محشوّا أرقاما وأشكالا وتحاليل. ضم التقرير 564 صفحة. هذا تقرير ثقيل والتقارير الثقيلة لا تقرأ. تبقى فوق الرفوف. لماذا نحن نعشق الإفراط في الكلام؟
في الجامعة التونسيّة، أطروحة الدكتوراه، يجب أن تتجاوز ال350 صفحة. دون ذلك، يعتبر بعض الأساتذة أن الموضوع لم يستوف حقّه وعلى الباحث الزيادة في التحرير. في كندا وغيرها، تضم الأطروحة الجيّدة بعض المقالات المنشورة ولن تتجاوز ال50 صفحة... أعود الى الموضوع.
ماذا وجدت في التقرير؟ أولا، شدّ انتباهي القفزة الماليّة التي حقّقتها الهيئة منذ تولّي السيد شوقي الطبيب رئاستها في 2016. منذئذ، كبرت الهيئة. أصبحت هيئة معتبرة. مرّت ميزانيّة الهيئة من 312 ألف دينار سنة 2015 الى 5248 ألف دينار سنة 2017، أي بزيادة 17 مرّة. حسب علمي، لم تحصل زيادة مماثلة أبدا. مع توفّر المال، ازدادت أعداد العاملين. في
سنة 2016، كانوا 85 فردا. في سنة 2017 ، أصبحوا: 147 نسمة. كبرت الهيئة هيكليّا أيضا. ها هي اليوم في مقرّ فخم في مكان فخم، في بناية بلّوّريّة قبالة بحيرة تونس. كانت في مقرّ لها وحيد. ها هي تكبر. تفرّخ. لها اليوم سبع مكاتب محلّيّة في سبع جهات. في المستقبل القريب، هناك المزيد... لمقاومة الفساد، يجب المزيد.
تذكّرت. أيّام بن عليّ، طلعت يوما موضة «الموفّق العائلي». بعد النظر وبدعم من سيادته، قرّرت رئيسة الهيئة أن تفتح مكاتب للموفّق العائليّ في كلّ ولاية. حيث كان الأزواج يجب فتح مقرّات يتولّى فيها الموفّق رتق الخلافات الزوجيّة وبذل الجهد للحفاظ على سلامة العائلة والعائلة أساس المجتمع...
أعود الى الموضوع. هذا الدفع بالماليّة وبأعداد العاملين مردّه، حسب ما جاء في التقرير، «لأنّ حجم الفساد (في تونس) قد تفاقم وتمدّد ومنظومة الفساد قد توسّعت (وحصل) ارتفاع في حجم الاعتداء على المال العامّ». ولأنّ مكافحة الفساد هي اليوم «أولويّة قصوى»، فإنّ الهيئة مدعوّة الى تكثيف الجهد «لمقاومة الفساد» و»إرساء أسس الحوكمة الرشيدة»... نفس التمشّي نلقاه عند كلّ وزارة. كلّها تدّعي أنّ مهامّها مفصليّة يجب إيلاء الوزارة مكانة خاصّة ويجب مدّها بالأدوات وبمزيد من المال... الى غير ذلك من اللغو. لكنّ هذا الكلام اللغو، يعيده أصحابه مرّات عدّة فينتهي بهم الظنّ ويعتقدون أنّ مهامّهم كبرى وأنّهم يشدّون السماء حتّى لا تقع...
* * *
ماذا فعلت الهيئة للحفاظ على المال العامّ؟ لن أتناول بالتعليق على ما جاء في المائة صفحة الأولى من إنشاء. ففي هذه تذكير بالتواريخ وببعض الأرقام ثم تلخيص لما كتبته التقارير الرقابيّة الأخرى. سوف أكتفي بالنظر في عمل الهيئة وكيف هي اجتهدت لدرء الفساد. في صفحة 81 وما يليها، كتبت الهيئة أنّها أحالت 245 ملفّا على أنظار القضاء وأنّها أرست عدّة «جزر نزاهة» والمقصود هو اختيار نماذج للحوكمة وكانت أول «جزيرة نزاهة» في ديوانة حلق الوادي. هل انتهت حلق الوادي اليوم من كلّ فساد؟ هل يكفي أن يقام معرض وتحسيس بيوم حتّى ينقلب الفساد استقامة؟ كما عملت الهيئة على دعم الجمعيّات الناشطة في مجال الحوكمة (ص.84) بل وتولّت ضخّ مبالغ ماليّة لفائدة 56 جمعيّة بمبالغ تقدّر بين 10 و25 ألف دينار لكلّ واحدة. وبعدها، يقول التقرير إنّ الهيئة عملت على إبرام اتفاقيّات شراكة مع الوزارات والبلديّات والتلفزة وهواة السينما بالكاف ومع هالة عمّوص (؟) وغيرها كثير. اتفاقيّات لنشر ثقافة الحوكمة ولمقاومة الفساد... لا أدري كيف لجمعيّة هواة السينما بالكاف أو جمعيّة كشفيّة... أن تساهم في إرساء الحوكمة والشفافيّة؟
في آخر جزء من التقرير وفي أكثر من 170 صفحة، جاءت الصور. صور الاتفاقيّات المبرمة ولرئيس الهيئة وهو ينال الجوائز أو يترأس الندوات...
