قهوة الأحد: العولمة 4.0 وعود عالـم متردد

اختتم ملتقى دافوس في الجبال السويسرية منذ أيام أشغاله والتي امتدت من 22 إلى 25 جانفي 2019 بحضور أكثر من 3000 مشارك من

بين أهم القادة السياسيين والاقتصاديين في العالم . وقد انتظم الاجتماع هذه السنة في ظروف عالمية تتميز بالتخوف والريبة أمام التحولات الكبرى التي يشهدها العالم وعدم الاستقرار والتقلبات الكبرى. فعلى المستوى الاقتصادي وبعد الآمال المعلقة عليه في بداية السنة الفائتة ، بدا النمو العالمي في التراجع ليعود إلى المستويات الضعيفة التي اعتاد عليها منذ سنوات ليعجز عن الوصول إلى المستويات التي عرفها قبل الأزمة الاقتصادية العالمية لسنوات 2008 و2009 . وقد زادت طبول الحرب التجارية المعلنة بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين من التشاؤم حول مستقبل الاقتصاد العالمي .
ولم تقتصر هذه التخوفات على المستوى الاقتصادي بل امتدت إلى الجانب السياسي مع تصاعد الحركات الاحتجاجية وبصفة خاصة الحركات الشعبوية والتي أصبحت تهدد الأنظمة الديمقراطية وتفتح العالم على المجهول .

كل هذه التطورات والمخاوف أعطت لاجتماع دافوس هذه السنة أهمية خاصة . فقد نجح هذا الاجتماع في أن يصبح على مدى ثلاثة أيام المكان الذي تختلج فيه ويطرح فيه قادة العالم تصوراتهم ومخاوفهم وأحلامهم وآمالهم . وأهمية اجتماع هذه السنة تكمن كذلك في الموضوع الذي تم اختياره وهو العولمة 4.0 : من اجل بناء نظام عالمي جديد في فترة الثورة الصناعية الرابعة.

وهذه ليست المرة الأولى التي يتم فيها طرح موضوع العولمة 4.0 فقد تناول العديد من الخبراء هذا الموضوع لفهم التحولات الكبرى التي يشهدها العالم منذ سنوات والآمال والمخاوف التي تحملها . وكان ملتقى دافوس فرصة ليخرج هذا الموضوع من المجال الضيق للخبراء والباحثين إلى نطاق النقاش العام .
وقبل الخوض في العولمة 4.0 والتحديات التي تطرحها على العالم سنعدو بسرعة إلى الأشكال الأولى التي عرفتها العولمة . وتشير العديد من الدراسات التاريخية أن هذه الظاهرة ليست بالجديدة بل تعود إلى مراحل غابرة في التاريخ . ولعل أول مظاهرها تعود إلى طريق الحرير في القرن الأول وظهور المبادلات التجارية في تلك الفترة بين الإمبراطورية الصينية والقارة الأوروبية وبصفة خاصة الإمبراطورية الرومانية . ومع هذه المبادلات وتصدير السلع والمواد الفخمة كالحرير ستتجاوز التجارة الإطار الضيق والمحلي لتصبح ظاهر عالمية . وسيتواصل هذا الشكل الأول لظاهرة العولمة إلى حد القرن الخامس ليشهد تراجعا كبيرا مع بداية تراجع ثم سقوط الإمبراطوريتين الصينية والرومانية واللتين ضمنتا الأمن على هذه الطريق .

إلا أن هذه المبادلات لم تكن بالأهمية التي نعرفها اليوم وبقيت محدودة في بعض السلع وتقتصر على المواد والسلع الفخمة المتجهة أساسا للقصور وبلاط الملوك والعائلات الارستقراطية .

