سيغمونت باومن" الذي وصف ما نحن عليه اليوم بكونه حداثة سائلة. والسيولة هنا هي نقيض للصلابة، نقيض للثقل الذي أنجزته في العالم الغربي خصوصا عقلانية أداتية وبيروقراطية ومنظومة قيمية تؤمن حاضر الديمقراطية ومستقبلها. الصلابة التي يتحدث عنها «باومن» هي كذلك صلابة الروابط الاجتماعية وصلابة المؤسسات الاجتماعية مجسدة في العائلة والمدرسة. والحداثة السائلة ما هي إلا التعبير الآخر لما بعد الحداثة ولكن إستعارة السيولة أكثر دقة في التعبير عن صعوبة الإمساك بالأشياء وصعوبة التحكم فيها وقدرتها الفائقة على التلون والتشكل.
تأتي الحداثة السائلة بمعنى جديد للهويات عندما ترتكز على مدى قدرة الفرد على إشباع رغباته الاستهلاكية. وينتقل خوفه من خوف مرتبط بعلاقته بمنظومة قيمية إلى خوف من فقدان قدرته على التعامل مع هذه المنظومة بأكثر براغماتية. يفقد الفرد في مرحلة الحداثة السائلة الإحساس بالذنب إزاء تعديه على منظومة القيم، وما يعنيه في هذه الحالة ليس الإلتزام بها والإمتثال لها بقدر ما يعنيه نجاحه أو فشله في التصرف إزاء إكراهاتها المتعددة. ما يهم الفرد في هذا السياق سوى أن يكون قادرا على الحركة، قادرا على الإنجاز وقادرا على اقتناص الفرصة المناسبة. تتآكل في هذا الصنف من الحداثة صلابة المراقبة وصلابة المتابعة أو صلابة القهر الاجتماعي حسب تعبير «دوركايم» لتنتعش سيولة الأشكال الاجتماعية والتملص والانسحاب واللامبالاة بداية من الفرد وانتهاء بالدولة.
لا توجد إجابة واضحة في حالة السيولة، الأمور مفتوحة على كل السيناريوهات، ولذلك تأتي عبارة لكل حادث حديث الإختزال المناسب لحالة الترقب وحالة اللايقين. وحتى الذي يستعمل العبارة لا يعلم ما ستؤول إليه الأشياء في المستقبل، المهم هو الحالة الراهنة، فالراهن هو مركز الحداثة السائلة وهو جوهرها. ولكن المهم في كل هذا هو أن خطابنا السياسي اليوم بدأ يستعمل هذه العبارة وبشكل مكثف. تبدو الإجابة من الوهلة الأولى وكأنها مناورة سياسية أو هروبا من التورط ولكن تكشف هذه العبارة «لكل حادث حديث» في عمقها غياب الرؤية وغياب المسؤولية التي قد تصل إلى نوع من اللامبالاة.
هل جمهوريتنا جمهورية سائلة؟
عندما نضع أمامنا جمهورية ما بعد 14 جانفي 2011 لإننا نقف عند المفارقة التالية: الشعارات المرفوعة والطموحات المعلنة والمشاريع التي بشرنا بها تضعنا في عمق الجمهورية الصلبة، ولكن عندما ننظر إلى ما آلت إليه الأوضاع الآن فإننا نجد أنفسنا في عمق الجمهورية السائلة.
أغلب الأحزاب التي تشكل المشهد السياسي الحالي هي «أحزاب سائلة» عدى الأحزاب الصلبة التي تنبني على أفكار كبرى وهي قليلة جدا. هي «أحزاب سائلة» لأنها مفتوحة على كل السيناريوهات الممكنة، إذ يمكنها أن تتشكل بألف شكل وشكل في حيز زمني ضيق. تستقبل وافدين جدد وسرعان ما تتخلى عنهم أو أنهم يتخلون بمحض إرادتهم. ويحدث أن يفتح شخص ما دكانا حزبيا ليغلقه بمجرد الدخول في مناورة سياسية لا معنى لها. هي «أحزاب سائلة» لأن فقهها السياسي لا يتعدى مقولة لكل حادث حديث، إذ لا رؤية واضحة لها، هي أشبه بمفتي الجمهورية السائلة عندما يخبرنا بحلول شهر الصيام. هي سائلة لأن خطابها السياسي مرتبط بموقع الأفراد فيها لا بموقع الأفكار والبرامج والمشاريع. هي إذا أحزاب الشيء الذي لا يدوم. ومن هنا تأتي سيولتها.
السلطة التشريعية هي الأخرى سلطة سائلة عندما تتغير تركيبة كتلها البرلمانية بطريقة سوريالية، فعندما نقارن المشهد كما أفرزته انتخابات 2014 بما هو عليه اليوم فإننا نقف أمام ظاهرة تشظي الهويات البرلمانية والهويات السياسية لأن المنطق الذي يقود هذه الهويات ليس منطق الالتزام السياسي وهو دليل صلابة بل منطق سوق البضائع التي تنتهي صلوحيتها بانتهاء الإشباع الفوري للرغبات وهو دليل سيولة. استهلاك العواطف السياسية أخذ مكان التعامل مع الأفكار السياسية في البرلمان.
بالإمكان تعداد ما طالته السيولة في مجتمعنا، في المؤسسات وفي النقابات وفي العلاقات الإنسانية ولكن ما يثير الإنتباه هو سيولة الخوف تحت وطأة الغموض واللايقين مما يخفيه الغد الذي يتعامل معه أغلب السياسيين اليوم بمقولة «لكل حادث حديث» وهي في اعتقادنا المقولة الأخطر على بساطتها وعلى مرورها أمامنا مرور الكرام.
الجمهورية الصلبة هي جمهورية الأخلاق السياسية وجمهورية العقد الاجتماعي الذي تتضح معه الرؤية وفق مشروع مجتمعي واضح المعالم.