع البسيط على بعض القرارات الصادرة في هذا الشأن، أنّها أكّدت في أوّل قرار صادر عنها وهو القرار عدد 1 لسنة 2018 المؤرخ في 1 فيفري 2018 (الجمعية الوطنية لحماية قطاع النقل «تاكسي» ضد والي المهدية والمدير العام للوكالة الفنية للنقل البري)، أنّ الحق في النفاذ إلى المعلومة مضمون بالفصل 32 من الدستور، وأنه يعدّ حقا أساسيا لكل شخص طبيعي أو معنوي تم تنظيم ممارسته بموجب القانون الأساسي عدد 22 لسنة 2016 المؤرخ في 24 مارس 2016 والمتعلق بالنفاذ إلى المعلومة وذلك بغرض تحقيق عدة أهداف لعل أبرزها تعزيز مبدأي الشفافية والمساءلة فيما يتعلق بالتصرف في المرفق العام»، وبأنّ حصول الجمعية المدّعية على محاضر جلسات اللجنة الجهوية للنقل بولاية المهدية والمتعلقة بضبط المقاييس الموضوعية لإسناد رخص التاكسي الفردي بالولاية، كحصولها على قائمة المستفيدين من هذه الرخص منذ سنة 2011 ، « ليس من شأنه أن يؤدّي إلى إلحاق أيّ ضرر بالأمن العام أو بالدفاع الوطني...وإنما هو ينصهر ضمن تحقيق أهداف القانون في تكريس مبدأي الشفافية والمساءلة فيما يتعلق بالتصرف في مرفق النقل بواسطة سيارات الأجرة وتنظيمه، كما يسمح بدعم مشاركة العموم في متابعة تنفيذ السياسات العمومية وتقييمها».

كما أوردت هيئة النفاذ إلى المعلومة في قرارها عدد 33 لسنة 2018 المؤرخ في 19 أفريل 2018 ردا منها عن امتناع محافظ البنك المركزي التونسي عن مدّ المدّعي بنسخة ورقية من تقرير مهمة التدقيق التي تولى القيام بها على مؤسسة «اتحاد الفكتورينغ سنة 2007» بحجة عدم اكتمال الصيغة النهائية للتقرير المذكور وعدم إمكان نشر مثل هذه التقارير لتضمّنها معطيات دقيقة تخص المؤسسة الخاضعة للتفقد ذات علاقة بسمعتها وقدرتها التنافسية في السوق، أنّ تقدير مدى قابلية النفاذ إلى الوثائق والمعلومات من عدمه إنما يرجع إليها بالأساس دون سواها، وليس للهياكل أن تحل محلها في ممارسة هذه الصلاحية، مضيفة بأنه « وعلى فرض ثبوت مثل هذا الضرر، فإنّ المصلحة العامة من تقديم المعلومة في صورة الحال، والمتمثلة في الكشف عن شبهات فساد وعن تجاوزات مالية ومحاسبية بالمؤسسة المعنية، يعدّ أهمّ من المصلحة المراد حمايتها من قبل البنك المدّعى عليه».

وفي سياق متّصل، أكدت هيئة النفاذ إلى المعلومة ضمن قرارها عدد 51 لسنة 2018 الصادر بتاريخ 31 ماي 2018 أنّ أحكام القانون المتعلق بالنفاذ إلى المعلومة تنطبق كذلك على المنظمات والجمعيات وكل الهياكل التي تنتفع بتمويل عمومي، لتنتهي في الأخير إلى إلزام النادي الرياضي المسعدي بتمكين المدّعي من نسخ ورقية من إجازات اللاعبين ع.ه وخ.ه بعد أن ثبت لديها من التحقيق « أنّ الغاية من طلب الإجازات المعنية هو الكشف عن شبهة فساد إداري محتملة متّصلة بتسيير المرفق الرياضي»، كل ذلك إعلاء منها لمبدأي الشفافية والمساءلة.

وفي إطار حماية هيئة النفاذ للمعلومة للحق في النفاذ إلى المعلومة الرامي إلى كشف كل شبهات الفساد في مادة المناظرات والإنتدابات، وهي التي تمثّل إحدى أهم واجهات ومداخل الفساد والمحسوبية في بلادنا، فقد أوردت بمناسبة قرارها الصادر تحت عدد 90 - 91 لسنة 2018 بتاريخ 2 أوت 2018 أنّ اطلاع العارضين على بطاقات التقييم المعتمدة الخاصة بالمترشحين الناجحين ومحضر مداولات اللجنة حول تقييم المترشحين ومداولات التصريح بالنتائج، بما في ذلك قائمة الأعداد والترتيب، إنما «ينصهر صلب المبادئ الأساسية لحق النفاذ إلى المعلومة وأبرزها تكريس مبدأي الشفافية والمساءلة فيما يتعلق بالتصرف في المرفق العام وضمان مبدأي المساواة وتكافؤ الفرص فيما يتعلق بسير المناظرات الداخلية داخل الهياكل العمومية»، خاصة وأنّ صيغة الإطلاع على هذه الوثائق كان على عين المكان دون الحصول على نسخة منها.

وفي تعاطيها مع وقائع القضية المعروضة عليها بقرارها عدد 193 لسنة 2018 والصادر بتاريخ 25 أكتوبر 2018، قضت هيئة النفاذ إلى المعلومة بإلزام رئيس مجلس نواب الشعب بتمكين منظمة «أنا يقظ» من نسخة ورقية من القائمة الإسمية للنواب الذين وردت بشأنهم مطالب في رفع الحصانة من قبل السلطة القضائية. وقد برّرت الهيئة قرارها هذا بأنّ الإفصاح عن تلك القائمة ليس من شأنه المساس بالمعطيات الشخصية للنواب المعنيين ولا بحياتهم الخاصة ضرورة أنّ « الحصانة البرلمانية تعتبر من قبيل الامتيازات التي يتمتّع بها النواب المعنيون بصفتهم نوابا للشعب وليس بصفتهم الشخصية، وهو ما يجعل بالتالي من المعلومات المتّصلة بانتفاعهم بمثل هذا الامتياز من قبيل المعلومات العامة التي تهمّ عموم المواطنين ومنظمات المجتمع المدني المتابعة للشأن العام»، فضلا عن «أنّ تمكين العارضة من المعلومة المطلوبة من شأنه أن يساهم في تكريس مبدأي الشفافية والمساءلة ويدعم ثقة العموم ومنظمات المجتمع المدني في سلط الدولة وهياكلها العمومية، وهو ما يمثّل أحد أهم الأهداف التي يسعى القانون الأساسي المتعلق بالحق في النفاذ إلى المعلومة إلى ضمانها وتكريسها».

(يتبع)

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115