السودان: يمكن الركوع أمام إرادة الشعب ، أيضا

بقلم: مسعود الرمضاني
في تجمع أمام انصاره في ولاية الجزيرة في اواخر ديسمبر 2018، قال الرئيس السوداني عمر البشير ،

الموجود على رأس السلطة منذ انقلاب سنة 1989 والصادر في حقه أمر بالاعتقال من قبل المحكمة الجنائية الدولية ، «لن نركع لغير الله» ،متهما المتظاهرين بأنهم «خونة ومرتزقة ومندسين» ، لكن تواصل الاحتجاجات واتساع رقعتها قد يجعله يغيّر رأيه ويضطر للركوع أمام إرادة شعبه.
حين تحدث اصف بيات ، أستاذ علم الاجتماع ودراسات الشرق الاوسط في الجامعات الامريكية عن الثورات العربية ، قال إنها تنشأ احيانا دون افكار ثورية ودون احزاب سياسية ، تنطلق من اناس عاديين يرفضون سياسة الامر الواقع ، هذا ما حدث في تونس ومصر وغيرها ، وهذا ما يحدث أيضا في السودان ، حسب جل المراقبين، الذين رأوا أن الاحزاب والمنظمات التحقت بالحراك بعد انطلاقه وتوسعه، وهذا لا يستنقص من دور الاحزاب والمنظمات المدنية التي واجهت الانظمة الديكتاتورية لعقود بكثير من الشجاعة و التضحية ونكران الذات ، لكن دعونا نسلم بأمر ، دونه لا يمكن ان نفهم ما يحدث وما يمكن ان يحدث في هذه المنطقة ، وهو ان كانت المراكمة مهمة في إحداث التغيير ، الا ان اللحظة الثورية وتوقيتها وحتى صيرورتها، تبقى أمورا صعبة التوقع.

السبب المباشر للثورة في السودان:
غلاء المعيشة
سعر رغيف الخبز ارتفع من جنيه إلى ثلاثة جنيهات ، وكذا بالنسبة لسعر الوقود، يضاف الى ذلك نقص فادح في السيولة جعل البنوك لا تسمح بسحب اكثر من 10 دولارات يوميا و تضخم وصل إلى حدود 70 بالمائة في بلد خسر ثلاثة أرباع انتاجه النفطي منذ انفصال الجنوب، مما افقده أهم مورد للعملة الصعبة.

صندوق النقد ألدولي: «وداوني بالتي كانت هي الداء»
أمام الازمة التي تفاقمت خاصة بعد انفصال الجنوب، تلخص برنامج الاصلاح الاقتصادي الذي فرضه الصندوق في إجراءات تقليدية ، وهي وصفة لكل الدول التي تعاني ازمات اقتصادية ومالية : مرونة سعر صرف العملة (الجنيه) وحتى تعويمه ، خفض الإنفاق العمومي، التقليص من الدعم الموجه للطاقة ، في المقابل دعا الصندوق الى توجيه منظومة الدعم او ما يسمى بالأمان الاجتماعي إلى مستحقيها ، اي «الفقراء الذين يحتاجونها فعليا»،

لكن الإشكال في السودان ، ليس فقط في حالة الفقر المدقع التي يعيشها البلد، حالة يصعب من خلالها ضبط حدوده ، بل وكذلك في انتشار الفساد المتمكن في كل مفاصل الإدارة، رغم حملات إيقاف بعض «القطط السمان» التي تحدث من حين الى آخر.
سنة 2010، كشفت منظمة «غلوبل» البريطانية أن المؤتمر الوطني الحاكم كان يستغل لوحده 26 بالمائة من عائدات البترول في الجنوب قبل الانفصال، كما احتل السودان المرتبة 170 من جملة 176 في مؤشر الفساد لسنة 2016، وهو ما يطرح صعوبة ، بل استحالة تحقيق اصلاح اقتصادي في واقع الفساد الذي ينخر كل مؤسسات الدولة.

