فرأينا التشيّع قد أسفر عن وجهه وتنصّر من تنصّر من التونسيين وانفجر أتباع المذاهب السلفية بمختلف فروعها من علمية وجهادية وغيرها ..الحقيقة ان المشهد أضحى مخيفا وخطيرا وتونس لم تعد تونس التي نعرفها ..ومع تقدّم الأيام وتزايد الانفلات الفكري الديني واستقلال المؤسسات الدينية الرسمية وتهربها من مسؤولياتها الحقيقية ودورها الثابت وضعف المساعي الفردية أو الجمعياتي أمام المد السلفي الوهابي ذي الإمكانات المادية الجبارة والتجييش البشري المتواصل ..بقينا ننتظر تحركا نديا له من المتانة والصلابة التي تخول له تحقيق التوازن في هذا المشهد وينقذ ما يمكن إنقاذه في تونس في هذا الظرف الحساس وإلى اليوم ونحن لا نزال نحتاج إلى صمام الأمان وضمان الأمن الروحي الديني للتونسيين أمام المد الخارجي الذي يهدد الرصيد الحضاري لتونس بما حمله من دعوات التكفير والتقتيل والتعلق بالشكليات والعمل على هدم كل جميل في بلادنا ويكون بالتالي حارسا للثوابت الدينية للأمة ..وضابطا للهوية الدينية لتونس الزيتونة ومرجعيتها المسلوبة في الشأن الديني التي ترتكز على ثلاثة أعمدة وهي العقيدة الأشعرية والمذهب المالكي والتصوف الجنيدي السني..
وقد ارتأيت ان أركز على الجانب الفقهي أي المدرسة المالكية نظرا لكون الفقه يهمّ مشاغل الناس الحياتية في معاملاتهم وعباداتهم ودعوتي صريحة ومعلنة لضرورة الانتصار للفقه المالكي في خضم هذه الفوضى العارمة التي نعيشها اليوم جميعنا في المساجد والبيوت والتي تميزت بالتناظر في مسائل اجتهادية دينية وكل طرف ينتصر لمنزعه وتحولت المعادلة إلى نقصان عدد المنتصرين للفقه المالكي أما الأغلبية فهي رافضة لهذا التوجه والمتمثل في الانضواء تحت سقف مذهب واحد واعتبار ذلك من كلاسيكيات الزمن ولا بد من اعتماد التحرر من هذا القيد وإتباع السنة النبوية والعمل بالأحاديث دون اللجوء إلى أقوال الفقهاء ومقاطعة استنباطات علماء المذاهب ..ومع غلبة هذا الاتجاه فان الفقه المالكي الذي انبنت عليه تونس منذ تأسيس جامع الزيتونة مهدد بالاندثار ... وعليه فان بذل كل الجهود ومن كل الأطراف مؤسسات الدولة دون استثناء وزارة الشؤون الدينية .مؤسسة الإفتاء .جامعة الزيتونة المجلس الإسلامي الأعلى وكل الجمعيات ذات المشرب المالكي وكل الغيورين من الشيوخ والعلماء الاكادميين أمر مطلوب ومسؤولية كبرى أمام الله وأمام الوطن للذود عن الهوية الفقهية الصافية والانتصار للسند المالكي ..مع الصبر على ذلك وتوفير كل الآليات الكفيلة بإنجاح هذا التمشي المناصر للفقه المالكي علما وانه من سنن الله الماضية في هذا الكون الصراع المستمر بين الحق والباطل، إنه صراع مستمر لا يهدأ ما توالى الليل والنهار إلى أن يرث الله الأرض وما عليها، وما دام في الناس أناس يستجيبون لوحي عقولهم وآخرون يستجيبون لنداء رعوناتهم وأهوائهم إذاً لا بد أن يظل الصراع بين الحق والباطل مستمراً، ولكن الله عز وجل الذي شاء أن يمضي هذه السنة في كونه قضى وقرر في محكم تبيانه أن الباطل مهما جال لا بد أخيراً أن يزول ويندثر، وصدق الله عز وجل القائل في محكم تبيانه «وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً»الإسراء:81. وصدق الله عز وجل القائل في محكم تبيانه «بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ»الأنبياء: 18،
نقول هذا بعد هذه الهجمة على فقه تونس واعتدال تونس وعلماء تونس وتاريخ تونس والتي من واجبنا البحث عن السبل والآليات لحماية هذا الرصيد و الثبات على النهج الذي سار عليه آباؤنا مع اليقظة التي تهيب بنا أن نعود فنصطلح مع سندنا علما وانه تقتضي أقل المراتب أن يكون هنالك صوت لعلمائنا لمحاورة أو بالأحرى صد هذا الطوفان من النزعات المستوردة ونحن الذين عرفنا بالهدوء والوسطية بعيدا عن الأغشية الزائفة الكاذبة التي تمتد سحباً على وجه الحقيقة هكذا ينبغي أن ننتصر لمذهبنا ضد هذه الإساءات وهذه الأفكار الغريبة .. ودعوتنا للانتصار إلى الفقه المالكي لا تعني رفضنا لبقية الأئمة وبقية المذاهب لأنهم من أهل العلم الموثوقين الذين شهدت الأمة لهم بالعدالة والديانة والرسوخ في العلم كلهم من أهل السنة والجماعة، وهم من الطائفة المنصورة التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم لا يزالون قائمين بأمر الله حتى تأتيهم الساعة وهم كذلك، وليس ذلك بحاجة إلى مزيد تقرير ففضائلهم ومناقبهم ومساعيهم المشكورة وآثارهم المبرورة في الإسلام أعظم شاهد لهم بذلك، وقد كانوا متفقين في أصول الدين موافقين فيها للسلف الصالح من الصحابة والتابعين. وأما اختلافهم فإنما
