لكن هل يصنع المال مشروعا سياسيا (سليم الرياحي مثالا)؟ رغم الإقرار بأنّه دون مال لا مجال لنجاح أيّ مشروع سياسي.
إنّ الأحزاب «الكبرى» مثل النهضة وندائي الباجي قائد السبسي ويوسف الشاهد تتقاسم كبار أصحاب الثروات التي تفضّل البقاء خارج دائرة الأضواء. في حين يعمد أثرياء آخرون إلى تنفيل الجميع عملا بقولة «أينما أمطرتِ فخراجك لي». وكما تجري الأمور على طاولة القمار، يراهن البعض على معسكر معيّن بينما يستثمر آخرون أموالهم في جميع الخانات حتى يكون الجميع «مضمونين» حسب العبارة الشهيرة، فيفتحون نُزُلَهم أمام محترفي السياسة، ويسخّرون لهم سياراتهم، ومحطاتهم الإذاعية، وقنواتهم التلفزية بغرض الحفر في العقول فكرة أنّ المنتصرين هم دوما أنفسهم.
إنّ الانتخابات لعبة لا يُدعى لها سوى «الكبار». وبذلك يعمد هؤلاء إلى قبر الديمقراطية وتجريد المواطنين من مواطنتهم، فيصبح المواطنون قابلين للتلاعب بهم بفضل استطلاعات الآراء، والوعود الزائفة، والأكاذيب. هكذا يعتقد قبّارو الديمقراطية أنّهم قادرون على فعل كلّ شيء كأن يعيدوا ترشيح الباجي لدورة قادمة أو إطلاق بضاعة جديدة في السوق الانتخابية. في الأثناء تسعد شركات الاتصال والدعاية بهذا الأمر.
إنّ دور «المثقفين» هو تعقّب هؤلاء، والكشف عن خلفيات خطبهم، وما يتكتّمون عنه من ألاعيب وخدع، وفتح عيون المواطنين، واقتراح حلول مغايرة، ومساعدة المواطن على استعادة صوته، وتحمّل مسؤولية الالتزام كلّما اقتضت اللّحظة ذلك. وفي كلمة: إعادة الأمل.
فلا شيء محسوم مسبقا. ولنا في مثقفين مثل شومسكي في الولايات المتحدة الأمريكية أفضل مثال. فهو يقاوم لوحده وول ستريت، أعتى البورصات العالمية، وفوكس نيوز من أكبر القنوات التلفزية. وهو التجسيد الحيّ لروح المقاومة ورفض الانصياع لمنطق المال. فالمثقف الحرّ لا يباع ولا يشترى. ولئن ثمّة أمل في نجاة البشرية وتغلبها على مآسيها فلن يكون سوى بفضل أمثال هؤلاء المفكرين الأحرار.
كما يرفض العديد من المثقّفين في بلادنا الانخراط في المشاريع المشبوهة ويدعمون بمساهماتهم جمعيات المجتمع المدني النقابية والحقوقية والتنموية والثقافية...تمشيّا يدفع بالبلاد نحو طريق الخلاص وبناء الديمقراطية على أسس متينة.
في بلدنا تونس، لا يجب أن يتوقّف مسار الديمقراطية قبل أن يبدأ، فالتونسيون يدركون أنّهم غير ممثلين فعليا، وأنّ البرلمان يشتغل وفق ديناميكية خاصّة به، ومنطق خاصّ به، ودواليب أبعد ما تكون عن المواطنين المفترض فيه تمثيلهم.
تحاول المبادرات الجديدة إنقاذ الديمقراطية وإعادة المعنى إلى التمثيلية السياسية، في حين يحاول قبّارو الدّيمقراطية إقناعنا بأنّ المنتصر هو من يحصل على مساندة كبار الأثرياء. فما الّذي يبقى وقتها «للصّغار»؟ إنّ الذي يبقى لهم هم أصحاب الثروات الصغيرة الذين تهدّدهم المنافسة غير الشرعية، واستحواذ بعض أسماك القرش على عدد من القطاعات الاقتصادية، والتجارة الموازية، وثقل الإجراءات الإدارية وبطئها، والجباية، والفساد. هؤلاء من مصلحتهم المراهنة على "الأحزاب الصغيرة" والمبادرات الجديدة التي تطمح إلى الدّفاع عن الرأسمال «الوطني» المنتج للثروة.
فلنحذر الانسياق وراء الوهم بأنّ المال وحده قادر على صنع كلّ شيء. والحديث عن المال يجرّ أيضا الحديث عن مساندة الخارج. فالمجموعة الأوروبية تساند طرفا معينا، في حين تقف أمريكا إلى جانب طرف آخر، إضافة إلى تقاسم مساندة دول الخليج بما يخلق الاعتقاد بأنّه إذا كان لك المال ومساندة الأوروبيين أو قطر أو الإمارات، فلا شيء بإمكانه أن يقف في طريقك.
بالمقابل، يرى الوطنيون أنّ الانتخابات قضية داخلية، وأنّه على التّونسيين تقرير مصيرهم بأنفسهم. وأنّ المآل سوف يتحدّد بقدر التزام هذه الأطراف أو تلك من الطيف الواسع الرّافض لهيمنة الطرفين الكبيرين. فالإرادة القويّة، وتكاتف جميع الرافضين للأمر الواقع، والعازمين على عدم الاستسلام أمام سلطة المال والتحالفات المريبة هو الذي سيحدّد مآلات الموعد المقبل ومستقبل البلاد.
نداؤنا إلى جميع التونسيات والتونسيين لمساندة ما يُعتقد أنهم «صغار» اليوم والذين سيصبحون «كبارا» بفضل انخراطكم ومساندتكم. فلنعمل معا على إسقاط حسابات بعض وسائل الإعلام المرتبطة بسلطة المال. فإرادتنا، وكرامتنا، وسيادة وطننا هي مربط الرّهان اليوم.