ظاهرة تنامي الفوارق الاجتماعية والتهميش الاجتماعي في اغلب البلدان . فلئن شهدنا تراجع الفوارق الاجتماعية بين البلدان وتراجع معدلات الفقر نتيجة النمو والتطور الاقتصادي الذي عرفته البلدان النامية فإن الفوارق الاجتماعية دخلت البلدان لتصبح السمة البارزة للحركة الاجتماعية وتزيد من الانقسام بين الفئات الاجتماعية وتساهم في تهميش الطبقات الشعبية .
وقد ساهمت العولمة في تنامي هذه الفوارق الاجتماعية لصالح الفئات الاجتماعية الجديدة المرتبطة بالقطاعات الاقتصادية المندمجة في هذه الحركة وخاصة القطاعات المالية والمضاربة في الأسواق المالية. كما لعبت كذلك الثورة التكنولوجية دورا هاما في دعم هذه الفوارق من خلال المداخيل الكبيرة التي حققتها وضمنتها للفئات الاجتماعية العاملة في هذه القطاعات . وأصبحت المجتمعات تعيش على وقع هذه الفوارق بين الفئات الاجتماعية التقليدية من الشرائح العمالية والبرجوازية الصغيرة المرتبطة بالصناعات التقليدية الموروثة من النظام «الفوردي» «fordiste» والتي تراجع دورها في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة وتم تحويل جزء كبير منها إلى البلدان النامية من جهة والفئات الاجتماعية الصاعدة والمرتبطة بالقطاعات الاقتصادية الجديدة والتي عرفت تطورا كبيرا بارتباط بحركة العولمة والثورة التكنولوجية وقد نتج عن هذا التطور الاجتماعي وتنامي الفوارق الاجتماعية الكثير من الاستياء والرفض في اغلب هذه المجتمعات .
ولم تقتصر هذه التطورات والتحولات على الجوانب الاجتماعية بل شملت كذلك الجوانب الاقتصادية . ولئن عرفت بداية السنة المنقضية بعض التحسن على المستوى الاقتصادي جعلت عديد الخبراء وتحاليل وقراءات المؤسسات الدولية تعلق آمالا كبيرة على مستقبل الاقتصاد العالمي فإن هذه الآمال سرعان ما تراجعت ليعود معها التشاؤم وفقدان الثقة في قدرة الاقتصاد العالمي على العودة لنسق النمو العالي الذي عرفته قبل الأزمة العالمية لسنوات 2008 و2009 والتي كادت تعصف بأسسه .
وقد ساهمت الحروب التجارية التي أطلقتها إدارة الرئيس الأمريكي ترامب مع أوروبا والصين في رفع منسوب هذا التشاؤم حول مستقبل الاقتصاد العالمي . كما لعبت كذلك السياسات الاقتصادية المتبعة في اغلب الدول دورا هاما في هشاشة النمو العالمي . ولئن ساهمت الأزمة الاقتصادية العالمية لسنوات 2008 و2009 في تراجع اغلب حكومات وحتى المؤسسات الدولية عن السياسات التقليدية التقشفية وتبني سياسات اقتصادية توسعية فانه سرعان ما وقع التراجع عن هذه الاختيارات لتعود حليمة إلى عادتها القديمة وتراوح السياسات الاقتصادية في الموقع القديم.
وستكون لهذه التطورات الاجتماعية والاقتصادية انعكاسات سياسية كبيرة لتعرف اغلب بلدان العالم حركية وهزات سياسية لم تشهدها منذ الحرب العالمية الثانية . فقد عرفت اغلب البلدان تراجع وهزيمة الأحزاب التقليدية المرتبطة بالنظام السياسي والاجتماعي الموروث من الحرب العالمية الثانية . وصاحب هذا التراجع وهذه الأزمة تطور والتأثير المتزايد للحركات الشعبوية والتي أصبحت تقض مضاجع وأسس النظام الديمقراطي لتطرح نفسها بديلا عن النخب التقليدية المنقطعة عن الحركة الشعبية .
