ما بعد منعطف 14 جانفي 2011 : من شبح إمارة «سجنان» الى قبائل «يعقوبيان»...

محجوب لطفى بلهادي
جامعي ورئيس قسم «بالمركز التونسى لدراسات الأمن الشامل»

بالتأكيد قد لا نأتي بجديد تحت الشمس عندما نعيد اجترار المفاهيم النمطية واللانمطية للثورة الواحدة تلوى الأخرى..على غرار أنها لحظة من لحظات التاريخ الفارقة يصنعها قائد فذ وملهم من طراز «ماوتسيتونغ» أو «لينين» أو جاءت لتعبر عن حالة من حالات «الشياع الثورجي» indivision pseudo-révolutionnaire كما هو الشأن عندنا، يتنازع على حصصها عدد من «المالكيين» منتحلي الصفة.. فيزعم المثقف انّه ملهمها، ويقسم العاطل والأجير انه محرّكها، ثم يأتي السياسي لقطف ثمارها...

لكن قد نكون مجتهدين على الأقل عندما نحاول إعادة تركيب مفردات المشهد السياسي التونسى وفق مقاربات سيكولوجية لم يقع التطرق إليها الى اليوم فى علاقة بسيكولوجية الحشود «لغوستاف لوبون» والنظرية العامة للأمراض العصابية والذهانية «لسيغموند فرويد»...
من منّا لم يعرف «العصاب» Névrose فى حياته وخاصة فى العشرية الأخيرة وما تتميز به الشخصية العصابية التونسية الراهنة من أعراض قلق وخوف مستمرين وشعور دائم بالاكتئاب ؟

من منّا لم يسمع عن حالة الذهان Psychoseوما تعتريها من اضطرابات عقلية وحالات فصام خطيرة أصابت أعدادا كبيرة منا كما تؤشر له جميع الإحصاءات الرسمية والموازية ؟
ومن منّا لم يتمثّل يوما من الأيام «طقس سيكولوجية الحشود» بالخروج للشارع للاعتصام أو التظاهر فى بلد «ألف ليلة وليلة» بصيغتها الاحتجاجية هذه المرة ؟

بين هذا وذاك وبمخرجات سلوكية متحررة تماما عن الأنساق «الفرويدية والغوستافية» المألوفة تشكّلت ملامح شخصية احتجاجية تونسية (سلوكية/ألسنية) لم يعهدها تاريخ الثورات من قبل.. شخصية احتجاجية تعمل وفق ميكانزمات سلوكية «شبه قطيعيه» فى تمايز مع المفهوم الغريزي المطلق لنظرية الحشد عند «غوستاف لوبون».. غمرت الساحات والأنهج والبوابات الافتراضية ..نزلت يوم 14 جانفي 2011 للحسم دون مراسم تأبين لنظام سياسي ترهّل من الداخل... نطقت بلغة «حرق الجسد» وأدوات التخاطب الافتراضي الجديدة..شرارتها ألسنة اللهب التي التهمت جسد «البوعزيزى» وكلمة سرّ أطلقتها حنجرة جمعية واحدة بصوت عال «أرحل» Dégage اتحد فيها البناء اللفظي المنطوق بلغة الإشارة فى سابقة

ألسنية linguistique نادرة.. كانت عازمة على تطهير المسرح من مدنسات الماضي..أبطالها «المرئيين» و»اللامرئيين» طلائع من الشباب المهمش .. ومن قطاعات مهنية متعددة..ومن عسكريين محايدين..وكبار أمنيين مهرسلين أقفلوا هواتفهم الجوالة درءا لتعليمات جديدة..وإداريين لم يغادروا مواقع عملهم حرصا على ديمومة الدولة، لتنضاف إليهم جوقة من مقاولي السياسة والمتطفلين والمهرجين...جميعهم دون ان يدروا كانوا بصدد انجاز جيل جديد من الثورات، براديغم مستحدث يغازل القديم فى حدود ما يقدمه للجديد منتقلا بالمعركة بين القديم والجديد من طور الصدام والمواجهة الى الطور التزامل النفعي الناعم ...

