حادث وحديث: رسالة الى رفيقة النضال هبة... لا مال فيه ولا تعويض

طبيعيّ أن يختلف الناس وتمشي رؤاهم في كلّ واد. في نفس الوطن، في نفس العائلة، تلقى الرأي والرأي المضادّ.

أحيانا، ترى الاختلاف في الانسان نفسه. أحيانا، ألقاني أحمل فكرا بعينه ثمّ ألغيه لأحمل آخر. حياتي، في ما أرى، أفكار أضداد. هي تناقض... هذا طبيعي. فكر الانسان حراك. مواقفه موقوتة. لا ثبات فيها ولا استقرار. كلّنا رحّل.

السؤال المحيّر هو كيف نرى الآن، هنا، نفس الظاهرة ونكون على اختلاف تامّ؟ ابن أختي رفيقة وهي طبيبة متقاعدة مثلي ترى عكس ما أرى رغم ما كان بيننا من تشابه في العيش، من اشتراك في التاريخ، في الثقافة... عند رفيقة، تعويض المناضلين، أولائك الذين استهدفوا وعذّبوا، هو حقّ لا ريبة فيه وما قامت به هيئة الحقيقة والكرامة هو جبر لضرر حاصل. هو عمل صواب. مائة بالمائة... أمّا أنا فأرى أن هيئة بن سدرين هي هيئة فاسدة وأنّ لا تعويض للمناضلين لأنّ النضال هو اختيار ومن قام به هو شأنه ولا مال ولا جبر للضرار... مثل رفيقة، لست معنيّا بالقضيّة ولا ناقة لي فيها ولا حمار. أنا أعارض التمشّي من حيث المبدأ وكذلك تقف رفيقة في الطرف المقابل...

لماذا نحن مختلفان كاختلاف الليل والنهار؟ ما هي الأسباب؟ أنا وهي لنا نفس المعطيات. تابعنا الملفّ منذ نحو خمس سنوات. نتقاسم ما كان يدور من معلومة ومن جدل... انطلاقا من نفس الفرضيّات والمعطى، كان من الضروريّ أن ننتهي الى نفس الرؤى والنتائج... لم يحصل هذا بل اشتدّت الهوّة وأصبحت رفيقة في صدّ، في غضب لكلّ ما أكتب ولكلّ ما أقول في الموضوع... تعتقد رفيقة أنّ الحقيقة بيّنة كوضوح الشمس في النهار وكان عليّ أن أساند التمشّي وأقبله. كنت أقول نفس قولها وأسأل ما الذي أصابها وهذه الحقيقة ساطعة كالشمس في قبّة الفلك... كلّ في موقعه يرى ما لا يراه الآخر. هذا اشكال. أنا ورفيقة على اختلاف كبير. كلّ يعتقد أنّه على صواب. كلّ يعتقد أن الآخر مخطىء. من منّا هو المخطىء؟ من غير الممكن أن نكون الاثنان على صواب ونحن مختلفان. لا بدّ أن أحدا منّا في ضلالة.

في ما كنت جمعت من حجّة ومن معلومة، أرى أنّي محقّ... في ما يلي، أطرح كلّ حججي لأبيّن اليك يا رفيقتي لماذا أنا أعارض التعويضات. فهاتي حججك ولنقارع الحجّة بالحجّة دون غضب ولسوف يتجلّى عندها البيّن.

* * *
هيئة الحقيقة والكرامة هي، عندي، هيئة بن سدرين. بن سدرين، في نظري، هي المقرّرة فيها لكلّ امر ونهي ولا أحد غيرها يحدّد المسار ولا أحد غيرها يرسم الغاية. لبن سدرين، كما لا يخفى، شخصيّة نحتت من صخر. رأسها من حديد. ولأنّها كذلك، هي تفعل ما ترى ولا أحد قادر على معارضة ما تبتغي. ان عارض أحد مبتغاها يطرد. وأطردت سهام الكثير من أعضاء الهيئة...

