منبــر: ثورة الكرامة وثورة البرويطة وثورة الله

الثورة أخلاق وخلق جديد أو لا تكون. جميع الثورات في التاريخ، أكانت باسم السماء أم باسم الأرض، ثورات أخلاقية بالأساس. جميعها

طالب بالعدل وبالتحرر من الجور وبالكرامة شروطا للسلم والتعاون وممارسة الإنسانية، حتى وإن طال زمنها، حتى وإن ظلت الجنة متخيلا بعيد المنال.

لكن جميع الثورات واجهت نفس المشكلة: صعوبة ولادة نخبة سياسية جديدة، أخلاقها وليدة الفكرة الثورية ذاتها، وقيمها وأفقها ترجمة لها. وبما أن الأخلاق والقيم ليست مجرد مبادئ تقرأ في الكتب الدعائية المبتذلة، بل وليدة تجربة إنسانية عميقة وحميمة، ملتصقة بظروف الحياة كافة، من العلاقة الهرمية بين الوزير ورئيسه، إلى علاقة العاملة المنزلية بأصحاب المنزل، مرورا بالعمال والفلاحين والتجار والحرفيين والأئمة وفراشي المساجد، فإن الانتقال من قيم أخلاقية إلى أخرى، ومن ثقافة سياسية إلى أخرى شكل دائما أقوى وأخطر المعارك وأعمقها، ولكن في ذات الوقت أقلها ضجيجا وأقدرها على التخفي.

وموضوع هذه المعركة يكون دائما خروج نخبة المتضررين من ظلم تلك العلاقات التي تهرأت واهتزت شرعيتها، من مربع الهامش السياسي إلى قلب القرار والفعل، بأخلاق تحررية ناقدة بقوة -بما لها من شرعية أخلاقية جديدة- لأخلاق نخبة المستفيدين من علاقات ومفاهيم ومعاير الظلم والعدل البائسة التي رسخوها في السياسة والاقتصاد والمفاهيم والسلوك.

رموز المنافسة السياسية –حتى لا نقول الصراع- في تونس اليوم هي كلمات الكرامة والبرويطة والله. في هذه المعركة تواجه قيم الكرامة بمضمونها الإنساني التحرري، وبمخيالها التحديثي القوي، وبعطشها لمبدإ التفاني في خدمة الصالح العام بما يضرب أخلاق الفساد في العمق ويعلي من شأن السياسة، قوتين لم تهتديا إلى حد الآن إلى طريق الفهم الصحيح للثورة وإلى المصالحة معها، بوسائل نقد الذات والتطور والقبول باحتضان الفجر الجديد والمساهمة في إنجازه.

القوة الأولى تحاول تدمير قيم ثورة الكرامة بمقولة ثورة البرويطة. بهذه العبارة تعبر هذه القوة عن احتقارها لقسم كبير من الشعب التونسي وسيلة عمله الأساسية البرويطة، في الأسواق والمصانع الصغيرة وفي الفلاحة وفي أعمال البناء والتشييد. وربما هم يقاومون الآن أصحاب البرويطة بالامتناع عن الاستثمار وبتغذية التهريب ومشتقاته. وبما أن صاحب البرويطة الرمز من منطقة هامشية فإن الرداء الرمزي للعبارة قد لف أجزاء كبيرة من النسيج الاجتماعي للمجتمع ومن الجهات والقرى النائية. إنه استعلاء سياسي وأخلاقي ابتدعته أوساط ثقافية عضوية في غربة عن المجتمع، وروجه عنها أدعياء الميديا والسياسة وجيش الولاء والولائم الذي لا يفنى.

القوة الثانية تحاول سحب مخيال الثورة الحداثي إلى مخيال المقدس، ليجلس بعض المُنصبين أنفسهم سدنة في معابده وفي خدمته، يحتكرون تأويل كلام الله، ويسهرون على جعل معارك قريش مع النبي، ومحاججة الرسول لهم من داخل معايير العصر وتمثلاته وقيمه، نبراسا لنا في هذا العصر دون ثورة تأويلية حداثية، مثلما كان الرسول حداثيا من منظور زمنه. ليست قاعدة هذه القوة الاجتماعية وحدها من تؤمن بالغيب وتحاول تجسيده في العقول والأشياء، بل قادتها مازال أمامهم عمل شاق وخطير كي يصبحوا جزءا من الثورة بمفهومها الحداثي الذي سيجعل الناس أكثر تصالحا مع قناعاتهم الدينية، فيوظفونها في التحديث وإعادة الخلق. ليس هذا فحسب بل ينبغي أن يقتنعوا بأن خدمة الحضارة العربية الإسلامية، التي هي مطلب جماعي، لم تعد تحتمل فكرة خدمة الله بمقابل سياسي، فالمعادلة الصحيحة هي خدمة الصالح العام بمقابل سياسي، حتى وإن تقاطع مفهوم الخير مع مفهوم الله. وتلك هي الثورة الحقيقية.

بقي مناضلو الثورة "البكماء"، هؤلاء الذين يتوقون إلى العصر الجديد، القريبين من أصحاب البرويطة في الأسواق والمصانع والحقول والشوارع المتهالكة البائسة، المتحررين من تكلس النظرية الدينية الوضعية، لكنهم لا يجدون العبارة المواتية والتنظيم المناسب للفعل. وكذلك هؤلاء المستثمرين الشبان الشجعان، المؤمنين بخجل بأن أرباحهم ونجاحاتهم وقياداتهم للمشاريع العظيمة لا قيمة لها ولا شرف لهم بها، إذا لم تنتج الفرح والرخاء في البلاد. لكنهم لا يجدون الحل الشجاع في الفكاك من ثقافة وأخلاق ونسيج علاقات الفساد، ولا يجدون نظرية سياسية-أخلاقية جديدة صارمة، يعلي بموجبها الشعب من شأن من ينجحون في خلق الثروة وتحقيق تحدي الرهان الحضاري، ويحقّر من شأن من يكدس الأرباح لحسابه الخاص ويحاسبه.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115