الاجتماعية التي يعرفها العالم ؟ هل ستتراجع الحكومات عن السياسات الجبائية الليبرالية لتعود إلى سياسات أكثر صرامة وأكثر شدة ؟
كل المؤشرات والمعطيات تشير إلى أننا على أهبة الدخول في مرحلة من التغييرات الجذرية في المجال الجبائي خلال الأشهر والسنوات القادمة. ففي أوروبا أصبحت المسألة الجبائية والسياسات الجبائية وخاصة تساهلها مع الأثرياء وأصحاب المداخيل الكبرى في جوهر النقاش العام والنقد الموجه للنظام الديمقراطي . ففي فرنسا مثلا طرحت انتفاضة أصحاب السترات الصفراء قضية الجباية والعدالة بين المواطنين في هذا المجال وجعلت من إلغاء قرار الرئيس ماكرون في إنهاء الجباية على الثروة (impôt sur la fortune) في ديسمبر 2017 من أهم مطالبها.
نجد نفس هذا التوجه والاهتمام بالمسائل الجبائية في الولايات المتحدة الأمريكية . فقد بدأ المرشحون إلى ترشيح الحزب الديمقراطي للانتخابات الرئاسية القادمة يعلنون عن أنفسهم ويؤكد اغلبهم على أن المسألة الجبائية ستكون في أولى اهتماماتهم ويشير اغلبهم إلى عزمهم على الترفيع بصفة كبيرة في الضرائب على الأثرياء وأصحاب المداخيل العليا .
تشير هذه النقاشات والتدخلات أننا على مشارف ثورة جبائية كبيرة ستنهي السياسة الجبائية الليبرالية التي سادت في اغلب بلدان العالم منذ نهاية السبعينات وتزامنت الثورة المضادة النيوليبرالية التي عرفها العالم في بداية الثمانينات مع قدوم وانتصار مارغريت تاتشر في انقلترا ورونالدريغان في الولايات المتحدة الأمريكية وهزيمة الاشتراكية الديمقراطية وتراجع أفكارها وسياساتها .
في هذه الظروف وقع إتباع سياسات جبائية جديدة منذ بداية الثمانينات وعملت أساسا على التخفيض من الضغط الجبائي المطبق على المداخيل العليا والتي كانت من أهم سياسات دولة الرفاه (Etat-providence) وأدواتها لإرساء العدالة الاجتماعية . وقد اعتمدت هذه الثورة الجبائية على أراء الاقتصادي الأمريكي الليبرالي آرتير لافار (Arthur Laffer) والذي كان المستشار الاقتصادي للرئيس الأمريكي رونالد ريغان . ولم يقتصر تأثير لافار في الميدان الجبائي على الولايات المتحدة الأمريكية بل امتد إلى اغلب بلدان العالم لتصبح نظريات المرجع الفكري الأساسي للسياسات الجبائية النيوليبرالية . وقد عرفت سياساته بجملة شهيرة أصبح يرددها كل المدافعين عن هذه السياسات وهي «trop d’impôt tue l’impôt» أو «الترفيع في الجباية يقتل الجباية».
وقد قام لافار بالعديد من الدراسات والبحوث اثبت فيها أن الترفيع في الضرائب سيساهم في مرحلة في الترفيع في مداخيل الدولة . إلا أن المواصلة في هذه السياسة والترفيع المشط في الضرائب ستكون نتائجه تراجع مداخيل الدولة باعتبار أن الفاعلين الاقتصاديين سيحاولون التهرب من هذه الجباية المشطة وفي بعض الأحيان حتى إيقاف نشاطهم . وقد قام لافار بإعداد رسم توضيحي لأفكاره يعرفه اليوم كل طلبة الاقتصاد في العالم مما ساهم في التعريف والترويج لأفكاره وآرائه .
وستكون هذه الأفكار والنظريات وراء ثورة جبائية نيوليبرالية في اغلب بلدان العالم ليقع التخفيض بطريقة كبيرة في الضرائب على المداخيل العليا وعلى الضرائب عند الميراث . ولن تقف هذه السياسات الجبائية عند نفس الاختيارات والتوجهات ليصبح التقليص في الأداء وبصفة خاصة على الطبقات العليا شعار المرحلة وأساس الجباية في العالم .
