المساحة التونسية ورغم صغر حجمها فإنها تتسع لعيش قرابة إثني عشر مليون نسمة أي ما يعادل تقريبا عدد أفراد الشعب التونسي.
تحصلت رواندا على استقلالها يوم 26 أكتوبر 1961 لتحصل بعد ذلك خلال سنة 1963 مجزرة في صفوف قبيلة التوتسي ذهب ضحيتها الآلاف، تلتها مجزرة رهيبة سنة 1994 أدّت إلى مقتل ثمانمائة ألف شخص من مختلف الأعمار حسب احصائيات صادرة عن الأمم المتحدة فتمت محاكمة المسؤولين السياسيين والعسكريين عن تلك المجزرة أمام المحكمة الجنائية الدولية وصدرت ضدّهم أحكام قاسية من أجل جرائم ضدّ الانسانية بلغت حدّ السجن مدى الحياة بالنسبة لرئيس الحكومة الذي في عهده حصلت المجزرة.
بعد ذلك بدأت مرحلة التحوّل الديمقراطي من سنة 1994 إلى سنة 2003 وتأسست على ثقافة جديدة قوامها التعايش السلمي ومنع التفرقة والقبلية وتنمية الحسّ الوطني وعلى إثر الانتخابات التشريعية التي أجريت في 2 أكتوبر 2003 فازت النساء بــ 49 في المائة من المقاعد البرلمانية وحصلت المرأة على عديد الحقائب الوزارية حيث أصبحت رواندا البلد الأول عالميا بالنسبة لمشاركة النساء في السلطة السياسية. ومنذ ذلك الحين حصل تطور اقتصادي كبير.
حيث تمكن الشعب من تحقيق معجزة تمثلت في الازدهار والتطور والتحضر والمساواة، معجزة تناولتها وسائل الإعلام الدولية وأشادت بها .
لقد اتضح لي جليا عندما زرت رواندا أخيرا أن كل من يزورها يتأكد من صدق ما سمعه وما شاهده عبر وسائل الإعلام فعلامات التطور والتحضر بارزة للعيان في أبهى مظاهرها إذ منذ أن يحل المسافر بالمطار يجد تنظيما محكما حيث أن كل العاملين به يحملون زيا موحّدا يبرز صفاتهم، تبهرك مدينة كيقالي عاصمة رواندا بنظامها وجمالها ونظافتها فخارج المطار تجد سيارات الأجرة مصطفّة وراء بعضها ينتظر سواقها دورهم دون تعدّ على الأولوية أومحاولة التأثير على الزبائن الذين يصطفون أيضا وينتظرون دورهم لامتطاء سيارة أجرة دون عناء ودون تدافع أو ازدحام.
المدينة جميلة بعمرانها الذي يتطور بسرعة فالبناءات الشاهقة والجميلة متواجدة في عديد المناطق والأحياء أمّا البناءات التي هي بصدد الانجاز فإنه لا ينبعث منها غبار ملوث أو روائح كريهة ولا تخلف أكواما من بقايا مواد البناء. أما الطرقات والأرصفة فقد انجزت بعناية فائقة دون الغش في استعمال مواد البناء وتشهد صيانة مستمرة حيث لا توجد حفر أو مطبّات والأضواء المرورية تشتغل باستمرار والممرات الخاصة بالمترجلين وكذلك مخفضات السرعة واضحة جلية للعيان.
إن حركة المرور منظمة عن طواعية فكل روّاد المدينة يحترمون إشارات المرور والأولوية، ليس هناك خرق للضوء الأحمر أو مجاوزة ممنوعة أو استعمال للهاتف أثناء السياقة أو ضغط على المنبه الصوتي أما سائقوا الدراجات النارية ومرافقوهم فيحملون كلّهم الخوذات الواقية ويسيرون بنظام دون تدافع وتسابق.
إن المدينة هادئة نظيفة وآمنة لا تجد بها ضجيجا ولا شجارا وليس هناك كراسي على الأرصفة بل كل الروّاد يمكثون داخل المقاهي المتواجدة بقلة حيث لا يضيع أفراد الشعب أوقاتهم في شرب القهوة ولعب الورق.
الأكياس البلاستيكية ممنوعة بتاتا وكذلك التدخين ممنوع في الأماكن العمومية وحتى في الشوارع فلا تجد بقايا سجائر أو نفايات أو مهملات وحتى أوراق الأشجار التي ينثرها الخريف يتم تنظيفها يوميا.
لا وجود لمستنقعات أو تراكم مياه رغم أن المطر يتهاطل بانتظام كما أنه لا وجود لمصبات أو أماكن لتراكم فضلات فتخال نفسك وأنت تشاهد مظاهر تلك الحضارة أنك متواجد بسويسرا أو النرويج.