ولم تنته العولمة مع سقوط طريق الحرير وتراجع التجارة بين الشرق والغرب بعد سقوط الإمبراطوريتين الصينية والهندية فستشهد المبادلات التجارية العالمية انتعاشة جديدة مع ظهور طريق التوابل بين القرن السابع والقرن الخامس عشر مع الإمبراطورية الإسلامية . وستعرف التوابل طلبا كبيرا في هذه الفترة لتشهد أسعارها ارتفاعا هاما. وستشكل بالتالي ولقرون طويلة أساس التجارة الدولية بين الشرق والغرب والتي سيسيطر عليها التجار المسلمون في البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي لتساهم لعقود طويلة في قوة ورفاهة وهيمنة الإمبراطورية الإسلامية . إلا أن هذه المبادلات لم تكن بالأهمية التي نعرفها اليوم لتبقى هذه العولمة وطريق التوابل محدودة .

إلى جانب هذين التجربتين من العولمة القديمة لابد من الإشارة إلى فترة الاكتشافات الكبرى بين القرنين الخامس عشر والثامن عشر والتي ستعرف صعود الدول الأوروبية . وستعرف هذه الفترة ظهور الرحالة الكبار مثل كريستوف كولمب وماجلان والذين سيساهمون في فك عزلة القارة الأوروبية . وستتجه قوافل الرحالة الأوروبيين نحو الشرق للبحث عن التوابل والذهب . إلا أن هذه المرحلة من العولمة على أهميتها تبقى محدودة مقارنة بما نعرفه اليوم .

ظهرت التجارة الدولية والعولمة منذ القدم وليست وليدة النظام الرأسمالي. إلا أن الأشكال الأولى للعولمة ظلت محدودة ولم تساهم بطريقة فعالة في بناء العالم وتطور النظام الاقتصادي العالمي . وستنطلق الأشكال الجديدة للعولمة مع بداية الثورة الصناعية وانتصار النظام الرأسمالي العالمي . وسيكون الشكل الأول للعولمة أو ما نسميه اليوم بالعولمة 1.0 مع الثورة الصناعية في بريطانيا العظمى وستمتد من بداية القرن التاسع عشر إلى الحرب العالمية الأولى . وستعرف هذه الفترة تحولات كبرى وثورة صناعية هامة ستساعد في تطوير المبادلات التجارية العالمية بمستوى لم نعرفه في السابق . وستتزامن هذه الفترة مع الهيمنة البريطانية على العالم وسيطرتها عليه . وستعرف هذه الفترة ظهور عديد الاكتشافات كالآلات الكهربائية وتطور مصادر جديدة للطاقة كالفحم وظهور واستعمال الحديد والصلب كما سيلعب المحرك البخاري دورا أساسيا في تنمية الإنتاجية والإنتاج في الميدان الصناعي والفلاحي. كما ستساعد وسائل النقل الجديدة كالسيارات والقطار والطائرة في تقليص المسافات وتطور التبادل التجاري بين القارات .

ستعرف العولمة في هذه الفترة تطورا كبيرا . وسيساهم عاملان أساسيان في هذا التطور وهما تطور الإنتاجية والتي ستساهم في تطور الإنتاج وظهور فائض الإنتاج على الطلب الداخلي للبلدان الرأسمالية وتحسن وسائل النقل . وستعرف التجارة الدولية نموا سنويا بـ%3 خلال القرن التاسع عشر . كما ستتطور نسبة التجارة الدولية من %6 من الناتج القومي الخام في بداية القرن التاسع عشر إلى %14 قبل الحرب العالمية الأولى .

عرفت العولمة 1.0 تطورا كبيرا خلال هذه الفترة وساهمت في نمو النظام الرأسمالي وثراء البلدان الصناعية وخاصة بريطانيا العظمى وأوروبا التي ستمثل %47 من الإنتاج العالمي .

إلا أن هذه العولمة ستعرف صعود المطامع الاستعمارية ونهب ثروات البلدان النامية وتهميشها لتكون أسواقا للمنتجات الأوروبية ومصدرا للمواد الأولية .

وستنتهي هذه الفترة الأولى للعولمة مع الحربين العالميتين الأولى والثانية . واثر الحرب العالمية الثانية ستبرز العولمة 2.0 وهي الشكل الجديد للعلاقات الدولية مع تراجع البلدان الأوروبية وتصاعد الهيمنة الأمريكية على العالم لتشكل القوة السياسية والاقتصادية الجديدة .