كان في بعض الفروع التي ليس فيها نص قاطع، فاختلفت اجتهاداتهم بناء على اختلاف النصوص، فيثبت عند الواحد منهم ما لا يثبت عند الآخر، أو يثبت عند الواحد منهم نص فيحمله على معنى غير الذي حمله عليه الآخر إلى غير ذلك من أسباب الخلاف المعروفة، غير أن المقطوع به أن أحدا منهم لا يتعمد مخالفة النص الصريح بعد ثبوته عنده ووضوح معناه له، فقد كانوا متحرين للحق باذلين في تطلبه جهدهم، فالمصيب منهم في المسألة المختلف فيها له أجران والمخطئ له أجر، والعامي له سعة في أن يقلد من شاء منهم، فيأخذ بفتواه ويتبع قوله من غير تعصب ولا غلو، فإذا قلدت واحدا من هؤلاء الأئمة والتزمت بمذهبه لم يكن عليك حرج في ذلك، ولا تخرج بذلك عن أن تكون من أهل السنة والجماعة ومن الطائفة المنصورة إلى
قيام الساعة، ما دمت موافقا للسلف الصالح من الصحابة والتابعين فيما اتفقوا عليه من أصول العقائد..والمذهب المالكي، كغيره من المذاهب الإسلامية المعتبرة، يقوم على أصول وقواعد محرّرة مضبوطة قوامها الكتاب والسنة، فلا يخطرنّ ببال أحد أنّ المذهب المالكي يتعمّد ردّ السنّة ويتجاهلها، بل هو من المذاهب السنّية التي أسست على العمل بالحديث والأثر. وأما ما يرى من ردّ المالكية لبعض الأخبار، فليس من باب ردّ السنّة والعمل بالهوى، بل هو لو تدبّرت من صميم العمل بالسنّة؛ لأنّهم يرون عمل أهل المدينة سنة متواترة لا يعارضها خبر الآحاد، فهو إذن من باب ردّ الظنّ المعارض لليقين معارضة لا يتأتى معها الإعمال عندهم.ومن أراد التأكّد من هذا فعليه بكتب المذهب التي وضّحت الأصول وأبرزت الأدلة، كالتمهيد والاستذكار لابن عبد البرّ، والذخيرة للقرافي، والمعونة والإشراف للقاضي عبد الوهّاب، والمنتقى للباجي، وأحكام القرآن والقبس لابن العربي، والتوضيح لخليل وغير ذلك من الكتب التي اعتنت بالأدلة...ومن هنا تجلت رفعة وتميز المذهب المالكي الجدير بالاهتمام، تعرفا وتجميعا وتحقيقا ودراسة ونشرا لذا لابد من مواصلة الجهود دون تعصب مقيت عبر مختلف
الوسائل والقنوات السمعية والمرئية والمكتوبة، من بحوث ودراسات ومقالات، وعقد المؤتمرات والندوات - محلية ودولية - في موضوعات متنوعة تتصل بالمذهب المالكي، إما في شخص صاحبه المؤسس، أو في شخوص المنتسبين إليه من العلماء والفقهاء، أو في القضايا التي لهذا المذهب - الواسع الانتشار أفقيا وعموديا - كتابات ومدونات فيه تجعله حاضرا بكل قوة، لا في ساحة الاجتهاد الفقهي فقط ولكن في ساحة الواقع كذلك. وذلك هو السبيل للانتصار لهذا المذهب في بلادنا مع تحمل المؤسسات الرسمية جميعها مسؤولياتها في توطيده والذود عنه بكل الوسائل المتاحة لما لهذا المذهب من مكانة جد متميزة في خارطة الحياة اليومية للتونسيين الذين اختاروه مذهبا فقهيا، نظرا لكونه يتميز بمجموعة من الخصائص الذاتية والمعرفية التي مكنته من أن يتبوأ مكانة خاصة نظرا لكون مؤسسه الإمام مالك رحمه الله تعالى إليه انتهى علم أهل المدينة وفقهها كما هو معلوم ومشهور، وبجمعه بين الفقه والحديث استطاع أن يجد في نفوس الكثيرين المرجعية المناسبة في باب الاجتهاد والفتوى، والتعاطي مع مختلف القضايا والنوازل التي تفرزها تطورات الحياة اليومية للمسلمين؛ ولتوفر جملة من الخصائص التي أعطت لهذه المرجعية القوة في المكانة والتميز في الاختيار، وأهمها
الواقعية والارتباط بالمصلحة الاجتماعية.. المرونة.. الوسطية والاعتدال.. القابلية للتطور والتجديد.. البعد المقاصدي والبعد المعرفي.. تنوع المصادر والأصول ووفرتها.. توسعه في استثمار الأصول المتفق عليها توسعا كثيرا بما يكفي لسد مجموعة من الفراغات الاجتهادية، لدرجة إباحته - على سبيل المثال - الخروج عن المذهب والعمل بالقول المخالف عند الحاجة، خاصة في القضايا التي يصعب الأخذ فيها بالفقه المالكي؛ الشيء الذي بين بوضوح درجة انفتاحه على غيره من المذاهب لتحقيق المصلحة العامة ، دون انغلاق أو تحيز أو رؤية ضيقة، وهو ما يجعله مذهبا فقهيا يعبر بهذا الضرب من الفهم الفقهي عن الدرجة الواعية للانفتاح والتعايش المذهبي الذي مكن التونسيين من ترسيخ هذه المدرسة في قطاعات حياتية متصلة باليومي كذلك منذ قرون .