في القانون الدستوري والجبائي المغاربي بكلية الحقوق والعلوم السياسية بسوسة، لتقديم كتاب جديد من منشورات الوحدة بعنوان «الأحزاب السياسية في تونس»، وهو مؤلف جماعي أشرف عليه الاستاذ الدكتور أحمد السوسي وساهم فيه الى جانب المشرف ستة من الباحثين الجامعيين المميزين هم: عبد الرزاق المختار، جليلة بوزويتة، عواطف الطرودي دربال، عاطف صالح الرواتبي، مروان الديماسي، ومحمد العجمي.
تناول المؤلف الذي جاء في 400 صفحة من القطع المتوسط، بالبحث والدراسة والتحليل اهم القضايا والإشكاليات ذات الصلة بالظاهرة الحزبية في تونس ما بعد الثورة، وهي بإيجاز كما وردت في الفهرس: الدستور والأحزاب، الأحزاب والقانون، الأحزاب والمال، المشهد الحزبي في تونس، أزمة الديمقراطية داخل الأحزاب السياسية، والأحزاب والانتخابات.
وقد قام المنظمون بدعوة الأحزاب السياسية الاساسية في المشهد العام الحالي للمساهمة في هذه الندوة والاطلاع على نتائج اول مؤلف بحثي جامعي منذ الثورة يتناول موضوع الملف الحزبي من وجهة نظر علمية واكاديمية، لكن الحضور كان ضعيفا واقتصر على النائبة الشابة عن حركة مشروع تونس نسرين العماري وكاتب هذه الأسطر عن حركة نداء تونس، فيما سجلت بقية الأحزاب بالغياب حضورها، وهو ما دعا الممثل الاقليمي للمؤسسة الألمانية الدكتور زيد الديلمي الى اعلان تصميمه على تنظيم ندوة ثانية قريبا في نفس الموضوع لايصال نتائج الكتاب وملاحظاته لأكبر قدر ممكن من الفاعلين الحزبيين لمساعدتهم على تطوير المنظومة الحزبية التي بدونها لا يمكن ضمان انتقال ديمقراطي ناجح وسليم.
ثمّةَ ثلاث قضايا حزبية هيمنت تقريبا على أجواء الندوة:
القضية الاولى هي هشاشة الارضيّة الفكرية والمعرفية وغياب البرامج وطغيان النزعة الانتهازية و"السلطوية" لجل الأحزاب الفاعلة في الساحة السياسية، وهو ما يفسر بروز ظواهر الانشقاقات التنظيمية والصراعات الأيديولوجية والسياحة الحزبية والبرلمانية، وما قاد عمليا الى نتائج وخيمة من قبيل تعثر مشاريع التنمية وترذيل الطبقة السياسية وخصوصا منها الحزبية وضرب استقرار مؤسسات الحكم وغلبة الرداءة والممارسة "السياسوية" على حساب قيم الجمهورية والمبادىء الاخلاقية.
القضية الثانية هي غياب الممارسة الديمقراطية داخل جل التنظيمات الحزبية، فبعض الأحزاب السياسية تعاني من عدم قدرتها على تجديد قيادتها منذ عقود، فيما تغيب في احزاب اخرى المؤسسات القيادية المنتخبة حيث هيمنت على ادارتها مقاربات احتكارية اقرب الى "الممارسات المافيوزية" منها الى الممارسة الحزبية الرشيدة والديمقراطية، بينما سقطت نوعية ثالثة في حالة "الشخصنة" المفرطة التي حولت الأحزاب الى ما يشبه الدكاكين التجارية بينما يفترض انها جمعيات سياسية لتأطير المواطنين وإنتاج برامج التغيير الإيجابي.
القضية الثالثة وربما الاخطر هي قضية الأحزاب السياسية والمال، فجل الأحزاب بحسب الوارد في الكتاب ومداخلات الباحثين، تعاني من صعوبات جمة في هذا المجال، سواء في إيجاد التمويلات اللازمة لأداء وظيفتها او في ادارة هذه التمويلات ان وجدت بطريقة تلتزم بالقواعد القانونية والشفافية المطلوبة او في تقديم كشوف وإثباتات وجداول محاسبة واضحة تنفي الشبهات التي تحوم حول هذا الملف، أكان الامر متصلا بشبهة التمويل الأجنبي او شبهة المال الفاسد.
في مداخلتي التعقيبية التي تفاعلت من خلالها مع كلمات الباحثين، اوردت خمس ملاحظات أساسية هي كما يلي:
الملاحظة الاولى نبّهت من خلالها الى ضرورة الانتباه الى أهمية السياق التاريخي، اذ تزامن مسار الانتقال الديمقراطي في تونس ما بعد الثورة مع ما أسميته في مقال نشر قبل أسابيع في صحيفة "المغرب" ب"أزمة الديمقراطية التمثيلية"، هذه الأزمة التي تعاني منها الأنظمة السياسية في معاقل الديمقراطية النيابية في الغرب، والتي بلغت أوجها اليوم مع حركة السترات السفراء في فرنسا وهزة البريكست في بريطانيا وصعود التيارات اليمينية الشعبوية المتطرفة في ألمانيا وبقية الدول الأوروبية، فالطبقة السياسية ومؤسسات الحكم الكلاسيكية فقدت قدرا كبيرا من مصداقيتها وقدرتها على إقناع غالبية المواطنين، وهو ما دعا كبار
المفكرين السياسيين الديمقراطيين الى إطلاق تحذيرات ومبادرات لضخ جرعات من الديمقراطية المباشرة في جسم الديمقراطية التمثيلية، من قبيل أشكال جديدة للتنظم الحزبي ومنح الحكم المحلي مزيدا من السلطات، وهو ما لا يمكن إغفاله تونسيا.
