الترجي الرياضي التونسي في مائويته: الحنين إلى المستقبل

بقلم: محمد جويلي
أستاذ علم الاجتماع، جامعة تونس

1 - في 1919 تضع الحرب العالمية أوزارها سياسيا ويعيد المنتصرون تشكيل خارطة جديدة للعالم .

الرئيس الأمريكي ويلسن يعلن مبادئه التحررية. و زعماء الحركة الوطنية والحزب الحر الدستوري التونسي يوجهون له مذكرة لدعم قضيتهم العادلة وهو متجه إلى روما . يصدر عبد العزيز الثعالبي كتابه تونس الشهيدة دون توقيع. وباريس تفتتح مؤتمر السلام في الوقت الذي يعلن فيه مصطفى كمال أتاتورك بداية حرب التحرير التركية. يتم اغتيال الزعيم إيميليانو زاباتا أحد رموز الثورة المكسيكية ويعلن العالم تأسيس عصبة الأمم وتختار الأكاديمية الملكية للفنون في بريطانيا لوحة Gazés للرسام سارجون لوحة العام لتعبيرها الملفت عن فضاعة الحرب وبشاعتها.

2 - في العام نفسه وفي إحدى مقاهي العاصمة التونسية يصنع تاريخ شيخ الأندية التونسية الترجي الرياضي. شابان في مقتبل العمر محمد الزواوي 23 سنة و الهادي القلال 19 سنة يتجرآن على اقتراف فعل التأسيس . محمد الزواوي المنقطع باكرا عن الدراسة ليشتغل عند إسكافي يستنجد بصديقه الهادي القلال الذي أنهى تعليمه الفني ليساعده على تحويل الفكرة إلى إنجاز. الإنجاز هو صياغة القانون الأساسي للنادي و إعطائه الهوية التي تليق به كأول ناد رياضي متكون من المسلمين دون غيرهم في سياق تاريخي بدأت فيه الهويات تلعب خارج السياسة و الثقافة و الدين.

3 - براغماتية المؤسسين جعلتهم يقبلون شرط الإدارة الاستعمارية أن يكون فرنسي من ضمن أعضاء الهيئة الأولى للنادي. يحلّ لوي موتاسيي رئيسا لبضعة أشهر ليتولى بعده محمد المالقي رئاسة الترجي، فيما واصل الشابان محمد الزواوي و الهادي القلال لعبهما للنادي، الأول في خطة قلب الهجوم و الثاني في خطة ظهير أيمن. البراغماتية التي صبغت النادي منذ تأسيسه و جعلته يتجاوز صعوبات النشأة ستشكل ثقافته في العمق طيلة قرن من الزمن.

4 - بين الترجي و الشأن السياسي علاقة تبادلية بآفاق متعددّة. يحط يورقيبة رحاله بالنادي نائبا للرئيس بين سنتي 1931 و 1933. مستثمرا علاقته القرابية بالشاذلي زويتن يقتحم بورقيبة عالم الترجي وشبكة مريديه ليبني لنفسه زعامة وطنية ستجعله في آخر مطافه رئيسا شرفيا للنادي. يستفيد الترجي من زعيم أثبت جدارته في سوق الزعامة المليء بالمناورات والأحداث الشائكة ليحصل على العلامة السياسية كناد يتحرك في سياقات الحركة الوطنية بحزبها الحرّ الدستوري الجديد ولينفذ من بعدها إلى العلامة السوسيولوجية كناد يحتضن الفئات الاجتماعية الوسطى و المهمشة وكهوية من لا هوية له في حاضرة تونس و ضواحيها.

5 - يستفيد بورقيبة من الترجي بالقدر الذي يلبّي نهمه السياسي و الزعاماتي، فيتخذ من باب سويقة مقرا لمكتبه للمحاماة ، وليحرص من بعد ذلك على تنظيم المؤتمر الثاني للحزب الحر الدستوري في نهج التريبونال في 1937 وهو الفضاء الرمزي و الاجتماعي للترجي أنذاك. المثلث ، بورقيبة ، الحركة الوطنية، الترجي سيكون المثلث الأبرز في ذهنية الناس ومخيلتهم إلى حين حصول الاستقلال.

6 - رعت هذا المثلث شخصية بارزة في تاريخ كرة القدم التونسية. إنه الشاذلي زويتن، طبيب أسنان رافق النادي منذ بداياته و لم ينقطع عنه إلا لمدة قصيرة لإتمام الدراسة في باريس. لم يصرفه عن النادي إلا موته المفاجئ صيف 1963 في حادث سير. من عائلة قادمة للعاصمة من المنستير، تجمعه ببورقيبة علاقة قرابة متينة و يقال أن الشاذلي زويتن هو عين بورقيبة على الترجي زمن الانشغال بالنضال الوطني. من 1930 إلى 1963 و الشاذلي زويتن هو رئيس الترجي دون انقطاع. ولكن هناك من أعتبر أن الشاذلي زويتن هو الذي حمى الترجي من سطوة بورقيبة ورغبته الهيمنة الكلية على النادي خصوصا في السبع سنوات التي تلت الاستقلال وهي مرحلة بناء منطق جديد للدولة يحتاج فيها بورقيبة الترجي كمؤسسة سياسية في بنية رياضية.

