ولئن لم تكن هذه القضايا بالجديدة وأعطتها عديد الحكومات أهمية كبرى في علاقة بالجريمة المنظمة فإنها أصبحت بعد الاعتداءات الإرهابية في بداية الألفية في أولى أولويات المؤسسات الدولية وكبرى الحكومات فلا يخلو جدول أعمال أو قمة كبرى من هذه المسائل .
وقد كونت المنظمات الدولية باتفاق مع الدول مجموعات عمل وبحث من اجل تتبع الأموال المشبوهة ومنع تبييضها . وتعتبر اغلب المنظمات الدولية واللجان المختصة أن التقليص من التعامل النقدي يشكل جوابا مهما وطريقا للحد من هذه المخاطر. وقد ساهم التطور التكنولوجي وإدخال التقنيات الرقمية في الحد من التعامل النقدي والتقليص من تبييض الأموال ومخاطر تمويل الإرهاب . وبالرغم من هذا التحسن فإن التحدي يبقى قائما والقضاء على تبييض الأموال ومنع تمويل الإرهاب سيكون في الأجندا للمجموعة الدولية للسنوات القادمة .
وكعديد بلدان العالم فإن بلادنا ستعرف هذا التحدي خلال السنوات الأخيرة لتضعها عديد الحكومات في أولى أولوياتها . وستساهم عديد العوامل والأسباب في إعطاء قضية منع تبييض الأموال وتمويل الإرهاب الأهمية التي تستحقها . المسألة تهم تطور الإرهاب في بلادنا في سنوات ما بعد الثورة لدرجة انه أصبح يشكل خطرا كبيرا على التحول الديمقراطي في بلادنا وعلى أمننا الوطني .وقد ساهمت الأموال المتدفقة من الخارج وكذلك التمويل الداخلي في تقوية عود الإرهاب وتطوره ونموه.وقد أثبتت بعض الدراسات والتقارير الأمنية العلاقة الوثيقة بين التهريب والإرهاب .
فقد ساهم المهربون في دعم الشبكات الإرهابية من خلال تسهيل تنقلها ومدها بالمؤونة والتمويلات . وفي إطار الحرب ضد الإرهاب فقد قامت مختلف الحكومات بمحاولة تجفيف المنابع لهذه الحركات من خلال إيقاف تمويلها ووضع حد لمختلف قنوات التمويل الداخلية والخارجية .
كما لعبت كذلك الأزمة الاقتصادية وبصفة خاصة أزمة المالية العمومية دورا في تعبئة مختلف الحكومات وحتى منظمات المجتمع المدني في الوقوف ضد آفة تبييض الأموال . فقد أكدت العديد من الدارسات أن التهرب الجبائي ساهم مساهمة كبيرة في تردي مداخيل الدولة في السنوات الأخيرة مما نتج عنه انخرام تاريخي في المالية العمومية أمام تنامي مصاريف الدولة . وستصبح محاربة التهرب الجبائي والتهريب الهاجس الأساسي لمختلف الحكومات منذ سنة 2014 والتي سنت العديد من القوانين واتخذت التدابير من اجل إيقاف هذا الأخطبوط.
أما العامل الثالث والذي ساهم في تطوير وتعبئة الحكومات لمحاربة تبييض الأموال فيعود إلى الضغط الهام الذي قامت به المؤسسات الدولية .ولئن كانت هذه الضغوطات في السنوات الأولى للثورة ليست على درجة كبيرة من القوة فإنها بدأت تشهد صرامة كبيرة إلى درجة إدراجنا في القائمة السوداء للاتحاد الأوروبي للبلدان التي ليست جادة في هذا المجال مما دفعنا للتكثيف في جهودنا من اجل إيقاف هذه الظاهرة والحد منها .
أخذت بلادنا عديد القرارات الهامة من اجل الحد من تمويل الإرهاب وتبييض الأموال . فقمنا بإدخال ترسانة جديدة من التشريعات والقوانين والإجراءات لإيقاف هذه الظاهرة. وقد شملت هذه القرارات كذلك التقليص من التعامل النقدي. وقد صغت في هذا المجال في قانون المالية التكميلي قانونا يضع سقفا للتعامل النقدي أردته بثلاثة ألاف دينار وتم ضبطه بخمسة ألاف دينار بعد المداولات في المجلس . وكان الهدف من هذه القرارات الحد من التعامل النقدي الذي أصبح يؤرق المسؤولين والحكومات والتقليص من مخاطر غسل الأموال وتمويل الإرهاب .