في ما مضى، كنت أحترم المرأة وأحبّ ما كانت تظهر من صمود ومن تصلّب. اليوم، تغيّر رأيي وأرى في المرأة تشدّدا لا يصلح وتعنّتا فيه مضرّة للعباد وللبلد. في ما أعتقد، تحمل رئيسة الهيئة ضغينة كبرى. في قلبها غلّ وحقد. حين أسمعها تقول. حين أراها تتكلّم، أرى في عينيها، في ملامحها شرّا يقطر... جاءت بن سدرين لتصفيّة الحسابات. للانتقام من خصوم ماتوا أو انتهى معهم الزمن. في ما أرى، ليس بمثل بن سدرين يمكن ضمد الجراح والجمع بين الفرقاء الاخوة. بالعكس، هي سعت للدفع بالتفرقة، لتعميق الجروح وللزيادة في الشرخ...
كانت سهام تجري، تبحث عمّن أصابه ظلم أو في قلبه مرض. همّها جمع الملفّات واحياء نار أطفأها الزمن. غايتها أن تبيّن للناس أنّ الكثير من البشر، في ما مضى، أصابهم عذاب وتعسّف. كانت تحثّ الناس شمالا وجنوبا لتقديم المطالب (أنظر ما كتبه الأستاذ التومي. أنظر ما ذكره خميس بن هنيّة وغيرهما كثير)... كذلك تمكّنت سهام من جمع عشرات الآلاف من الملفّات، من المشتكين والطالبين للتعويض. حقّا وباطلا. في تونس، جمعت هيئة الحقيقة والكرامة أكثر من 64 ألف ملفّ في المغرب الأقصى، للمقارنة، وكان حكم الحسن الثاني أشد عسرا، جمعت هيئة الحقيقة عندهم نحو 17 ألف ملف فقط. في جنوب افريقيا حيث تواصل الميز العنصري عقودا متتاليّات، جمعت الهيئة 22 ألف ملفّا. لا أكثر.

* * *

حول التعويض والأموال المخصّصة لصندوق الكرامة، استمعت لتصريح الكثير من المتدخّلين. كلّ له رأي. كلّ له غايات ظاهرة وخفيّة... في رأي المرحوم شكري بلعيد، «كلّ نضال له ضريبة» ويجب الاكتفاء فقط «بالتعويض الاعتباريّ». أمّا «النضال بمقابل» فهو مرفوض بل يعتبره المرحوم «استيلاء على المال العامّ» وهو نضال «غنائميّ». مضيفا: يجب جبر ضرر من مسّه أذى في شغله، في صحّته، في تقاعده، أمّا النضال السياسيّ فلا مقابل ماليّ له... على عكس رفيقه شكري، يدعو حمّة الهمّامي بكلّ حماسة الى التعويض الماليّ بل هو يبرّره ويسبّ كلّ من يعارضه. حسب الناطق الرسمي للجبهة، من يناهض التعويض هم «رموز النظام السابق». هم أزلام... كعادته حمّة الهمّامي. دوما في التنديد. دوما في المبالغة. لعلّه المال يؤثّر في الطباع. لعلّه طمع الأتباع وهذه أموال سوف توزّع. من يقدر على الوقوف في وجه المال ويرفضه؟ قديما، كتب كاتب ياسين قولة شهيرة، معبّرة. قال: «رأيت الناس تواجه التعذيب وتتحمّل شتّى أنواع الأذى ورأيتهم يتساقطون (كالذباب) أمام المال». صدق كاتب ياسين.

على خلاف حمّة الذي يدعو للتعويض وفي الآن نفسه تراه يرفضه لنفسه، عديد المناضلين ممّن ناله الضيم والسجن، يرفضون التعويض جملة وتفصيلا...

هذا خميس بن هنيّة صاحبي وهو سجين برج الرومي لسنوات خمسة وهذا نجيب بكّوشي الذي حبس عدّة مرّات وهذا محمّد صالح التومي المحامي في رسالة نشرها على الشبكة يحكي ما جرى مع بن سدرين وكيف رفض دعوتها للمطالبة بتعويض لانّه، كما كتب، كنت «في خدمة بلدي... ولا أرجو أجرا ولا شكرا». كلّ هؤلاء وغيرهم كثير يرفضون التعويض بل يرون فيه مسّا من كرامتهم واستنقاصا لما أتوا من نضال سياسيّ...

أمّا أهل النهضة فكانوا كلّهم جميعا مع التعويض. لأنّ التعويض المالي، كما يقول أنصارها، حقّ وواجب على الدولة. هو حقّ، تقول الزغلامي، يجب أن يعطى «أحبّ من أحبّ وكره من كره». نفس النظر، أكّده محمّد بن سالم وغيره من حزب النهضة. آخرهم السيد القوماني «الوزير المرتقب».
كذلك هي المواقف جاءت متباينة. الكثير من المناضلين يرفضون التعويض أصلا وفصلا. أمّا أهل اليسار مثل حمّة ومن معه وجماعة اليمين مثل الغنّوشي ومن ناصره فهؤلاء يدعون بصوت واحد الى التعويض ويرونه ضرورة مؤكّدة وواجبا وطنيّا...