* * *
الباب الثالث وعنوانه: «أعمال البحث والتقصّي عن ملفّات الفساد» هو قلب التقرير، في ما أظنّ. فيه ضمّنت الهيئة ما أتت من سعي لتحقيق ما كان لها من مهمّة. في نحو 29 صفحة (من ص133 الى ص 162)، جمعت الهيئة 245 ملفا تمّ إحالتها على القضاء. نظرت في هذه وقد جاءت مقتضبة. أغلب الملفّات المحالة تتعلّق بسرقات أو باستغلال نفوذ. جلّ الملفّات تعيد شبهات فساد صغير. لا تغني ولا تسمن... أعطي بعض الأمثلة. في ملف عدد 3 «شبهة فساد إداري ومالي بالمدرسة الابتدائية ببشّاطر بنزرت». ملف رقم 35 «شبهة فساد مالي وإداري بشركة خاصة». ملف عدد42 «شبهة فساد بالقباضة المالية بالقصرين» ملفّ عدد112 «الاعتداء على سيّارة رئيس الهيئة». عدد131 «ارتشاء عون حرس» وغيرها من شبهات الفساد في البلديّات ولدى أعوان الغابات أو هي سرقة لمعدّات بناء جامع... أمّا الملفّات من 53 الى 78 وفي عديد الأماكن الأخرى فهي تحمل عنوان: «نشر تدوينات ومقالات مسيئة للهيئة ولرئيسها». بالإضافة الى خروقات نقرأها في الجرائد وفي باب صدى المحاكم...
تجاه كلّ ملفّ، تقول الهيئة إنّها أحالته الى المحاكم الابتدائية دون أن تبيّن ما حصل. هل تمّ ضبط المفسدين؟ هل استرجع المال العام؟ لا شيء في التقرير. في المقابل، أطنب التقرير في ما كان من تبعات للإحالات المرفوعة تحت عنوان «نشر تدوينات ومقالات مسيئة للهيئة ولرئيسها». بعد التذكير بما أتته جريدة «ثورة نيوز» وصاحبها من أخبار «زائفة»، يقول التقرير تجاه: «السير غير العاديّ لخطّ هذه القضايا أمام المحاكم، راسلت الهيئة في مناسبتين كلا من وزير العدل والهيئة الوقتية للقضاء العدلي والمجلس الاعلى للقضاء وأحاطتهم علما بما لا يدع مجالا للشك على تواطؤ قضاء محاكم سوسة مع الشخص المذكور» (ص.192)...
نحو 90 قضيّة من جملة 245 أحالتها الهيئة على القضاء تحت عنوان: «نشر تدوينات ومقالات مسيئة للهيئة ولرئيسها». ثلث الملفّات لسنة 2017 تتعلّق بجريدة «الثورة نيوز». رغم عشرات القضايا، لم تقدر الهيئة على وقف «الفساد». في محاكم سوسة، حسب التقرير، هناك تواطؤ للقضاء مع صاحب الجريدة وهو ما حال دون تحقيق الغاية رغم الجهد وما كان من إنفاق من المال العموميّ...
* * *
أختم بملاحظتين. الأولى في علاقة بما آلت اليه الأمور مع «ثورة نيوز». في ما أرى، فشلت الهيئة في مكافحة الفساد لأنّ القضاء في سوسة لا يمشي في الخطّ السليم. هل تعني الهيئة أنّ في القضاء فسادا؟ إن هو الحال، على الهيئة أن تبذل قصارى الجهد لتخليص القضاء من المفسدين... كيف السبيل الى مكافحة الفساد والفساد في الجسم ضارب؟ كيف الإصلاح وأدوات الاصلاح، في ما تقول الهيئة، متواطئة؟
الملاحظة الثانيّة في علاقة بتلك الشبهات الكثيرة حول سرقات أتاها هنا وهناك بعض صغار الموظّفين. صحيح، هذا فساد ويجب زجره. ولكن، في ما أرى، لا ترتقي هذه الى ما كنت أحسب. هي شبهات سرقات هامشيّة لأعوان صغار في بلديّة، في قباضة، في مستوصف.... هل من دور الهيئة أن تتلهّى بمثل هذه التوافه؟ هل هذا هو الفساد المنشود؟ مقاومة الفساد والتأسيس لحوكمة رشيدة لن يكون بمكافحة هذه الحالات الدنيا وهي من منظور الحرس والبوليس. أمّا الهيئة الوطنيّة لمكافحة الفساد فدورها أهمّ وعليها مواجهة الفساد الكبير. في عقره. عقر الفساد الكبير، كما نعلم، هو ذاك الذي نلقاه في الحكم، في القضاء، في الأحزاب السياسيّة، في الصفقات العموميّة، في تبييض الأموال، في التهريب، في الارهاب، في الثروات المنشأة، في الأوساط الرياضيّة. في كلّ مكان فيه المال يتدفّق... أمّا سوى ذلك فالجهد فيه هباء. هو ذرّ للرماد على العيون.
(يتبع)