وكانت أجواء تلك المرحلة التي تزامنت مع تسلم الإسلاميين حكم البلاد في إطار ما عرف ب"الترويكا" مناسبة لتغذية هذا الالتباس لعدة اعتبارات يطول شرحها، لعل أهمها وجود قيادات يسارية لديها حسابات عقائدية موروثة من زمن الحرب الباردة، وكذلك وجود رواسب فكرية من زمن الرئيس بن علي الذي استند في استمراره الى حد كبير على القطيعة شبه الكلية مع الحركة الاسلامية.
لكن عددا من القيادات الندائية، في مقدمتهم الرئيس المؤسس الاستاذ الباجي قائد السبسي، رأى ان الحركة الجديدة التي طرحت نفسها باعتبارها نسخة معاصرة وجديدة "ما بعد ثورية" للحركة الوطنية الاصلاحية التونسية لم تخلق لخوض معارك كسر العظم، اي معارك الوجود لا معارك الحدود، بل خلقت لصناعة "التوازن السياسي" الضروري للحفاظ على مسار الانتقال الديمقراطي ولضمان الشروط الضرورية للتوقيع على العقود السياسية والقانونية والاجتماعية الجديدة التي يجب ان تصاغ ويصادق عليها بناء على توافقات كبرى تجد فيها الأغلبية العلمانية-الاسلامية نفسها ومصالحها، وعلى هذا الاساس جرى تغليب الرؤى الاصلاحية داخل الحركة على حساب الرؤى الأيديولوجية المغلقة، وكان ذلك عاملا مساعدا على انطلاق الحوار الوطني وولادة دستور الجمهورية الثانية وتشكيل الحكومة الانتقالية والوصول بالبلاد الى اول انتخابات برلمانية ورئاسية ذات مصداقية، فَلَو لا المرونة السياسية لحركة نداء تونس ما كانت كل هذه الإنجازات التاريخية لتتحقق، وما كانت هذه التجربة الاستثنائية لتحافظ على تصميمها وعنادها في مجال عربي اسلامي ممانع، لولا هذا التوافق التاريخي الذي ابرمه الشيخان وساندته حركتاهما رغم المنغصات والعقبات والرواسب السلبية.
قبل انتخابات اكتوبر 2014، ونحن نتوجه نحو فوز انتخابي متوقع، كنت قد نبّهت القيادة الندائية الى امرين.
أولهما ضرورة ان نصوغ هوية حزبية واضحة بعيدة عن "الضدية"، لتعريفنا لانفسنا يجب ان لا يقوم على اساس سلبي مفاده "اننا مجرد خصوم للنهضة الاسلامية"، فنحن برأيي ننتمي الى عائلة سياسية عريقة، سابقة في وجودها على عائلة الاسلام السياسي، سواء من الناحية الفكرية (النصف الثاني للقرن التاسع عشر) او من الناحية التنظيمية الحزبية (1920)، ونمثل الفكر الوطني الذي صاغ سرديات النضال ضد المستعمر وبناء الدولة المستقلة، وكان رأيي وما يزال ان النداء بهذا المعنى قادر على صياغة السردية الجديدة للحركة الوطنية الاصلاحية التونسية للقرن الواحد والعشرين كمساهم اساسي في بناء الجمهورية الثانية بأبعادها الثلاثة الرئيسية: الدولة المدنية والنظام الديمقراطي والتنمية المستدامة.
والى ذلك، نبهت ايضا وقبل اعلان الفوز الانتخابي، في مقالات مكتوبة منشورة ومداخلات مباشرة خلال مناسبات حزبية متعددة، الى ضرورة التحول في أسرع الأوقات من حركة الى حزب مكتمل المؤسسات عبر مؤتمر ديمقراطي شفاف ونزيه يحفظ التنوع الفكري والسياسي الندائي من جهة، ويستبق الإشكاليات التي سيخلقها الفراغ الذي سيخلفه انتقال الرئيس المؤسس لرئاسة الجمهورية من جهة ثانية.
