حادث وحديث: في الرقابة وكثرة المراقبين (1)

في تونس، نحبّ الرقابة. الكلّ يريد أن يكون حسيبا، رقيبا. أن يتّبع الناس ظلّهم. أن يتلقّف ما يقولون وما لا يقولون... نحن شعب لا يحبّ العمل

وبذل الجهد، لكنه يعشق مراقبة الناس وما هم يأتون. الشغل المميّز عندنا هو الذي فيه تدقيق ومتابعة. أفضل العاملين عندنا هم العسس.

انتشر في البلاد العسس. في كلّ بيت ميسور، في كلّ باب عمارة، أمام البنوك، في أروقة الادارة، في المحلّات... هناك دوما حرّاس وعسس. في بعض الإدارات، مرّة، أحصيت العاملين وظائفهم فوجدت الكتبة والسوّاق والعسس هم الأكثر... لا بأس أن يتعاظم شأن العسس فنحن في بلد فيه فسّاد ولصوص. الإشكال هو كلّما ازداد العسس عددا ازداد في الأرض اللصوص. بين العسّ والفساد جدليّة. بين البوليس واللصوص تكامل. هما خطّان متوازيّان. يلتقيّان...

في تونس اليوم، هناك العديد من التنظيمات التي بعثت من أجل الرقابة. من أجل المحاسبة والتدقيق. في كلّ وزارة، مؤسّسة، إدارة... هناك هيكل قارّ، همّه المراقبة والتدقيق. مراقبة ما يجري من قرار، من تصرّف. التدقيق في كلّ فعل صغير وكبير.

بعد الثورة، هاج الشارع. كثر الضجيج. ازداد الناس هلوسة. قال الناس: يجب أن ننتهي من الفسّاد. أن نضرب على أيدي الفاسدين وغيرهم من الظالمين. لتخليص البلاد ممّا انتشر من وسخ ودنس، ازدادت في البلاد الرقابة وكثر في الأرض المراقبون. في ظلّ أزمة تشتدّ، يجب طمأنة النفوس. يجب العسّ والتدقيق.
في تونس، يعتقد الكثير أن لا نماء ولا تحقيق لأهداف الثورة دون قطع دابر الفسّاد وغيرهم من المتسلّطين... نسينا الحاضر. مشينا الى الماضي ننفضه، ننبشه. الكلّ يقتفي الأثر، يدقّق في الفساد، يبحث في ما كان من تجاوز... بعد الثورة، لا مكان للغد ولا نظر في ما يجب أن يكون. لا يهم ما سوف يكون. المهمّ هو العود الى الماضي. النظر فيه. الكلّ اصبح ظلّ الله في الأرض. يقيم الحساب، يجمع الملفّات، ينصب المحاكم. يعوّض...

في ما أرى، في تونس، لنا اليوم أربعة هياكل رسميّة كبرى لمراقبة التصرّف في المال العامّ وللكشف عن الفساد وملاحقة المفسدين. هذه الهياكل هي:

1. الهيئة العليا للرقابة الادارية والمالية تحت منظور رئاسة الجمهورية ويرأسها السيد كمال العيّادي.

2. هيئة الرقابة العامّة للماليّة وهي تابعة لوزارة الماليّة ويرأسها حاليّا السيد يونس المصمودي.

3. دائرة المحاسبات وهي تابعة لرئاسة الحكومة ويرأسها السيد نجيب الكتاري.

4. الهيئة الوطنيّة لمقاومة الفساد وهي تابعة لرئاسة الحكومة ويرأسها السيد شوقي الطبيب.

هذه الهيئات الأربع ليست الوحيدة في البلاد بل هناك أخرى عديدة مثل هيئة المراقبة العامّة للمصالح العموميّة وهيئة الرقابة العامّة لأملاك الدولة وهيئة مراقبي الدولة والتفقّديّة العامّة لمصالح وزارة الداخليّة والتنميّة العموميّة والتفقّديّة الاقتصاديّة وغيرها كثير. علاوة على هذه الأربع، هناك هياكل رقابيّة أخرى تلقاها في جميع الوزارات، في المؤسّسات الاقتصاديّة، في الهياكل الاداريّة، في الدواوين. في هذه جميعا، تلقى إدارة قارّة شغلها المتابعة والتدقيق. كلّ سنة تنشر هذه الهياكل تقارير مجزّأة. تسرد فيها ما حدث من خلل في التصرّف، في التراتيب. في تونس، لنا اليوم عشرات التقارير السنويّة في آلاف الصفحات كلّها محشوّة بما حصل من سوء تصرّف، بما كان من تجاوز للقوانين. لا أحد يهمّه ما أتاه الفاعلون من نشاط محمود. لا أحد يذكر ما أخذه المتصرّفون من قرار مصيب. المهمّ هو ارضاء الرقابة واتّباع التراتيب. اليوم، يخاف المتصرّفون المراقبين. لا سعي لهم ولا اجتهاد ولا تجديد. للبقاء في الوظيف، على المتصرّفين اتّباع ما يأمر به المراقبون واحترام ما جاءت به التراتيب...

تونس اليوم في الرقابيّات تغرق. الكلّ اصبح يدقّق. أنا أسأل: هل الرقابة اللصيقة هذه تجنّب الفساد، تطوّر التصرّف في المال العموميّ؟ هل هي تدفع حقّا بالفاعلين الى مزيد الحرص على الحوكمة الرشيدة، على تحسين المردود؟ ثمّ، لماذا كلّ هذه الهيئات الرقابيّة العليا ومثلها بعد في المؤسّسات موجود؟ ما هي إضافتها وهل من نفع في ما تفعله منذ عشرات السنين؟

(يتبع)

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115