الملاحظة الثانية هي ان ناخذ بعين النظر والاعتبار الخصائص المميزة للمراحل الانتقالية، ومن أهمها هشاشة الدولة وما تقتضيه عملية تثبيت المفاهيم السياسية الجديدة التي تحتاجها الديمقراطية من وقت وجهد حتى تؤتي الأنظمة الجديدة ثمارها، فبالقياس الى التجارب المقارنة في القارات الاربع، اوروبا وأمريكا اللاتينية وآسيا وافريقيا، عادة ما تتعرض الأنظمة الديمقراطية الناشئة الى اختراق من قبل جماعات المصالح والمافيا من ثلاثة منافذ رئيسية هي الأحزاب السياسية ووسائل الاعلام ومنظمات المجتمع المدني، وهي التي تمثل في الان نفسه أعمدة الديمقراطية، الامر الذي يقود الى ما أسمته منشورات نادي مدريد ب «الديمقراطية المخترقة»، حيث تفضي هذه الظاهرة اساسا الى اهتزاز الاستقرار السياسي بكل ما يعنيه من صعوبات ومشاكل تجعل النظام الديمقراطي غير مقنع في عيون غالبية المواطنين ومعرض للانقلاب عليه في كل لحظة وحين.
الملاحظة الثالثة تتمثل ضرورة ان نراعي خصوصية العقل السياسي التونسي الذي لا يمكن فصله عن محدّدات العقل السياسي العربي كما فصل فيها المرحوم الدكتور محمد عابد الجابري، اي القبيلة والغنيمة والعقيدة/الأيديولوجيا، فنحن نملك اشكاليات معرفية وفكرية إضافية قياسا بجميع حالات الانتقال الديمقراطي الاخرى، وهو ما ينعكس في الصميم على الحالة الحزبية، ومن ذلك على سبيل المثال عجزنا عن تطوير المشهد الحزبي من حالة الصراع الايديولوجي/الهوياتي الى حالة التنافس البرامجي، فضلا عن عجزنا عن حماية العقل الحزبي من تأثيرات التجليات المعاصرة للقبيلة والغنيمة والأيديولوجيا التي حكمت وما تزال العديد من الاختيارات الحزبية الخاطئة سواء على مستوى الأشخاص او المواقف او حتى البرامج ان وجدت.
الملاحظة الرابعة هي النزعة الطهورية المسيطرة على عقل وسلوك الفئات ذات الصلة بالطبقة السياسية من قبيل فئات الأكاديميين والمثقفين والاعلاميين الذين يشكلون الخزان الطبيعي في الغالب لإنتاج "الساسة"، فعندما تعتزل هذه الفئات النخبوية العمل السياسي هربا من ان تطالهم تشوهاته او إساءاته المتوقعة فإنها عادة ما تسهل - مثلما هو حاصل- مهمة العملة السيئة في طرد العملة الحسنة كما قال المقريزي، وغلبة ما سماه الصديق عبد الرزاق العياري رئيس جمعية الجاحظ ذات مرة ب"زمن الخلايق السياسية" اي "زمن الفتوات والباندية"، ومن صوره ما تابعه التونسيون وما يزالون على قنوات التلفزيون من مظاهر عنف وانحطاط السلوك السياسي في حلبة البرلمان وبلاتوهات البرامج السياسية.
الملاحظة الخامسة والاخيرة انه لن يكون بمقدورنا فعلا ضمان مستقبل النظام الديمقراطي ان لم نتدارك الوضع السيء والرديء للمنظومة الحزبية الحالية، فإلى حد الان، وبناء على الدستور والقانون تشكل الأحزاب السياسية مفاتيح النظام السياسي، وهو ما يستدعي الإسراع في المصادقة على مشاريع القوانين المنظمة لها، سواء تعلق الامر بالنواحي التنظيمية او بالنواحي التمويلية، فالفراغ القانوني لا يمكن ان تستغله الا الأطراف الراغبة في تقويض التجربة الديمقراطية داخليا وخارجيا، فتونس تستحق فعلا أحزابا افضل، اكثر رشدا وحوكمة في تسييرها الداخلي واكثر شفافية في ادارتها المالية واكثر مسؤولية في مواقفها السياسية. ولن يكون ذلك متاحا الا اذا ربطنا باستمرار العمل السياسي بالاخلاق والفضيلة التي يمكن ان تدرك من مدخلين، اما عقلا او دينا، او من كليهما.
وقد قلت في الختام بان المزعج وغير المقبول هو السياحة البرلمانية التي تضرب مبدا السيادة الشعبية في عمق وتضر باستقرار مؤسسات الحكم مباشرة منا ينعكس سلبا على مصداقية النظام الديمقراطي، اما المراجعات الحزبية والفكرية واقدام بعض التونسيين على تقديم مشاريع سياسية جديدة بين الفينة والأخرى فهي ظاهرة صحية ومطلوبة اذا ما اجتنبت الشبهات في الطرح والتأسيس من قبيل تطويع موارد الدولة لخدمة اجندة حزبية ناشئة، ففي ذلك ما قد يلحق الاذى بمسار الانتقال الديمقراطي في ظل ثقافة سياسية هشة وضعيفة ما يزال يتحكم فيها منطق العصا والجزرة.