إلا أن هذه السياسات الجبائية النيوليبرالية ستشهد تصاعد النقد حولها في السنوات الأخيرة لتصبح محل تساؤل وجدل . ويمكن لنا أن نشير إلى ثلاثة أسباب أساسية للنقد الموجه لهذه السياسات الجبائية النيوليبرالية .
السبب الأول يكمن في رأيي في تصاعد عجز المالية العمومية في اغلب بلدان العالم والتطور الكبير الذي عرفته المديونية العمومية والتي أصبحت مصدر مخاطرة كبيرة في أكثر الاقتصاديات العالمية وتنذر بأزمة اقتصادية كبيرة على المستوى العالمي . وهذه الأزمة المالية وهذا العجز هو نتيجة تراجع مداخيل الدول من جراء السياسات الليبرالية في الميدان الجبائي والتخفيض في الضرائب المطبقة على الأثرياء وأصحاب المداخيل العليا . وفي نفس الوقت وبالرغم من السياسات التقشفية الكبرى فإن الدول لم تتمكن من التخفيض بطريقة كبيرة في مصاريفها مما نتج عنه انخرام كبير في توازناتها المالية . وستصبح هذه المسألة وتزايد عجز الميزانيات العمومية وارتفاع مديونية الدول الهاجس الأساسي للسياسات الاقتصادية بصفة خاصة اثر الأزمة المالية العالمية لسنوات 2008 و2009. ومنذ ذلك الوقت ستصبح محاربة هذا العجز احد الاهتمامات الكبرى لأغلب الدول والمؤسسات المالية العالمية ولتصبح كذلك محاربة التهرب الجبائي إحدى الأدوات الأساسية لهذه السياسة ولنمر في مرحلة التقليص في الجباية المحلية للأستاذ لافار إلى الترفيع منها ودعمها.
الهاجس الثاني والذي لعب دورا كبيرا في تراجع وانحسار تأثير السياسات النيوليبرالية في الميدان الجبائي يعود إلى تصاعد الفوراق الاجتماعية في السنوات الأخيرة والتي أصبحت مصدر انزعاج وقلق وتراجع للثقة في الأنظمة الديمقراطية في اغلب بلدان العالم . ورجحت القراءات والتحاليل أن السياسات الجبائية النيوليبرالية ساهمت في تنامي هذه الفوارق الاجتماعية وتطور الإحساس بتراجع العدالة الاجتماعية . وقد دفعت هذه المسائل العديد من الحكومات والمسؤولين السياسيين إلى إعادة النظر في هذه السياسات الجبائية النيوليبرالية والتراجع عن مقوماتها الفكرية والنظرية .
الهاجس الثالث والذي يفسر تزايد النقد الموجه لهذه السياسات يعود إلى تزايد ضغط مؤسسات المجتمع من اجل إيقاف والتصدي بكل جدية للتهرب الجبائي .
كل هذه الانتقادات والمراجعات ستكون وراء ظهور بوادر تغيير هام إن لم نقل ثورة جبائية في الأفق .وقد بدأنا نرى بوادر هذه الثورة في عديد البلدان الأوروبية وبصفة خاصة في فرنسا اثر انتفاضة أصحاب السترات الصفراء .
وبالرغم من الخطوات الهامة التي قام بها الرئيس ماكرون وحكومته والتنازلات الهامة للرد على مطالب هذه الانتفاضة فإن أصحاب السترات الصفراء جعلوا من عودة الضريبة على الثروة أو Impôt sur la fortune والعدالة الجبائية احد مطالبهم الأساسية . ولئن يرفض الرئيس ماكرون إلى اليوم التراجع عن هذا القرار والذي كان من أهم وعوده الانتخابية فقد بدأت الحكومة الفرنسية في دراسة عديد المقترحات لإدخال بعض التعديلات على الضريبة على أصحاب المداخيل العليا على مستوى الضرائب على الثروة وعلى الوراثة .
