أو عيد الحب الذي يوافق 14 فيفري من كل سنة. فرض الحدث نفسه على الجميع بأشكال وترتيبات مختلفة من مجتمع إلى آخر ومن سياق إلى سياق. مقولة الاستعمالات هي مقولة تحليلية تخرجنا من النظر إلى الظواهر في سكونها وفي طبيعتها الثابتة وتمنح الفرصة لرؤية الأشياء في ديناميكيتها وفي حيويتها وفي ابتكار الإنسان المتواصل لها.
لا يحيد السان فلنتان عن هذه الزاوية في التحليل، فهو حدث موغل في التاريخ البشري رسم ويرسم لنا العلاقة الإنسانية بين الرجل والمرأة وبينهما المجتمع والدين. هو حدث يرافق في ديناميكيته علاقة الإنسان بالأخلاق العامة. ولهذا رفضته الكنيسة واعتبرته خطيئة عظمى، ورفضته السلطة السياسية في روما القديمة لأنه احتفال يلهي الذكور عن القيام بالحرب. في البدء كان الاحتفال عنيفا، أشبه بحالات اغتصاب جماعي ولكنه مع مرور الأزمنة أصبح الحدث شيئا فشيئا تدريبا رجاليا على تهذيب مشاعرهم نحو المرأة في نفس السياق الذي بدأت فيه البشرية تتحضر وتكتسب مقومات انسانية جديدة.
تراجع الاحتفال بعيد الحب في وقت ظهرت فيه الثورات الصناعية والديمقراطية في الغرب وأعاد الأمريكيون ابتكاره مع مطلع القرن العشرين ولم يصل إلى فرنسا إلا مع انتهاء الحرب العالمية الثانية. جاء الجنود الأمريكيون ورغبوا في مغازلة الفتيات الفرنسيات بإهدائهن ورودا وشكلاطة. ولكن المجتمع الفرنسي لم يكن في حالة تقبل هذا الوافد الجديد عليه، لم يكن الفرنسيون قد صاغوا بعد فردانيتهم وحرية مشاعرهم وشجاعتهم في التعبيرعنها. لقد كانوا معنيين بالعلاقات الاجتماعية الرسمية أي بعلاقات الزواج دون غيرها ولهذا وجد الاحتفال شهرة وقبولا لدى الأزواج ولم يلقها لدى غير المتزوجين من الشباب. كانت للأزواج فرصة لتدارك أمر محبتهم وتجديد عنفوانها. فكرة المجتمع كانت طاغية على فكرة الفرد. لا ننسى أن تلك المرحلة هي مرحلة بناء مجتمع متضامن بمؤسساته وبمشاعره.
إن استعادة الاحتفال بعيد الحب على نطاق أوسع مع نهاية الألفية الماضية مرتبط بصعود الفردانية كرؤية للوجود ومرتبط أيضا بحلول العولمة كتشكيل جديد لانتقال البضائع والأفكار والمشاعر. من عولمة المأكولات إلى عولمة المشاعر بدأ الاحتفال بعيد الحب يحط رحاله في أصقاع الدنيا. وتفاعلت معه الشعوب والمجتمعات بأشكال وطرق مختلفة، هناك دول منعته من التداول خوفا على هويتها، وهناك مجتمعات أعادت ابتكاره من جديد وأعطته من بصماتها الشيء الكثير. وتمت صياغة سرديات مختلفة بين من هو موافق ومن هو معارض بشدة. تبريرات معارضته عديدة نجدها في مقولات الحس المشترك من فصيلة أنه عيد مسيحي وعيد تجاري والحب لا يحتاج إلى يوم بل هو لكل الأيام، الورد مزعج للمجتمع.
نزل علينا الاحتفال بعيد الحب في تونس مع إطلالات السنوات الأولى للألفية. لم تكن العولمة هي الوحيدة التي مكنتنا من هذا الاحتفال. لقد كان هناك طلب اجتماعي للحب، طلب اجتماعي للتعبير عن المشاعر وطلب اجتماعي للتعبير عنها بأكثر مشهدية وخارج الأطر الاجتماعية التقليدية.
من الناحية السوسيولوجية يكشف قبول التونسيين للاحتفال بعيد الحب وانخراطهم في القيام بطقوسه إلى أنهم في ذاك السياق يريدون انتقالا عاطفيا. والإنتقال العاطفي هو تغيير في شكل التعبير عن المشاعر وتغيير في مضمونها. في نفس السياق أيضا برزت مجموعات الألتراس كصانعة للمشاعر في مدرجات كرة القدم. الإنتقال العاطفي هو أيضا تغيير بوصلة المشاعر وتحويلها إلى فضاءات جديدة. لم تعد الإيديولوجيات الكبرى قادرة على إنتاج ما يكفي من المشاعر، وغابت سرديات المشاريع الكبرى التي كانت تشبع الناس بالمشاعر. ولم تعد هناك الزعامات التي تؤجج مشاعر المواطنين وعاج الأفراد يبحثون عن طرق أخرى يلبون بها شوقهم للمشاعر. انكفأ الأفراد حول مشاريعهم الصغرى يصنعون لها مضامين عاطفية ويبحثون لها عن مسرحة تعطيها شرعية مثلى. لقد بدأ وقتها السقوط العاطفي للنظام السياسي إلى حين سقوطه سياسيا في 2011. هناك ربيع عربي عاطفي مع بدايات الألفية قاده الشباب في مدرجات كرة القدم وفي أغاني الراب وفي عيد الحب مقاومة للشعور بالإهانة إزاء أنظمة سياسية واجتماعية غير قادرة على التواصل مع متطلبات هؤلاء الشباب الذين بفردانيتهم عبروا عن رفض لقديم بدأ في التآكل. لقد تزامن الطلب على عيد الحب والإحتفال به في تونس مع بروز مشكلات اجتماعية حارقة، الهجرة السرية، استهلاك المخدرات، الانتحار، كل هذه الظواهر الاجتماعية دفعت بالشباب إلى ملاذ عيد الحب. ولم يتفطن منظرو النظام السابق ومفكروه أن الملاذ إلى الحب هو كره لواقع بائس. لم يكن بوسعهم أن يفهموا أن بدايات سقوط نظام سياسي تؤشر لها ظواهر تبدو للعيان و من الوهلة الأولى تافهة و لا معنى لها.
خلا الإنتقال الديمقراطي في تونس الآن من أي علامة على انتقال عاطفي. مشاعر الكره والضغينة وبناء العداوات المجانية كان الطاغي، في السياسة و في غيرها. شبكات التواصل الاجتماعي معبرة عن منسوب للعنف غير مسبوق. والإنتقال الديمقراطي ليس انتخابات حرة ونزيهة فقط، وهو ليس تركيزا لمؤسسات دستورية وحرية في التعبير فقط. الإنتقال الديمقراطي هو قبول للآخر، احترام له وانتباه لوجوده وهو إدارة جيدة للاختلاف. وهذا يتطلب انتقالا عاطفيا لا يلغي التناقضات ولا يميت الاختلافات و لا يعرقل الديناميكيات الضرورية لحركة الأفراد و المجتمع.