قديمان أرادا بمناسبة العام الجديد إهدائي وردة. ليس من عادتي حضور الاحتفالات. مثل كلّ المتقاعدين ومن مشى به الزمن، أفضّل القعود في البيت. أحبّ الركون. أخشى الهرج. لا أحبّ ملاقاة الناس ومع الناس ألقى ضيقا وحرجا. هو العمر. أنا اليوم، من الدنيا، أنسحب...
لبّيت الدعوة على مضض. لا شيء عندي يومها أفعل. في تونس، في يوم غرّة شهر جانفي، كان هناك كساد ضارب. هناك ريح باردة والشوارع خاليّة. ها أنا وزوجتي ولطيفة وعمار نمشي عشيّة الى مدينة الثقافة. لم أزر المدينة ولو مرّة. ها أنا الآن في أروقتها، أتجوّل. أنظر على اليمين وعلى اليسار. الى الأعلى والى الأسفل. مدينة الثقافة مدينة فخمة. هي إنجاز ضخم. ما كنت أحسب أنّ مدينة الثقافة هي بمثل هذا البهاء، بمثل هذه العظمة. هي إنجاز كبير. هي مكسب. في المدينة رخام ومرمر. فيها بهو كبير مزيّن وهذه أقواس دائرة. هي فضاء شاسع يلفّه نور متدفق. فيها مدارج ومسارب وقاعات وأنفاق واسعة. هذا نخل أخضر شامخ. رشق في الأرض. يزيّن...
* * *
كان الناس من حولي في أبهى لباس. كانت الوجوه مضيئة والأعين مشرقة. كلّ لبس أحسن ثوب. تزيّن بأحسن زينة. كم هنّ جميلات الصبايا والنسوة. أنظر في الناس على اليمين فتدعوني الوجوه البهيّة من كلّ جهة. حيث أولّي وجهي ألقى جمالا وأريحيّة. هل هذه وجوه تونسيّة؟ تصفّحت الوجوه مليّا. أصغيت الى ما كان من قول. توقّفت أنظر. أفكّر. نعم هي وجوه تونسيّة. نعم هؤلاء هم من الشعب التونسيّ. جاؤوا لسماع الأوبرا. هذا شباب يرتقي المدارج بسرعة. هؤلاء كهول من كلّ رهط. أولئك شيب في خطواتهم ثقل وفي أعينهم فتور. امتلأ البهو عبادا. شدّت نظري النساء والصبايا. أمسح وجهي. أحدّق من جديد. أملأ عينيّ نورا ودفئا. قلبي يخفق. لماذا قلبي يخفق؟
للصبايا جمال فيّاض ولهنّ أجسام فيها فتوّة. كلّهنّ أهبة وتطلّع. اشتدّ ولهي. نسيت أنّي جئت مع زوجتي. عاد اليّ شبابي. كنت أعتقد أنّه انتهى ذاك العمر. لم ينته ذاك العمر. ها أنا شابّ أرعن. نسيت عمري. أحيانا، دون إدراك ولا سوابق، تجري بك السنين الى الزمن الأوّل. تعيدك الى ذاك الزمن. ها أنا شابّ في الجامعة. ها أنا في اجتماع عامّ. في البنات أصرخ ناري وولهي. ها أنا أنظر في الجماهير الغفيرة. أتصفّح. في كلّ وجه أرى الشمس تمشي والقمر يطلع. في الجماهير حولي أرى نورا يضيء وسيرا أبيّا ونظاما لا تمسّه فوضى ولا جنّ. لا ازدحام ولا عضرطة ولا كلام بذيء. كلّ الوجوه مهذّبة. في الوجوه سماحة المفتي ووداعة الصبية. هل هو يوم القيامة؟ هل هذا هو الشعب المختار في الجنّة؟ أحببت البهو وما فيه من جمال يتدفّق. أحببت الدار وما فيها من بشر مهذّب. أحببت، على غير العادة، الشعب التونسيّ...
* * *
دار الثقافة بتونس هي اليوم عندي معلم. لا فقط لما كان من بنيان فخم ومن أجنحة مختلفة بل خصوصا لما تأتيه الدار هذه من مهمّات مهمّة. في زمن أصبح فيه المال والانانيّة هما المرجع، بناء مثل هذه الدار هو نصر لنا ومفخرة. فشكرا لمن ساهم، من بعيد أو من قريب، في التأسيس لهذا المعلم. شكرا للمعزول بن عليّ وفي أيّامه انطلق المشروع وشكرا لمن واصل بعده السير ولم يتوان ولم يبخل بالمساعدة...
يبقى إشكال مهمّ يجب اليوم حلّه. كيف الإبقاء على هذا الإنجاز وكيف دفعه حتّى يشعّ ويواصل الجهد لنشر الثقافة والتفتّح؟ كم من إنجاز مهمّ أتته البلاد ثمّ أهمل وأكله النسيان ومسّته رداءة وتعثّر. كم من دار وكم من مسرح وكم من ملعب، دفعت فيها المجموعة الوطنيّة مالا وفيرا ثم أصابه النسيان وأكله السوء؟ أنظر مثلا في الملعب الأولمبيّ برادس وما كان من بناء حوله. أنظر في دور الثقافة وديار الشباب وما أصاب الكثير منها من إهمال ومن سقط...
كيف نضمن مستقبل مدينة الثقافة بتونس؟ هل تقدر وزارة الثقافة على التصرّف في مثل هذه؟ هل تقدر على ضخّ ما يكفي من المال حتّى يتواصل نشاطها دون عسر ودون تعثّر؟ لا أعتقد. في الوزارات إداريّون لا شأن لهم بالثقافة. لهؤلاء همّ مختلف وهدف آخر. في الوزارات تقلّبات كثيرة وإنفاق يتزايد. في يوم، ربّما، قد تختلّ الموازين وتبخل الوزارة ويصيب الدار إهمال وتنتهي فيها الحياة والحركة... كيف نضمن حياة دور الثقافة؟ كيف نبقي عليها رغم العسر وقلّة ما في اليد؟ هذا هو السؤال المحيّر.
لن تنجح وزارة الثقافة في تسيير مدينة الثقافة. الوزارات دوما سيّئة التصرّف. ليس من شأن الدولة، الثقافة. في ما أعتقد، يجب رفع أيدي الادارة على كلّ دور الثقافة. يجب تنحيّة سلطة الوزارة. يجب تكليف لجان خصوصيّة، مستقلّة. إليها يعود التصرّف وعليها إيجاد ما يلزم من مال ومن دعم. مع الابقاء على المراقبة...
(يتبع)