لقد وضعت هذه التطورات السياسية النظام السياسي الديمقراطي في موضع النقد والتساؤل . وأثارت الحركات الشعبوية الكثير من الجزع والخوف باعتبار التجارب التاريخية والدور الذي لعبته هذه الحركات في المآسي التي عرفتها الإنسانية بصفة خاصة اثر صعود الحركات الفاشية والتي قادت العالم إلى الحرب العالمية الثانية .
هذه التطورات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الكبرى والخطيرة التي عرفها العالم خلال السنة المنقضية تطرح التساؤل حول المستقبل والتطورات التي يمكن لنا أن نشاهدها ونلامسها خلال السنة الجديدة.
والسؤال الأساسي يكمن في رأيي حول قدرتنا على إيقاف النزيف وإمكانية الانطلاق في تجربة إنسانية وتاريخية جديدة خلال هذه السنة .
ولئن تفتح الأزمة الشاملة والعميقة العالم على كل الاحتمالات فإننا نريد في هذه المقالة تقديم بعض الأفكار والأسس التي ستمكننا من تجنب الأسوأ وانتظار الأفضل . والمسألة الأساسية الأولى والتي يجب إعادة بناؤها تخص السياسة والتعبيرات الديمقراطية في المجتمعات الحديثة . لقد عرفت المجتمعات الإنسانية خلال القرن العشرين نظرة معينة للسياسة باعتبارها مشاريع مجتمعية كبرى تسعى لتغيير الواقع المعاش نحو الأفضل . وهذه النظرة السائدة هي وليدة الحداثة والتي آمنت ودافعت عن مبدأ التقدم الذي يقود الصيرورة التاريخية . فالمجتمعات الإنسانية حسب الحداثة وفلسفة التقدم تشهد تطورا وتقدما تتمكن بموجبه من المرور إلى درجات أرقى تمكن الإنسانية من الدخول في مراحل حضارية راقية ومتطورة . ويلعب العمل السياسي دورا أساسيا في هذا المجال باعتباره يؤطر عملية التغيير الاجتماعي من خلال عمل الأحزاب السياسية والمنظمات الاجتماعية .
إلا أن هذه النظرة المتفائلة للعمل السياسي شهت الكثير من النقد وشيئا من الفتور مند نهاية الحرب العالمية الثانية والتجربة الفاشية والتي قادت الإنسانية إلى أحلك فتراتها . وعرفت الأفكار والفلسفات النقدية للحداثة تطورا كبيرا منذ هذه الأيام – وسينصب نقدها على مسؤولية المشاريع الكبرى والرؤى السياسية الطوباوية في دفع العالم نحو تجارب إنسانية مفجعة والعودة نحو التسلط والأنظمة الكلية . وسيتواصل هذا النقد ليشمل السياسة والعمل السياسي اثر انتصار فلسفات ما بعد الحداثة في السنوات الأخيرة والتي سترفض بكل قوة العمل الجماعي المنظم والنظريات الكبرى لتدعو الناس إلى الاهتمام بالمسرات الصغيرة والابتعاد عن الشعارات الجوفاء والفضفاضة والتي لم تجن الإنسانية من ورائها سوى المصائب والحروب .
كما ستساهم العولمة في تدني قيمة السياسة والعمل السياسي وتعمق في أزمة التعبير الديمقراطية والأحزاب السياسية التقليدية . وستبرز في خضم هذه التحولات الكبرى نظرة جديدة للعمل السياسي ليقتصر على الطابع التكنوقراطي في صياغة السياسات العامة . كما ظهرت في هذه الفترة طبقة سياسية جديدة افتراضية وبعيدة كل البعد عن الحركة الاجتماعية بل كلها ازدراء لهذه الحركة والفئات الشعبية .
وقد نتج عن هذه التطورات العميقة أزمة سياسية عميقة وقطيعة كبيرة بين النخب السياسية الجديدة ومجتمعاتها وستفقد في الأثناء اشكال التعبير مكانتها وقدرتها على التعبئة لتصبح الانتفاضات العنيفة هي الأشكال السائدة للتعبير عن رفض السياسات السائدة .