* * *

أنا متقاعد وأنت أيضا يا رفيقة متقاعدة. اشتغلنا لعقود بجدّ واليوم، في كلّ آخر شهر، تراني وأراك نترقّب. ننظر ان كان للحكومة مال وان هي ستدفع لنا جرايات التقاعد. في الموعد. جرايات المتقاعدين، كما تعلمين، اقتطعت من أجورهم لمّا كانوا يشتغلون. الجراية حقّ لا شكّ ولا نقاش فيه. ورغم ذلك. في ظلّ العسر الذي نرى في الخزينة، هناك شكّ ونقاش في تسديد جرايات المتقاعدين. كلّ شهر والاشكال قائم: هل تلقى الدولة مالا وهل هي ستدفع؟ في الآن نفسه، يدعو اليسار واليمين الى دفع المليارات، الى توزيع المال على المناضلين. «أحبّ من أحبّ وكره من كره»..

ماذا فعل المناضلون أكثر منك ومنّي حتّى ينالوا هذه الحظوة، حتّى يلقوا هذا التبجيل؟ هل المناضل هو فقط من واجه السلط ودعا الى تغيير الحكم والثورة عليه؟ هل المناضل هو فقط من سجن سنوات بسبب فكره؟ أم هل المناضل ذاك الذي فجّر نزلا أو قتل شرطيّا أو أوقع بسيّاح عزّل؟ هل النضال حكر على من واجه المحاكمات السياسيّة ودخل السجون وخرج قسرا من البلد؟ هل المناضل هو ذاك الذي واجه الاستعمار أو ذاك الذي واجه بورقيبة أو ذاك الذي يضرب اليوم في الجبال، العسكر؟ألا تعتقدين أنّ المناضل هو أيضا ذاك الذي كابد وكدح وغرس نبتا واشتغل بجدّ ولم يفسد في الأرض وتحمّل الأعباء ومدّ العون لمن بهم عوز وحمى اليتيم والأرملة؟ أفليس هذا أيضا مناضل؟

أنت مناضلة يا رفيقة. أنا أيضا مناضل. الكثير من حولي ناضلوا في صمت، سنوات عدّة. ناضلوا وصابروا لدرء الفقر، للحصول على خبزة، لشراء كتاب وورقة، لكسب العلم، لجلب المصلحة... هؤلاء كلّهم مناضلون. تذكّري كيف كنّا في القرية صغارا. كلّ يوم، نحيا في عوز وكنّا نجتهد لتجاوز العوز، لنكسب قوتا ومحفظة. هذه أمراض تهدّد وهذا جراد يزحف وهذا جوع ينذر وكنّا دوما نكدّ كدّ، نكدح كدحا. الكلّ في القرية، في تونس، يناضل، يكافح...

المناضل أنماط شتّى. المناضل أنواع مختلفة. نحن مناضلان ولكن لن نطلب شيئا. بفضل الجهد وبفضل الله كما تقولين، نحن اليوم نعطي ولنا اليد العليا... النضال عندي هو السعي الذي لا ينتهي والكدّ من أجل البقاء، من أجل التعلّم، من أجل التأسيس لأنا أفضل، لمجتمع أرقى، لعالم أبقى...
انقلبت المفاهيم يا رفيقة. تغيّرت الرؤية. ألا ترى. الكلّ اليوم أصبح مناضلا وأحيانا شهيدا؟ السرّاق والفسّاق والسفهاء ومن هزّه مال أو جهل ومن شدّه طمع ومن سكن قلبه مرض... كلّهم اليوم مناضلون.

النضال أنواع شتّى. يتحدّد حسب الرؤى وموازين القوى. حسب الزمن ومن على الحكم استوى. ارهابيّ اليوم يمكن أن يكون غدا مناضلا أبيّا. قد ينال تعويضات ماليّة «أحبّ من أحبّ وكره من كره». لصوص اليوم قد يصبحون غدا أيمّة. فجّار اليوم قد يصبحون غدا صحابة... من يدري، ربّما، غدا، قد تحاسب هيئة بن سدرين عمّا أتت من شرخ ومن تحميّة لنار تشتعل... لمّا تتغيّر موازين القوى وتمشي الرياح، كلّ شيء ممكن...

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115