إلا أن نتائج هذه السياسات وهذا التمشي بقيت محدودة ولم نتمكن من الحد من التعامل النقدي والمخاطر التي تنجر عنه مما يفسر بقاءنا في القائمة السوداء للاتحاد الأوروبي في هذا المجال.
وتشير الأرقام الرسمية إلى بقاء الكتلة النقدية في مستويات مرتفعة خلال السنوات والأشهر الأخيرة. فالأرقام الأخيرة للبنك المركزي تشير إلى أن حجم الكتلة النقدية المتداولة بلغ في 11 فيفري 2019 حوالي 12.5 مليار دينار لتتجاوز ما كانت عليه في السنة الفارطة بأكثر من مليار دينار في حين أنها لم تتجاوز 5 مليار دينار سنة 2010.وقد تشكل هذه المسألة تحديا كبيرا للمسؤولين على القطاع المالي في بلادنا وتطرح ضغطا كبيرا على القطاع البنكي والسيولة عند اغلب البنوك التي لجأت إلى البنك المركزي لتبلغ حجم التمويلات إلى حد منتصف فيفري 2019 مستوى 16.2 مليار دينار .
إذن لم تنجح السياسات المتبعة إلى اليوم في الحد من التطور الجنوني للكتلة النقدية مما ساهم في تزايد المخاوف والمخاطر أمام غسيل الأموال وتمويل الإرهاب ويبقى الحل الراديكالي والذي حاولت المؤسسات الرسمية والحكومات التغاضي عنه خلال السنوات الأخيرة تغيير الأوراق النقدية من اجل التحكم أكثر في الكتلة النقدية وتقليص المخاطر المالية . هذا المطلب ليس بالجديد في بلادنا . فقد طالب اتحاد الصناعة والتجارة بضرورة تغيير الأوراق النقدية وبصفة خاصة ورقة الخمسين دينارا المحبذة من قبل المهربين وبارونات الاقتصاد الموازي . وقد التحق الاتحاد العام التونسي للشغل بهذه المطالب ودعا الحكومة إلى تغيير الأوراق النقدية وقد ساند عديد الخبراء هذا المطلب .
إلا أن هذه المطالب قوبلت بالرفض وفي بعض الأحيان بالصمت من قبل الدوائر الرسمية دون تقديم توضيحات حول الأسباب التي تمنع من القيام بعملية بهذه الأهمية . ويبدو أن الأسباب تكمن في التخوف من نتائج وتحديات عملية تغيير العملة وتنظيمها في الظروف السياسية والاقتصادية التي تمر بها بلادنا . كما أن تجارب تغيير العملة في العالم محدودة ولا يمكننا بالتالي معرفة مخاطر وتحديات قرار بهذه الأهمية .
ولمواصلة التفكير حول هذه المسألة سنحاول في هذا المقال تقديم نتائج تجربة تغيير العملة في الهند لعلها تنيرنا في فهم التحديات والإشكاليات التي تطرحها في 8 نوفمبر 2016 وبطريقة مفاجئة أعلن الوزير الأول الهندي نارندا مودي Narenda Modi سحب ورقتي 500 روبي (ما يقابل 7.5دولار ) و1000 روبي (15 دولار) من التداول بصفة نهائية . وتمثل هذه الأوراق %86 من الأوراق المتداولة . وقد فرضت الحكومة تغيير هذه الأوراق القديمة بأوراق جديدة ولا يمكن الحصول على أكثر من 4000 روبي نقدا لتبقى البقية في حسابات بنكية .
وقد أعلنت الحكومة أن الهدف من هذه العملية الأهم والأكبر في التاريخ هو محاربة غسيل الأموال والفساد وتمويل الإرهاب .