نموذج حاول ألا يقع فى فخ الايديولوجبا والتمثلات العقائدية قبل ان تختطفها «الروح القدس الاسلاموية».. لم يفسح المجال لأي خطيب فصيح أو ربان مغامر قبل ان يسطو عليها احفاد الإخوة «عرّوج وبربروس».. جمعت بين الرسم الكوريغرافي المتناسق والبناء الفوضوي ..صيّرت «العصاب» و«الذهان» بدواخلنا الى طاقة مدّ جارفة تجاوزت حدود الجغرافيا لتلتقطها بسرعة مذهلة - استئناسا وتوظيفا - شعوب أخرى واجهزة استخباراتية إقليمية ودولية فى أول عملية «اتصال وجداني واستعلاماتي بين الأمم والأجهزة» لم يشهد لها مثيل فى التجارب المقارنة معلنة عن قيام ساعة زمنية عربية مجنونة تشتغل عقاربها فى جميع الاتجاهات ...

عندما أسهب «فرويد» فى تشخيص حالة «العصاب» من خلال استنطاق العقل الباطن ..وشرع «غوستاف لوبون» فى وضع الأسس الأولى لنظرية سيكولوجية الجماهير اعتمادا على نفس البديهة Axiome: محورية «اللاشعور» فى صيرورة الأفراد والشعوب، لم يدر فى خلدهما إطلاقا أنّ أركان معبد اللاشعور قد يهتزّ بعنف فى يوم من الأيام تحت أقدام أحفاد

«يوغرطة» «وحنبعل» فى حركة جماعية احتجاجية نصف معقلنة راوحت بين هستيريا الإبداع والإبداع الهستيرى.. أفضت مما أفضت إليه الى صياغة دستور طلائعي وظهور جوقة من الساسة لا تجيد الرقص إلا على موسيقى «سامبا» اكتساح المواقع ومزيد من النفوذ...

فبتمايز عن المسلمات الفرويدية التى تشدّد بأن الكشف عن السلوكيات البشرية الفردية أو الجماعية المتناهية فى التنوع والتعقيد لا يتم إلا بفكّ الارتباط المقدس الثلاثي الأبعاد بين «الهو» و»الأنا» و»الأنا الأعلى» من خلال النجاح فى استدراج الفانتاسمات المحرّمة «للهو» الى السطح، جاءت الحالة التونسية فى الانتقال والتغيير لتستحدث بعدين متمايزين عن البنية اللاواعية «لفرويد»، فبعد ان أقصت «الأنا» نهائيا من حلبة الصراع مختزلة النزال المجتمعي بين «ذات جمعية متحولة وجدّ متقلبة» و«ذات متضخمة سلطوية فى طريقها للتحلل» ...

ففي صبيحة يوم 14 جانفى 2011 استفاقت الجموع لتجد نفسها متجهة صوب شارع الرمز، قبالة بناية الرمز، لإسقاط الرمز...

وفى مطلع يوم 23 أكتوبر 2011 انطلقت نفس الجموع وبنفس الحس الجمعي على وقع أناشيد «طلع البدر علينا ...» صوب مكاتب الاقتراع فى حجّة الوداع مع «العصاب» علّها تعثر عن ملائكة الرحمة لتدرك بعد فوات الأوان أنها دخلت نفقا شديد العتمة قد لا تخرج منه مجددا...
نفس الجموع أو تكاد تدفقت فى شكل سيول بشرية غير مسبوقة بعد أول اغتيال سياسي يوم 6 فيفري 2012 لرفض مملكة الملائكة والشياطين.. وفى حركة عقابية جماعية لاستعادة حلمها من جديد فى انتخابات 2014 اصطدمت هذه المرة بصخرة «يعقوبيان» بتمظهراتها العديدة التي لم تعد خافية على أحد منها :

• قطاعية مهنية منفّرة ومدمّرة خاصة فى القطاع التربوي
• لوبيات مافيوية جد خطرة ترتع وتمرح فى البلاد،
• بلطجة جماعية على الطريق العام تحت عناوين مختلفة،

والأخطر من كل ذلك تسلل ذهنية القبيلة داخل الأذرع التنفيذية للسلطة نفسها فى مشهد سريالي منقطع النظير ...
من الأكيد المؤكد أن الطبقة السياسية الراهنة بشقيها الاسلاموي والحداثوي أبدعت أيّما إبداع فى التطبيق الميكيافلي المقيت لنظرية «الهندسة الاجتماعية» فى كيفية السيطرة والتحكم فى المجتمع وأخفقت أيّما إخفاق فى التقاط «هذه اللحظة التاريخية التى هرمنا من أجلها»...

قد لا يتبع ...

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115