من السماء أرضا. في الركن، على اليمين، أخذنا مكانا. قبالتنا الركح. أمامي ومن حولي امتدّت الرؤوس. تملأ الدنيا. كلّ هؤلاء البشر جاؤوا الى الأوبرا؟ أكثر من ألف عبد جاؤوا لسماع موسيقى سنفونيّة. ما كنت أحسب أنّ لهذا الفنّ في تونس عشّاقا. كنت أعتقد أنّ الفنّ السنفونيّ صعب الادراك. لن يلقى في بلاد العرب والأعراب قبولا وحظوة. لتونس والعرب فنون أخرى. مختلفة جدّا. لا تربطها بالسنفونيّات صلة. الفرق بين هذه وتلك كالفرق بين الأرض والسماء العليا. قلت: جاء الناس هنا جبرا وقد ضاقت بهم الأيّام ضجرا. كلّ شيء هو اليوم مغلق فجاؤوا الى هنا لقتل الوقت، لقضاء عشيّة باردة...
علا صوت خفيّ من المصدح وقال في عربيّة مهذّبة وبعدها بالفرنسيّة وبالأنقليزيّة ليقول للناس ما في البرنامج من قطع موسيقيّة مختلفة ودعينا الى السكوت وغلق الهواتف والاستماع الى ما سوف يأتي من نغم تحت قيادة رئيس الفرقة الفرنسيّ : فلاين بوي. لا أعرف الرجل ولا أدري ما سوف يكون له من انتاج.
* * *
دخل الركح أوّلا أفراد الجوقة وكانوا كثيرين. عددتهم فكانوا نحو خمسين نفرا. جلس كلّ في مكانه قبالة الجمهور وفي يده آلة موسيقيّة. هي آلات غربيّة المصدر. لا ألقى لها في لغة الضادّ مسمّى... لغة الضاد لغة ثريّة. هي، بعضهم يضيف: ثريّة جدّا. هذا أعلمه والكلّ اليوم يؤكّده ويكرّره. فيها مئات المفردات للجمل والناقة. فيها مئات المفردات للرمل والنخل. لكن، لا مفردة واحدة فيها لتسميّة ما أرى من آلات موسيقيّة. أنا الآن في مدينة الثقافة بتونس. أمام فرقة أوبرا. لست في الصحراء ولست سارحا بالجمل والناقة، فهل من معين لألقى ما في أدوات الجوقة من تسميّات عربيّة، بيّنة؟ دون مفردات، لن أقدر عن القول ولن أكتب سطرا. لا تقولوا انّي قصّرت في الكلام ولم أبيّن ما كان بين أيدي العازفين من أدوات... حتّى أبلّغ، أقول:
رأيت في الجوقة طبلا كبيرا ولم أر نايا ولا عودا ولا مزمارا. هي آلات أخرى لم يذكرها ابن منظور في لسانه ولا معجم المعاني في شروحاته... أرى العازفين أمامي، من ذكر وأنثى. أمّا ما كان بين أيديهم ومن خلفهم من أدوات فهذا لا يعلمه الا الله تعالى وهو العارف القدير، الى غير ذلك من الأسماء الحسنى...
* * *
دخل المايسترو فوقفت له الجوقة احتراما ثمّ انطلق العزف وشرعت الاركستر السنفوني التونسي في الأداء. كنت في ريبة لما سوف يأتيه الجمهور. وفي الجمهور التونسيّ دوما غوغاء وفوضى. على خلاف العادة، في القاعة صمت مطبق. الكلّ آذان معلّقة. الكلّ في الظلمة يتابع في حرص ما جاء من لحن، ما كان في السنفونيّة من مقاطع مختلفة. كان المايسترو، يداه، في ارتفاع ونزول متّصل. كان يهتزّ وبيده عصاه يوجّه بها العازفين والعازفات. الكلّ يعزف في نظام، في تناسق، في انسجام. كانت الموسيقى تصعد الى الأفق ثم تهوي. تخفت لحظة ثم تعود قويّة تزمجر، تزعزع الأرض، تمشي الى قبّة الملك. كان الكلّ يستمع في صمت، في خشوع. كنت ماسكا بيدي قلبيّ. شادّا رأسي. أنظر. أستمع. تدخلني الموسيقى من كلّ جنب. أغرق في اليمّ. تهزّني بلطف، بعنف، تحملني الى الصبا، الى العرش، الى غابر الزمن. ها أنا أرى الأنا وما فيه من عافيّة وعلّة. من تناقضات مختلفة. ترى في فمك الحياة. هي حنظل مرّة ومرّة هي تفّاح وسكّر. يشقّك الزمن طولا وعرضا. أنت في عذاب ووصال، في لذّة وحرمان. الموسيقى السنفونيّة هي الدنيا. فيها نور وظلمات، ايمان وعصيان. موت وبعث...
* * *
ثم غنّت التونسيّة الروسيّة أميرة دخليّة وكانت شابّة في مقتبل العمر لها صوت من زجاج وماء رقراق. لا أدري بالضبط ما أدّت من غناء ولكن كان لها عليّ وقع وأثر. هي حقّا رائعة هذه البنيّة. ليت التونسيين يتزوّجون من الروسيّات حتّى نرى مثل هذه الشريحة من العباد... ثم جاء من بعد شابّ تونسيّ لا أعرفه. اسمه ذاع في الناس: هو حسّان دوس. هو شابّ قصير القامة. صغير. حذو بافاروتي لن تر له جسما. تسكنه حركة وفي فؤاده شعلة من لهب. أمّا صوته فهو كبير، قويّ لا يشدّه جبل ولا يحدّه سماء. كان لابسا سترة مطرّزة وشعره أصفر. لا أدري كيف يقدر الشابّ على اخراج تلك القوّة من حنجرته الصغيرة. رغم ذلك، كان الدّوس يؤدّي أجمل الألحان. رأيته في مرح. في وجهه سرور بان وفي عينيه نار... ثم جاء دور الكورال وقد ضم نحو 45 نفرا أغلبهم من النساء. أفرح لمّا أرى النساء متفوّقات على الرجال. غنّى الكورال عاليا بعض القطع المتواترة بين الناس وابتهج الجمهور بها أيمّا ابتهاج وصفّق لها طويلا....
في تلك العشيّة، عشت أحسن الاحتفالات ورأيت نساء ورجالا في تحفّز يؤدّون سنفونيّات لا شرقيّة ولا عربيّة بل هي وحي من العرش، من السماء العليا. أمّا رئيس الاوركستر فكان على دراية بما كان يعزف من ألحان وبعصاه الصغيرة استطاع تسيير هذا الجيش من الفنّانين والعازفات. ليس من عادة التونسيين الانضباط. بل غالبا ما أراهم في تبعثر، في لامبالاة. في هذه العشيّة وبفضل السنفونيّات، رأيت الكلّ في جدّيّة وانضباط. كلّ يأتي دوره كأفضل ما كان تحت راية واحدة. تحت عصا صغيرة مسكها المايسترو في يمناه... شكرا للمايسترو. شكرا لكلّ الفنّانين جميعا. شكرا لمدينة الثقافة بتونس لما مكّنت من امتاع.