7 - «ترجي يا دولة» على الأرجح أن يكون هذا الشعار قد برز مع بداية سبعينيات القرن الماضي في سياق فرض فيه بورقيبة هيمنته على الترجي مزكيا حسان بلخوجة رئيسا للنادي وهو الشخص المصنف من ضمن الدائرة الضيقة التي يثق فيها بورقيبة. دلالات شعار « ترجي يا دولة» عديدة أولها متانة العلاقة بين النادي و جهاز الدولة ممثلا في بورقيبة، ثم تتحول الدلالة مع الزمن لتعبرعن قوة النادي و عنفوانه وهيمنته على كرة القدم التونسية من حيت القدرة على الحصول على الألقاب مع عشرية تسعينيات القرن الماضي. من ناد ملتصق بالحركة الوطنية خلال المرحلة الاستعمارية إلى ناد مرتبط بالدولة زمن بورقيبة إلى ناد مرتبط بالدولة ولكن عبر فرعها العائلي زمن بن علي. مسيرة الترجي في جزء منها مسيرة نظام سياسي بأكمله.

8 - الترجي هو إحدى أهمّ زوايا قراءة الأزمات السياسية في تونس. ما وقع من أحداث دامية في نهائي كأس تونس يوم 13 حوان 1971 بين الترجي و النادي الصفاقسي و ما تلا ذلك من قرارات رياضية في ظاهرها سياسية في عمقها ذهبت إلى حدّ حل النادي هو كشف لعمق أزمة النظام السياسي وصراعات أجنحته مع تأكل شرعية بورقيبة وهو ما حدا به إلى تجديد هذه الشرعية عبر تزكية رجل دولة من الصف الأول ليدير دواليب الترجي. عندما يكون الترجي في أزمة عميقة فإن ذلك مؤشر على أن النظام السياسي في أزمة عميقة. تصحّ هذه المقولة إلى حدود 2011

9 - مع الألفية الجديدة عرف الترجي ككل النوادي التونسية الكبرى بروز شكل جديد من المناصرة، يتجاوز الشكل التقليدي في الوقوف مع النادي. مجموعات " الألتراس" تكتسح المدارج وتبني لنفسها هوية شبابية عبر تكثيف المشاهد الاحتفالية وصنع الفرجة متجاوزة كل مؤسسات التنشئة الاجتماعية المتعارف عليها ومعلنة عن انخراط جزء لا يستهان به من هؤلاء الشباب في أشكال غير معهودة من الالتزام. الترجي هو أيضا أحد أهم المختبرات التي نقرأ داخلها التحولات السوسيولوجية في تونس.

10 - الترجي فضاء للتنشئة الاجتماعية، هو هوية عابرة للفروقات بمختلف أصنافها، تتشكل حوله المدن والأحياء، هو الحكايات التي تتحول إلى سرديات و مخيال. الترجي يعطي معنى للنجاح و للارتقاء الاجتماعي و هو مصنع للوجاهة و الإعتبار وهو إلى كل هذا ذاكرة وطنية، ذاكرة أفراد و جماعات، ذاكرة نجاح وذاكرة خيبات و أحداث دامية. الترجي ملتقى ثقافات من مشارب متعدّدة يأتيه اللاعبون والمدربون من أصقاع الدنيا بحثا عن التألق و الإمتياز. الترجي إلى هذا كله ليس مجرّد نادي رياضي إنه ظاهرة اجتماعية.

11- الترجي الرياضي التونسي ليس سوى ... مائة عام من البهجة.
فقد برزت علاقة بين «باب سويقة» والحركة الوطنية والترجي الرياضي مؤشراتها البارزة وجود مكتب المحامي الحبيب بورقيبة زعيما جديدا للحركة الوطنية في باب سويقة و اهتمامه الواضح بالفريق حتى إنه انتخب نائبا لرئيس الترجي من 1931 إلى 1933 يضاف لهذا انعقاد مؤتمر الحزب الحر الدستوري الجديد سنة 1937 في نهج «التريبونال».هذه العلاقة الرمزية بالفضاء ستجعل نادي الترجي أكثر التصاقا بهموم الحركة الوطنية وستجعل منه أيضا النادي الأكثر شعبية آنذاك

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115