وستتميز هذه المرحلة الجديدة من العولمة ببناء المؤسسات التي ستشرف على إدارتها وتنظيمها ومن ضمنها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والأمم المتحدة ومنظمة التجارة العالمية ومنظمة العمل الدولية وغيرها من المؤسسات الأخرى .

وستعرف هذه المرحلة الجديدة تصاعد أزماتها منذ بداية السبعينات مع تراجع الولايات المتحدة الأمريكية وتصاعد البلدان الأسيوية خاصة اليابان الذي سيبدأ في منافسة القوى الاقتصادية الأخرى .

أما المرحلة الثالثة في تاريخ العولمة أو العولمة 3.0 فستبدأ منذ منتصف السبعينات لتشهد ذروتها في تسعينات القرن الماضي ولئن كانت التجارة في صلب المرحلتين الأوليين فإن الإنتاج وبصفة خاصة الصناعة ستكون في قلب هذه المرحلة الجديدة من خلال تحويل المؤسسات الصناعية وتقسيم العمل بينها على مستوى عالمي . وقد خلقت هذه العولمة تقسيما جديدا على المستوى العالمي حيث سترتكز قطاعات البحث والابتكار الصناعي في البلدان المتقدمة بينما سترحل القطاعات التركيبية ذات الكثافة العمالية العالية في البلدان النامية كما ستعرف هذه المرحلة تصاعد العولمة في القطاعات العالمية والبنكية.
إلا أن هذه العولمة ستعرف أزمة كبيرة في سنوات 2008 و2009 والتي كادت أن تقضي على النظام الرأسمالي العالمي .

كل هذه التحولات ستقود إلى المرحلة الأخيرة من العولمة وهي العولمة 4.0 وهذه العولمة هي نتاج للثورة الصناعية الرابعة والثورة التكنولوجية التي يعرفها العالم والتي ستجعل من الذكاء الاصطناعي ومن الرقمنة أساس المجتمعات الحديثة .

وإن كانت التجارة الدولية هي محرك العولمة 1.0 و2.0 والإنتاج والصناعة قاعدة العولمة 3.0 فإن قطاع الخدمات سيكون أساس المرحلة الجديدة للعولمة .

وقد بدأت العولمة 4.0 في إدخال تغييرات جذرية على اغلب مجالات الحياة كالصحة والنقل والإنتاج والتوزيع والطاقة وغيرها من الميادين الأخرى .

ولئن ساهمت هذه العولمة في فتح آفاق جديدة للإنسانية وتجاوز بعض الصعوبات والأزمات فإنها ولدت الكثير من المخاوف والقلق على مصير العالم من جراء التهديدات الجديدة . ومن ضمن هذه المواقف يمكن أن نشير إلى ازدياد وتنامي الفوارق الاجتماعية وتقلص العدالة الاجتماعية مما ساهم في نمو مخزون الغضب والسخط الاجتماعي عند العديد من الفئات الاجتماعية المهمشة .

كما نتج عن هذه العولمة الجديدة تنامي المخاطر المحيطة بالمناخ مع ازدياد معدلات الانحباس الحراري وعدم قدرة المنظومة الدولية على إيجاد الحلول الملائمة لها . كما أثارت العولمة 4.0 الكثير من المخاوف مرتبطة بملكية والتصرف في المعطيات الشخصية وضرورة حمايتها من تلاعب المؤسسات الكبرى .

في النهاية ولئن قدمت العولمة الجديدة والثورة التكنولوجية الجديدة الكثير من الوعود الايجابية فإنها فسحت المجال للكثير من المخاوف وحتى من السخط والرفض أمام انعكاساتها السلبية والتي كانت وراء صعود الحركات الاحتجاجية والشعبوية وتراجع الثقة في الأنظمة الديمقراطية . وهذه المخاطر تتطلب حلولا جديدة وعقدا اجتماعيا يجعل من الاندماج الاجتماعي والعدالة والتنمية المستديمة والتعاون أسس العولمة الجديدة .

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115