فتساءلت عن أسباب ذلك التحضّر الذي وقعت الإشادة به في كافة المحافل الدولية فوجدت أن وراء ذلك طبقة سياسيّة متشبعة بالوطنية لها إرادة قوية لإصلاح أوضاع البلاد ووعي ومسؤولية لدى أفراد الشعب.
أما السبب الأول المتعلق بالنخبة السياسية فإنه على إثر هزيمة المسؤولين المتسببين في المجزرة، حرّر الجيش الوطني الرواندي العاصمة بتاريخ 4 جويلية 1994 وتقرر إحداث مرحلة انتقال سياسي ديمقراطي بدأت بتكوين محكمة جنائية دولية من قبل الأمم المتحدة مختصة بالنظر في أحداث المجزرة ونشأت طبقة سياسية جديدة أغلبها من النساء متشبعة بالروح الوطنية شعارها جودة الأفعال خير من جعجعة الأقوال والتعامل باحترام وتجنب الشتائم والخصام سواء عند التواجد بمقرات العمل أو بالمؤسسات السياسيّة أو بوسائل الإعلام والعمل على تحقيق مصالحة بين كافة أفراد الشعب.
وتمّ وضع استراتيجية تطور حتى آفاق 2020 بعناية فائقة بدأت بإصلاح المؤسسات وانتهاج الحوكمة الرشيدة والشفافية والتخفيض في نسبة الديون حيث أصبحت رواندا منذ سنة 2003 تحظى بسمعة طيبّة في الدوائر الاقتصادية والمالية.
عملت النخبة السياسية الجديدة على إصلاح المنظومة القانونية وخاصة القوانين الاقتصادية والمالية كما تم إنشاء محكمة دستورية وعديد المؤسسات الدستورية ومنها مؤسسة التوفيق والامبودسمان التي يشرف عليها رئيس بخطة وامتيازات وزير دولة، كما تمّ ضمان استقلال القضاء والحرص على تطبيق القانون على الجميع دون استثناء وإقرار المساواة ونبذ العنصرية، كما تمّ إصلاح التعليم حيث أصبح إجباريا تخصص له الدولة سنويا 19 % من الميزانية وقفزت نسبة الالتحاق بالمدارس من5،7 إلى 96 %.
أما بالنسبة للاقتصاد فقد سعت الطبقة السياسية الحاكمة إلى انتهاج الحوكمة الرشيدة وإصلاح المؤسسات الإدارية والاقتصادية والمالية وإلى مقاومة التهريب والاحتكار والفساد وتقلصت نسبة البطالة حيث أصبحت نسبة النمو تتعدى سنويا %8 منذ سنة 2012.
أصبحت رواندا سنة 2016 تحتل المرتبة الأولى بالنسبة لتطور التنمية البشرية على امتداد عشرين سنة والمرتبة السابعة عالميا بالنسبة للحوكمة الرشيدة.
أما السبب الثاني الذي ساهم في الازدهار والتحضر فهو تطوّر الوعي لدى الشعب الرواندي حيث تم التركيز على طي صفحة الفتنة وما صاحبتها من جرائم ضدّ الإنسانية والتركيز على نبذ العنصرية والتفرقة الإثنية وتنمية الحسّ الوطني ووضع مصلحة رواندا فوق كل اعتبار، كما تمّ التأكيد قولا وفعلا على ضرورة التشبع بالقيّم الأساسية كقيمة العمل والنظافة والنظام والمساواة والتعامل باحترام فأصبحت الأراضي الفلاحية تستغلّ بطريقة محكمة وأصبح الإنسان الرواندي يقدس قيمة العمل سواء كان موظفا أو عاملا يجتهد في القيام بواجبه على أحسن وجه لا يهدر وقته في المقاهي والتسكع، وأصبح الجميع يحافظ على نظام البلاد فيساهم كل السكان عن طواعية في التخلص من بقايا الأعشاب الطفيلية مهما صغر حجمها حتى أصبحت رواندا رغم صغر حجمها وكثافة سكانها وصعوبة تضاريسها عبارة عن حدائق تسرّ الناظر وتؤمن المستقبل والحاضر كما أصبح القانون يطبَق على الجميع : على الغني و الفقير، على العامل و الوزير دون تمييز أو معايير.
إنما الأمم الأخلاق والقيم - دون ذلك يصبح كل شيء عدم.
فهل يمكن أن نأمل في بلادنا الاقتداء بهذه التجربة الرائدة أم ستبقى أمنياتنا عبارة عن أضغاث أحلام بلا فائدة –إن الأمر يستوجب ثورة ثقافية أساسها تغيير الذهنية وتطوير العقلية و إعادة الاعتبار للروح الوطنية و الإقتداء بالتجارب الرائدة الأجنبية