«اسقط بس»
انطلقت الاحتجاجات في 19 ديسمبر 2019 من عطبرة، التي أصبحت أيقونة الثورة السودانية ، تماما مثل سيدي بوزيد في تونس ، وسرعان ما انتقلت الى مدن سودانية أخرى، مما اجبر النظام على اعلان حالة الطوارئ في عديد المحافظات ، كما علقت الدروس في عديد المدارس أمام تظاهر اعداد متزايدة من الطلاب والمدرسين، وطبعا ككل نظام ديكتاتوري أطلق الرصاص على المتظاهرين، مما خلف حسب منظمة هيومن رايتس ووتش ، حوالي 40 ضحية بينهم أطفال وإطارات طبية ، كما ذكرت مصادر صحفية ان عدد المعتقلين في سجون النظام وصل الى حوالي الف معتقل من بينهم قيادات حزبية معارضة، ومثلما فعل النظام التونسي ونظام مبارك في مصر خلال أسابيع الثورة ، حاول النظام السوداني صنصرة الانترنت وقام بحجب شركتي «زين» و»ام ت أن»،وفي خضم انتشار المظاهرات والغضب الشعبي تحولت الشعارات المنادية بالخبز والحرية الى شعارات مثل «الشعب يريد إسقاط النظام» الذي انطلق من ام درمان أو الشعار الآخر الموجه لرأس النظام «اسقط وبس».
اقليميا ودوليا:

لكن اقليميا ودوليا ، يظهر ان النظام لايزال مسنودا، فالإمارات والسعودية تعتبرانه حليفا في حربهما في اليمن، وتركيا تربطها علاقات قوية مع السودان منذ تأميم المدارس التابعة لغولن الذي يتهمه اردوغان بأنه كان وراء محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا ، صيف 2016.
الى جانب ذلك يحصل النظام السوداني على دعم غير مسبوق من الصين التي وقفت معه في احلك فترات عزلته، اما مصر فقد عبرت بعد اللجنة التشاورية الرباعية بين البلدين والتي تضم وزيري الخارجية ومسؤولي المخابرات عن دعمها للاستقرار في السودان ، دون ان تتحدث عن دعم حقيقي للنظام.

مقابل ذلك، يوم 8 جانفي (يناير) 2019 ،عبرت كل من بريطانيا والنرويج والولايات المتحدة وكندا عن «عميق انشغالها بخصوص رد فعل حكومة السودان على الاحتجاجات الاخيرة في السودان» وطالبت بالتحقيق في الاستعمال المفرط للعنف ،وهو انشغال لا يمكن ان يترجم الى موقف حازم تجاه نظام كان فاقدا لشرعيته منذ لحظة انقلابه سنة 1989.

البدائل؟
يعتقد المراقبون ان الاحتجاجات التي انطلقت من عطبرة وانتشرت في جل المدن السودانية هي احتجاجات شعبية حركها بالأساس غلاء المعيشة وانتشار الفساد والمحسوبية وتطورت مع الايام لتنادي بإسقاط نظام تسبب في تردي الحياة العامة ، لذلك توجه المتظاهرون في أحيان عديدة إلى مقرات الحزب الحاكم لحرقها واستولوا على محتويات «ديوان الزكاة» ووزعوها بأنفسهم على المحتاجين.

ومع تصاعد الاحتجاجات وانتشارها ، انضمت احزاب سياسية للحراك ، حيث اعلنت الجبهة الوطنية للتغيير التي تضم اثنين وعشرين حزبا ، خلال مؤتمر صحفي انها ارسلت مذكرة الى رئاسة الجمهورية تطالب بتشكيل «مجلس سيادة انتقالي» يسيّر شؤون البلاد وذلك بعد حل غرفتي البرلمان ، الاولى والثانية ،
من جهة اخرى ، اعلنت الاحزاب المشاركة في الحكم تباينها مع مواقف حزب المؤتمر الوطني حيث رفض حزب المؤتمر الشعبي السوداني، مثلا، ( وهو حزب اسسه حسن الترابي) قتل المتظاهرين وطالب ببعث لجنة تحقيق مستقلة تحقق في الامر، كما غادر عديد السياسيين السلطة بعد ان كانوا شاركوا في الحوار المفروض من النظام.

استمرار للانتفاضات العربية؟
في اعتقادي لا تختلف انتفاضة السودان عن مثيلاتها العربية ، فقد انطلقت احتجاجا على تدهور الاحوال المعيشية لتنتهي بعد تجذرها بالمطالبة باسقاط النظام، لكن استمرار الاحتجاجات لأسابيع قد اعطى فرصة ذهبية للأحزاب السياسية كي تقدم بدائلها ، الاسئلة التي يمكن ان تخامرنا ونظام عمر البشير يلتقط انفاسه الأخيرة، هل سيقدم النظام مزيدا من التنازلات امام ضغط الشارع؟ وهل يقبل بها المتظاهرون؟ وهل ستتجاوز الاحزاب السياسية السودانية خلافاتها لتؤسس لمرحلة جديدة؟ وربما السؤال الاهم: هل ستعرف الانتفاضة السودانية مصيرا مختلفا عن كل المآلات الاخرى في المنطقة؟

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115