حادث وحديث: في باخرة «أوليس» وما يحصل في تونس من عبث

لمّا كنت أشتغل في السكك الحديديّة التونسيّة في السنوات الثمانين من القرن الماضي،

صادف أن حضرت مجلس تأديب للنظر في ملفّ سائق قطار أخلّ ونام في القاطرة ولم يتوقّف في محطّة ماطر على خلاف التراتيب. ليلتها حصل اصطدام بين قطار واقف والقادم من بنزرت. قدّرت الخسائر بأكثر من 700 ألف دينار. لم يمت أحد ولم يصب السائق بجروح. تحدّثت الصحف عن الحادث طولا وعرضا وانتشر الخبر ورأيت الناس جميعا يستنكرون ما أتاه السائق...

كنت حديث العهد في السكك الحديديّة وككلّ الناس من حولي استنكرت الفعل الشنيع هذا وقلت «يجب تسليط أقصى العقاب على السائق المجرم»... حضرت مجلس التأديب وكان يضمّ أعضاء نوابا عن الادارة ونوّابا عن النقابة. ترأس مجلس التأديب المدير الاداري. جلست في زاويّة لأنظر كيف تدار مجالس التأديب وكيف سيقع الحسم في قضيّة هزّت الشركة والبلاد.
دعي السائق ليشرح ما أتاه من سوء ودعيت النقابة للدفاع عن الجاني. أمّا المتّهم، هذا الذي نام وأطلق القطار يجري لوحده، فكان يقول انّه يشتغل في الشركة منذ عقود وكان دوما عونا مخلصا، لا يتغيّب وأنّ الشركة الحديدية هي عائلته ولها يكن حبّا جمّا. الى غير ذلك من الكلام الفارغ. ثم يضيف. هو أب لصغار كثر وزوجته حبلى في السابع وما حصل من حادث قد يحصل لكلّ البشر وختم القول «سبحان الله الذي لا ينام ولا ينعس»... ثم جاء دور النقابة وهي تعلم علم اليقين أنّ ما أتاه السائق هو جنون وأنّ طرده من الوظيف هو أضعف العقوبة. كان الأولى أن يدفع به الى المحاكم ويقضي ما تبقّى من العمر في سجن مظلم... لا ترى النقابة ما كنت أرى وقد بعثت النقابات للدفاع عن الزملاء مهما فعلوا من لصوصيّة، من فسق، من سوء، من خراب مبين...

ماذا قالت النقابة؟ قالت انّه من ألطاف الله ان لم تسقط مع الحادث أرواح بشريّة وهذا من كرم الله تعالى الذي نظر بعين الرحمة لعائلة السائق. النقابة تحمد الله وعلى الشركة أيضا أن تحمد الله كثيرا على هذه النعمة. لم تسقط أرواح بشريّة ولم يكن هناك جرحى وهذا فضل من الله كبير.. أليس هذا نعمة ربّانيّة؟ يجب أن ندرك أنّ كلّ انسان مهدّد بما قد يحصل من غفوة والله تعالى يؤكّد أنّ ما كان من مصيبة في الأرض الا وهي من صنيعه ولا مردّ لما شاءت السماء و«عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم»... الى غير ذلك من الكلام الفارغ.
كنت في زاويّتي استمع ولا حقّ لي في التدخل. كنت أرى كيف يقع التبرير لما لا يجب وكيف قلب الكلام وافراغ الاشكال والدفع بالناس الى التخاذل، الى عدم تحمّل المسؤوليّة... ثم كان قرار مجلس التأديب واعتبارا لأقدميّة الرجل ولما له من صغار وجنين في بطن أمّه، قرّر مجلس التأديب معاقبة الجاني بطرده شهرا من الزمن ليعود بعدها الى مواصلة شغله كما كان وكأن شيئا لم يقع.

* * *
ما حصل لقطار ماطر وما كان من بعده للسائق من عفو والعفو عند المقدرة خصلة محبّذة، سوف يحصل مع ما وقع للباخرة التونسيّة أوليس... في الصائفة الماضيّة، في عرض المتوسّط ، في يوم بلا موج وبلا سحب، تصطدم الباخرة التونسيّة في وضوح النهار وعلى مرأى ومسمع كلّ البحّارة بباخرة أخرى راسيّة. نعم، هذا ما حصل في عرض البحر الشاسع.
غريب ما جرى للباخرة التونسيّة. غريب أمر البحّارة. هل هذا ممكن؟ هل هناك أفظع من هذا الحادث؟ انّه لأمر مذهل. انّه الاعجاز التونسيّ. انّه يا سي حمّادي الرديسي: «الاستثناء التونسي»...

رغم فظاعة ما جرى، ترى أحدهم من النقابة يضحك، يستهزئ. يقول بهامة. ينعت الناس بما لا يوصف. يتحدّى لأنّه يعلم أن لا أحد قادر على مسّه. من يقدر على مسّه؟ لماذا مسّه؟ ماذا جرى؟ هذه حادثة في البحر والحوادث، كلّ يوم، تحصل. أين الغريب في الحادث؟ أين العجب؟ هل هي الأولى في البلد؟ آلاف الحوادث كلّ يوم تحصل. ثمّ هذه، يا سيّدي، مشيئة الله ولا مردّ لمشيئته. هذا قضاء وقدر. ألا تفهم... ما حصل هي خسارة ماليّة. والمال مهما كانت مبالغه يعوّض. سوف يدفعها الشعب وهو، على كلّ حال، دوما يدفع... لا الحكومة ولا النقابات ولا الشركة العموميّة سيلحقها ضرّ أو هي ستفلس، ولا هي ستدفع. كلّها من الضرائب. كلّها من الشعب والشعب نسّاء، غفور، قلبه رحيم. فقل عفا الله عمّا سلف ودفع الله ما كان أعظم... هل هناك أعظم من ارتطام باخرة بأخرى في أرجاء بحر شاسع، نهارا، في يوم لا ريح فيه ولا سحب؟

لن يعاقب بحّارة «أوليس». لا يعاقب ولا يجازى عمّال القطاع العامّ. في القطاع العام، افعل ما شئت. تغيّب. اضرب. خرّب. افسد في الأرض... لن يمسّك ضرر. أنت دوما محصّن. تحميك النقابات وغياب السلط... ان كان هناك عقاب فهو فقط للاستهلاك العام. حتّى يعتقد الناس أنّ في البلاد حاكما. أنّ في الشركة التونسيّة للملاحة ادارة... نحن شعب رحيم. نسامح والمسامح كريم. نحن لا نحمل غيظا ولا نرضى بقطع خبزة أحد ولا بمجازاة أحد. الجزاء من فعل الله وهو وحده المحاسب. فالعفو من شيم الكرم والشهامة. ونحن أمّة العرب لنا كرم وشهامة...

يقول يوسف بن رمضان مدير عام الادارة العامة للنقل البحري التجاري، بعد ما كان من تفاوض مع السلط وجدل مع النقابة، تقرّر، والله أعلم، طرد الشاب النقابي المتهوّر بشهرين والبحّار صاحبه لمدّة شهر واحد... كذلك، نغلق الملفّ وننتهي من هذه الحكاية ويعود كلّ الى بيته فرحا ويعود الدرّ الى معدنه.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115