وسنحاول في هذا المقال تقديم بعض نتائج هذه العملية معتمدين في ذلك على دراسة أعدتها وحدة البحث ببنك BIAT في ديسمبر 2018. وقد تعرضت هذه الدراسة لعديد المسائل التي صاحبت هذه العملية لتقييم نتائجها وانعكاساتها والصعوبات والتحديات التي صاحبتها .
الجانب الأول يخص الجانب اللوجستي لهذه العملية وتشير الدراسة إلى الصعوبات في توفير الأوراق النقدية الجديدة في الأيام الموالية مما خلق حالة كبيرة من الاضطراب لدى الناس لتغيير العملة القديمة التي في حوزتهم . وقد شكلت المسألة اللوجستية تحديا كبيرا خاصة في المناطق الريفية التي لا توجد بها مؤسسات بنكية مما اضطر الفلاحين الفقراء إلى قطع عشرات الكيلومترات من اجل تغيير أوراقهم النقدية.
أما من الناحية البنكية فقد ساهمت هذه العملية في تحسين السيولة عند البنوك التي عرفت تطورا بـ%4 أثناء هذه العملية لتصل إلى 60 مليار دولا ر. ويمكن تفسير هذا النمو بالتضييقات التي وضعتها الحكومة أمام سحب النقود من الحسابات البنكية .
كما كان لهذه العملية تأثير على النمو الاقتصادي. فقد نتج عن تغيير العملة انخفاض في مستوى الاستهلاك العائلي مما اثر سلبا على النمو الاقتصادي إلا أن هذا التأثير لم يكن كبيرا لتعرف الهند اكبر مستويات النمو في العالم . إلا أن هذه العملية كان لها تأثير سلبي على القطاع الموازي وعلى المؤسسات الصغرى التي تتعامل بالنقد. كما كان لهذا القرار تأثير سلبي على القطاع الفلاحي وقطاع البناء.
الجانب الآخر الذي تشير له الدراسة يهم انعكاس هذا القرار على التضخم حيث تؤكد على تراجع الأسعار بصفة خاصة للمواد الاستهلاكية.
أما في ما يخص التهرب الجبائي فإن الأرقام تشير إلى تنامي مداخيل الدولة الجبائية اثر هذه العملية . كما ساهمت هذه العملية كذلك في تنامي التغطية البنكية وفتح حسابات بنكية وصلت إلى %80 بالنسبة لشريحة الأعمار التي تتجاوز 15 سنة.
لقد أردنا من خلال تقديم التجربة الهندية فتح النقاش والحديث حول هذه المسألة لكي لا تبقى قضية تغيير الأوراق النقدية من ضمن المحظورات في النقاش العمل وفي أولويات العمل الحكومي. وفي رأيي فإن هذه التجربة إلى جانب تجارب بعض البلدان الأخرى تشير إلى ثلاث نتائج هامة وأساسية .
النتيجة الأولى تهم الصعوبات اللوجستية الكبرى التي تعترض عملية تغيير العملة على طريق واسع والتي قد تحكم عليها بالفشل إذا لم يصحبها إعداد جدي كبير.
النتيجة الثانية تخص الانعكاسات الايجابية لهذه العملية على المستوى الاقتصادي والمالي والبنكي . فقد شهدت أغلب هذه البلدان تراجعا كبيرا للقنوات الموازية للتمويل وتنامي سيولة البنوك وتراجع التهرب الجبائي والتهريب .
كما أنها ساهمت في تراجع التضخم وانعكاساتها السلبية على مستوى النمو كانت محدودة .
النتيجة الثالثة تعود إلى ضرورة إدراج عملية تغيير العملة في سلسلة كبيرة من الإصلاحات وبرنامج اقتصادي شامل ومتكامل هدفه عودة الاستثمار والنمو.
تعيش بلادنا أزمة اقتصادية كبيرة لا يمكن أن تغطيها بعض الأرقام الجزئية التي تقدمها الحكومة من وقت لآخر. هذه الأزمة تتطلب الكثير من الجرأة والشجاعة من أجل ضبط البرامج الكفيلة بإعادة الثقة في اقتصادنا من اجل عودة الاستثمار والنمو وإنجاح التحول الاقتصادي نحو نمط تنمية جديد.