هذه الأزمات السياسية المتتالية فتحت الباب لإعادة النظر في بعض قناعاتها السابقة وخاصة إلى تجديد رؤيتنا السياسية وقواعد العمل السياسي . فقد حان الوقت لإعطاء السياسة في مفهومها السامي كرؤيا ونظرة شاملة للمجتمع وللتغيير الاجتماعي . وهذه الرؤية ستساعدنا في فترة الأزمات التي تعيشها الإنسانية ومرحلة التفتت والانقسام التي تمر بها المجتمعات إلى إعادة بناء الرابط المشترك وإرجاع الأمل في قدرة الإنسان على تغيير واقعه نحو الأفضل .
المسألة الثانية والتي تتطلب إعادة النظر من اجل الخروج من الأزمات التي يعيشها العالم تخص مسألة العقد الاجتماعي الموروث منذ الحرب العالمية الثانية والذي يعتمد على مبدأين أساسيين : العلاقة الوثيقة بين الإنتاجية وتوزيع الثروة والتعاون بين الأجيال . لقد لعب هذا العقد الاجتماعي دورا أساسيا في التطور والرقي الذي عرفته المجتمعات الإنسانية خلال العقود الأخيرة ولم يقتصر هذا العقد أو ما نسميه «le compromis fordiste» والذي شكل الركيزة الأساسية لدولة الرفاه على المجتمعات المتقدمة بل تم تطبيقه في اغلب البلدان النامية .
إلا أن هذا العقد دخل في أزمة عميقة منذ بداية سبعينات القرن الماضي مع الأزمة الاقتصادية وتراجع الإنتاجية وتصاعد الفوارق الاجتماعية . وكان من نتائج هذه الأزمات المتتالية نمو البطالة والتهميش .
وقد حاولت عديد البلدان إعادة بناء هذا العقد ولعل التجارب والسياسات النيوليبرالية كانت الأكثر شراسة في محاولة الخروج من هذا العقد وبناء علاقات اجتماعية جديدة تعتمد على السوق والمنافسة عوض الدور التعديلي للدولة والتآخي والتآزر والتعاون المجتمعي .إلا أن هذه المحاولات لم تعجز فقط عن بناء عقد اجتماعي جديد بل ساهمت في تعميق الفوارق والانقسامات الاجتماعية ومعهما مخزون السخط والرفض والاستياء .
ولابد هنا من إعطاء هذا الجانب قيمته وجعل إعادة بناء العقد الاجتماعي احد أولويات هذه السنة لإعطاء الأمل في قدرة الإنسان على الخروج من هذه الأزمة وفتح الأفاق أمام تجربة إنسانية جديدة.
المسألة الثالثة تخص العلاقات الدولية والتعاون بين الدول بالرغم من الحرب الباردة التي عرفها العالم اثر الحرب العالمية الثانية فقد عرفنا فترة من التعاون بين الدول وشكلت المؤسسات الدولية الإطار الذي ساهم في بناء هذا التعاون . وقد ساهم هذا التعاون الدولي في فتح فترة من الاستقرار السياسي بالرغم من بعض الهزات ساهمت في النمو الاقتصادي العالمي وفي التطور الاجتماعي والسياسي.
إلا أن هذه الفترة عرفت نهايتها في السنوات الأخيرة ليدخل العالم مرحلة من الفوضى والحروب والنزاعات والصراعات لعل آخرها الحروب التجارية كالتي بدأت في شنها إدارة الرئيس ترامب على أوروبا والصين .
وتشكل في رأيي العلاقات الدولية والفوضى التي يعرفها العالم كذلك احد مستويات العمل والإصلاح من اجل الخروج من الأزمة العالمية التي نعيشها اليوم.
تعتبر السنة الجديدة سنة محورية في ظل الأزمات والصراعات التي يعيشها العالم والتي شكلت السنة المنقضية مسرحا لتطورات دراماتيكية قد تعصف باستقرار العالم إذا لم نتدارك أخطارها . والخروج من هذه الأزمات يتطلب إعادة بناء السياسة وإعطائها دفعة الأمل وشحنة الثقة في المستقبل وتجديد العقد الاجتماعي واعادة بناء علاقات التعاون الدولي . فالسياسة والعقد الاجتماعي والتعاون تشكل في رأيي مداخل أساسية لتجربة إنسانية جديدة تقطع مع الأزمات والهزات التي يمر بها العالم .