ثماني سنوات هو زمن قصير وأعمار الشعوب لا تقاس بالسنين. قد يكون. لكن أنا اليوم في السبعين ولم يبق لي إلا بضع سنين.. لمّا كنت شابّا عتيّا، رجوت الثورة وسعيت قدر جهدي إليها. كنت أشتهي أن أراني مواطنا حرّا، عزيزا. له رأي ووجود..
ها قد أنجزنا ثورة وانتهينا من حكم ظالم، ظلوم. ها أنا اليوم أنتخب وأقول ما أريد. نعم، اليوم أنا مواطن حرّ. لي كيان ودستور وصندوق. لي نوّاب منتخبون وأيضا رئيس. اليوم هو يوم جديد. لكن، هل أنا اليوم سعيد؟
أمّا النوّاب والرئيس فليتني لم أنتخبهم وليتهم، جميعا، ينقرضون. هؤلاء نغّصوا عيشي. أفسدوا ما كنت أحمل من حلم ومن أمل. اليوم، خابت ظنوني. كرهت نفسي والناس وتونس من الشمال الى الجنوب. عفت ما أنتجته الثورة من ساسة سفهاء ومن رجال دين منافقين. كلّهم فسّاد. جرّتهم نحس وفعلهم متعوس.
كرهت الانتخابات وحرّيّة التعبير والصندوق. أنا اليوم أحيا في غصّة وضيق. انسدّ أفقي. شدّني يأس. قريبا ينتهي العمر ولم أر الصبح ولا النور يضيء. أنا في همّ وهؤلاء ساسة عجّز منافقون وهؤلاء أيمّة يقيمون الصلاة وينفثون في الأرض قولا مسموما...
بقيت حرّيّة التعبير. الكلّ من حولي يمارس، كما شاء، حرّيّة التعبير. كلّ يقول ما ارتأى وما اشتهى دون رقيب. كثر الصياح في البلاد. عمّ الصخب. علا في الأرض الضجيج. ساء الفهم وفسد التدبير. كثر الهمز واللمز. هذا نفاق. هذه عصبيّة. هذا جنون...
* * *
يغيظني ما يأتيه الأيمّة فوق المنابر من جهالة وما يقولونه من مكر ومن زور. رجال الدين عنديّ هم البليّة. في ما مضى وفي ما نرى، هم عين المطبّات وشرّ المصائب فينا. بالأمس، ساندوا الظالمين وعارضوا كلّ حركة وكلّ نفس جديد. اليوم، ها هم يقودون حربا على كلّ حداثة وتجديد. ها هم يطلقون سهام ألسنتهم لبثّ فكر ميّت، مكبوت. فوق المنابر، هم أيمّة شياطين، ثعابين...
أفشل الأيمّة الثورة. أفسدوا النظر. قتلوا العقل وأجّجوا التحجّر والعصبيّة. بما تمكّنوا من حرّيّة التعبير، ها هم يقولون في الناس قولا خبيثا. باسم حرّيّة التعبير، يبثّون الفتن. يفسدون العيش المشترك. يثيرون النعرات بين المؤمنين.
هل لهؤلاء الحقّ في الكلام، في حرّيّة التعبير؟ هل للجهلة والظالمين والعنصريين... الحقّ في التعبير؟ الكلام فعل. القول البليغ سلاح ثقيل. في قول رجال الدين خطر مبين.
من هم رجال الدين؟ هم بشر ناقصو عقل يقولون ما يحملون من يقينيّات الدين. ما الدين؟ الدين، في ما أرى، هو حرام وحلال وحدود. هو خطاب قديم يضبط ما يجوز وما لا يجوز... أنا أسأل: كيف للإنسان أن يكون وفكره مغلول؟ كيف له أن يحيا في ظلّ نهي وأمر وحدود؟ الحياة صراع مع الوجود. لتحيا يجب استنباط الحلول. في ما أرى، الدين نهي وتكبيل... أحبّ القرآن. يعجبني ما فيه من صور ومن جمل وتركيب. لكن، أخشى الدين وأكره، من كلّ قلبي، رجال الدين...
* * *
لأنّك تكره رجال الدين، أراك تسعى لمنعهم من الخطاب ومن التبليغ؟ لا يا سي شيحة. نظرك ناقص وقولك مردود. عليك أن تعلم أنّ لكلّ الحقّ في التعبير. للأيمّة أن يقولوا ما شاؤوا من القول. أنت لست عليهم بمسيطر ولا أنت، على الناس، وكيل. الحرّيّة ليست هبة بل هي حقّ للناس أجمعين..
صحيح. قولك صواب. رأيي خطأ. أعتذر عن قولي الرديء. يجب أن يتمتّع الأيمّة واليساريون وأهل اليمين والمثليّون واليهود... بحرّيّة التعبير. لكلّ الناس الحقّ في حرّيّة التعبير بشرط وحيد: أن يمشي التعبير في صراط القانون. كلّ تجاوز للقانون يجب أن يحاسب ويردع. كلّ من أتى مثقال ذرّة خيرا أو شرّا يره. فلا رحمة ولا شفقة للخارقين ولا جدال مع المارقين.
أمّا الذين يخالفون القانون باسم الشرع وتحت راية الدين فهؤلاء ظالمون وعليهم يجب تطبيق القانون... ما نسمعه في المساجد وفوق المنابر، فيه، أحيانا كثيرة، ثلب وسبّ وتحريض. ما تأتيه بعض الجمعيّات الخيريّة و«أكواخ» التعليم وسقط الكتاتيب فيه إفساد للنشء وتزوير... حماية لحرّيّة التعبير، على الدولة أن تردع الخارقين هؤلاء وأن تعاقب، حسب القانون، كلّ تجاوز للقانون.