وهذا التمشي لا يقتصر على أوروبا وفرنسا بل نجد صداه كذلك في الولايات المتحدة الأمريكية. وهنا لابد من الإشارة إلى أن الضريبة على الثروة وصلت إلى %94 سنة 1944 في عهد الرئيس روزفلت ولئن انخفضت بعدها فإنها لم تنزل تحت %70 إلى حدود الثورة النيوليبرالية في بداية الثمانينات والتي خفضت هذه الضرائب بطريقة كبيرة جدا . وأصبحت العدالة الجبائية والترفيع في الضرائب على المداخيل الأعلى احدى أهم الأولويات في برامج المترشحين للانتخابات الرئاسية القادمة عن الحزب الديمقراطي. فبرني ساندرس Bernie sanders والذي هزمته هيلاري كلينتون بصعوبة في الانتخابات الأولية للحزب الديمقراطي قدم بعض المقترحات والتي طالب فيها بتطبيق ضريبة بـ%45 على الإرث الذي يتجاوز 3.5 مليون دولار و%77 على الذي يتجاوز المليار دولار . وهذه المقترحات ليست بالاعتباطية باعتبار أن مقترح ساندرس يعود إلى المستويات التي كانت تعمل بها الإدارة الأمريكية إلى حد سنة 1976. ويشير ساندرس إلى المداخيل التي ستجنيها الإدارة الأمريكية نتيجة الضرائب لوراثة جاف بوزس Jeff Bezos صاحب شركة أمازون Amazon والرجل الاغنى في العالم يمكن أن تتجاوز 100 مليار دولار تصل هذه المداخيل إلى 2200 مليار دولار كضرائب على وراثة 500 ملياردار أمريكي . ومن جهتها فإن المرشحة الديمقراطية للانتخابات الرئاسية ايليزابات وارن Elizabeth Warren وعضوة مجلس الشيوخ عن ولاية الماساسوتش Massachusets قدمت مقترحات بإيجاد ضريبة على الثروة %20 على 75.000 عائلة أمريكية تقدر ثروتها بـ50 مليون دولار وبـ%30 على الذين تتجاوز ثرواتهم المليار دولار . وحسب بعض الإحصائيات الأولية فإن هذا المقترح سيوفر 275 مليار دولار سنويا للخزينة الأمريكية وهو ما يمثل ربع العجز الأمريكي للمالية العمومية .
ومن جهتها قالت المرشحة الجديدة الشابة الكسندريا اوكازيو كورتار Alexandria ocasio-cortez والملقبة بـAOC بنت التاسعة والعشرين والحاملة لأحلام الشباب في ترشيحات الشباب في الحزب الديمقراطي أنها ستقوم بسن ضريبة بـ%70 على 16.000 أمريكي تتجاوز مداخليهم 10 مليون دولار سنويا . وقد لقيت مقترحات AOC الكثير من النقد واعتبرها الكثير من المنتقدين وخاصة من جانب اليمين الليبرالي بأنها لا تفقه شيئا في الاقتصاد إلا أنها لقيت دعما كبيرا من قبل بول كروقمان Paul Krugman أستاذ الاقتصاد والحاصل على جائزة نوبل في احد مقالاته في تايمز نيويورك والذي اعتبر أن %73 هي النسبة التي يجب تطبيقها على المداخيل المرتفعة .
تشير كل هذه المعطيات والتطورات أننا على أبواب الدخول في تغيير جذري في السياسات الجبائية وأن العالم على أهبة الدخول في ثورة جبائية يمكن أن تقطع بطريقة راديكالية مع السياسات السائدة منذ انتصار النيوليبرالية في بداية الثمانينات مع ريغان و تاتشر. ولا يمكن لنا أن نفهم هذه التطورات في السياسة الجبائية خارج التطورات والتغييرات الكبرى التي يعرفها العالم على المستوى السياسي والتي جعلت من العدالة الاجتماعية والمساواة بين الطبقات الاجتماعية مطلبا ملحا وأساسيا لإعادة بناء النظام الديمقراطي ومؤسساته .