وعلينا الاعتراف اليوم، باننا لم ننجح الى الان في إنجاز كلا المشروعين، اي بناء تعريف إيجابي للنداء وتحويله من حركة الى حزب، وهو ما انجرت عنه أزمات متلاحقة ما فتئنا نعيش على وقعها الى اليوم، وهو ما اوهن الجسم الندائي وأدى الى ذبوله وتراجعه.
لكن الفكرة الندائية على الرغم من كل الجراح، ما تزال قوية، وكذا المشروع الندائي ظل بغير بديل مقنع في المدى المنظور، وقد باءت جميع محاولات تعويضه الى حد الان بالفشل، وهو ما يدفع الى قناعة مفادها ان انقاذه مما تردى اليه ما يزال ممكنا، ومن هذا المنطلق الدعوة الى استئناف بنائه على اساس قراءة صائبة للاستحقاقات الوطنية المستقبلية، لا على اساس الرؤى الضيقة والحسابات الفئوية المحدودة والتقديرات الانتخابية المنحرفة، وجميعها يستبطن الدعوة الى اعادة توجيه النداء نحو الخصومة الأيديولوجية والسياسية الفاجرة التي قد تكون ذات حظ في التأثير على الرأي العام سنة 2014، لكنها لن تمثل اليوم الا مغامرة تريد ان تتجاوز اربع سنوات من التوافق بين الحزبين الكبيرين بجرة قلم.
وبعبارة اخرى أقول: إنه لا حاجة ولا مصلحة لنداء تونس او لتونس او للديمقراطية في محاولة البعض جرّ عقارب الساعة الى الوراء واقناع التونسيين من جديد باننا كنداء نمثل "الضد الايديولوجي" لحركة النهضة، فهذا لن يكون عند غالبية التونسيين سوى محاولة للضحك على الذقون ولن ينطلي حتى على الاغبياء والمغفلين، بل لقد اثبت السلوك السياسي لجميع المنشقين عن نداء تونس بحجة " توافقه مع النهضة" ان هذا المنهج لم يعد يقنع احدا حتى اشدّ خصوم الإسلاميين عداوة ممن أسميتهم مرة "يسار الكافيار وبقايا الاستعمار"، ومن باب أولى اذاً ان نطرح انفسنا كما نحن فعلا ك"ضمانة التوازن السياسي"، لان ضعف النداء قد اثبت فعلا انه العلامة الاولى لاختلال التوازن السياسي والخطر الأكبر على الديمقراطية الناشئة والمهدد الرئيسي للتجربة التونسية الرائدة في التحول الديمقراطي المدني السلمي.
علينا ان نؤمن كندائيين باهمية دورنا في حماية الجمهورية الثانية بعناوينها الاساسية الثلاثة المذكورة، فنحن ضرورة فعلا لتواصل الانتقال الديمقراطي واستمرار الدولة المدنية وتهيئة الظروف المناسبة لإطلاق مشروع حضاري وطني للتنمية المستدامة، ودون هذا الدور سندفع ببلادنا نحو المجهول وسنضرب منجزات السنوات الماضية في الحرية وسنحد من إمكانيات التقدم والتنمية، ولا شك ان مساهمتنا في التأسيس لتنافس جديد يقوم على قاعدة البرامج التنموية لا المزايدات الأيديولوجية سيثبت لمواطنينا نضجنا الفكري والسياسي واستحقاقنا عن جدارة تبوأ ادوار طليعية لطالما قامت بها حركتنا الوطنية الاصلاحية على مدار تاريخنا الحديث والمعاصر.. علينا ان لا ننصت للشيطان الانتخابي الذي يدعونا الى إمكانية تكرار التاريخ، فلكل معركة موقعها في التاريخ والجغرافيا والفكر والسياسة.