حادث وحديث: في هجرة الكفاءات منافع

حين أنظر في نفسي وفي الناس من حولي، أرى أنّي عن الناس مختلف. لكلّ فرد ماهيّة. لكلّ فرد فكره. أنا لست تونسيّا ولست

عربيّا ولست مسلما. هل يوجد نموذج أو نمط موحّد؟ أنا انسان فرد له كينونة. تسكنه أحلام ورؤى خصوصيّة. أنا لست تونسيّا رغم أنّي مع التونسيين أحيا ومعهم أتقاسم الأرض والسنن. أنا أختلف مع الكثير منهم وأحيانا، ألقاني على طرفي نقيض... أنا تونسيّ المولد ولكن فكري لا يحدّه وطن. الأرض جميعا هي وطني. تونس ضيّقة حتّى تحمل كلّ أملي. صغيرة حتّى تتّسع لكلّ نظري...

أحيانا، التقي بأفراد من عائلتي. أتحدّث مع هذا ومع الآخر. أحيانا، ألتقي ببعض من صحبي. أقول ما أرى. أستمع الى ما يرى. أنظر في ما أحمل وما هو يحمل. ألقاني عنه مختلفا. لا شيء يجمعني ويجمعه. كلّ يحيا في زمن. كلّ في واده هائم. نحن خطّان متوازيّان. لا نلتقي... أحيانا، ألتقي مع رجل من الغرب، ذاك الذي لا تجمعني به قربى ولا صلة. أستمع الى ما يقول. أرى في ما يقول صدى لفكري. أحيانا أستمع الى سياسيّ من كيان عدوّ، أناهضه فألقى في قوله رصانة وتعقّلا. أنصت الى صاحب القضيّة، من بني العرب، فأرى في ما يقوله جعجعة لا تصلح...

لا يهمّني ما يقوله صاحبي ان كان صاحبي على ضلالة أو هكذا أعتقد. لا يهمّني أهلي وبني وطني ان كانوا في غيّ وفي خور. أنا لست منهم. هم ليسوا منّي وان كان بيننا تاريخ وموطن... في المقابل، أحيانا، تراني مع الآخر المختلف دينا وتاريخا ولغة وتلقاني معه في أريحيّة. بين فكري وفكره تكامل، تناسق...
انتهى زمن القبيلة والوطن. انتهى زمن العصبيّة وصلات الدم والرحم. هذه صلات للحيوان. هذه أثار باقيّة من زمن غابر... الكلّ مدعوّ اليوم الى تجاوز الحواجز. الكلّ مدعوّ الى النظر في الأفق. الى التعلّق بما وراء العرش، بما وراء البحار والسموات السبع. الانسان هو الانسان وحيث حرّيّته يكون وطنه وحيث طمأنينته وأمنه، ذاك هو مسقط رأسه. وليتنافس المتنافسون على بناء وطن عالم أبقى وأفضل.

* * *
في السنين الثمانيّ الماضيّة، غادر تونس عشرات الآلاف من متساكنيها. هجّوا إلى الغرب حيث استقرّوا واشتغلوا. بعد الثورة، غادر البلاد شباب كفء. حمّالة شهائد عليا. أصحاب مهارات مميّزة. الكثير من هؤلاء هم من أهل الاعلاميّة وهناك أيضا أساتذة وأطبّاء ومهن مختلفة. يتواصل نزوح التونسيين وخاصّة منهم أهل الكفاءة. تقدّر الاحصائيات هؤلاء منذ الثورة بنحو 100 ألف نسمة...

بعض الأصوات تقول انّ في هجرة أهل الاختصاص مضرّة للقطر وهناك خسارة للاقتصاد فادحة. بعضهم يؤكّد أنّ بعض المؤسّسات تشتكي اليوم من نقص في الاعلاميين والأطبّاء والأساتذة. تضيف بعض التقارير انّ تونس هي المزوّد الأوّل للمهندسين في العالم
وهي الثانيّة بعد سوريا في اليد المختصّة. الى غير ذلك من الأرقام...

اعترضني الاشكال وقرأت ردود فعل مختلفة. سألت نفسي ثلاثة أسئلة: هل من حقّ هؤلاء الهجرة؟ هل من نفع لهذه الهجرة؟ كيف الحدّ من الهجرة؟ في ما أعتقد، لكل انسان الحقّ في العيش حيث شاء وحيث يلقى سعادته. لست مضطرّا أن أحيا في بلدي. ما معنى بلدي؟ كلّ البلدان هي بلدي. تونس ليست للتونسيين كما أن فلسطين ليست للفلسطينيين... من أراد العيش في تونس من البشر يجب أن يلقى الأبواب واسعة، مفتوحة. من حقّ كل عبد أن يختار أرض عيشه. أن يغيّرموطنه، لقبه، جنسيّته، دينه... هو حرّ وله الحق في أن يختار ما شاء لنفسه.

في الهجرة منفعة كبرى للمهاجرين. من لم ينظر في العالم وكيف هو يسير وكيف هو يتطوّر لن يتبيّن الدنيا ولن يشدّ عقله سؤال أو حيرة. لن يتمكّن من اعادة النظر. من تأسيس ذاته. من فتح بصيرته. يجب تشجيع الناس على الهجرة. يجب أن يرى التونسيون ما يجري في الأرض من تقلّب ومن تقدّم. في تونس، مع الأسف، نحبّ الانفراد لأنّ الانفراد عبادة. نحبّ الغلق والغلق مضرّ، مكبّل...

كيف الحدّ من ظاهرة الهجرة لمن كانت لهم مهارات تنفع؟ تقول البحوث أن من هاجر تونس من كفاءات وفضّل العيش في الغرب سببه ما كان في الحياة وفي المحيط من عسر ومن تعطيل ومن تبعثر. الحياة هنا عسيرة. فيها فوضى لا تنتهي وخروقات ورداءة. في تونس، منذ الثورة، تشدّ البلاد اضطرابات تتجدّد واضرابات تتكرّر وهذا خصام وتمزّق في رأس السلط. لا أحد يدري ما سوف غدا يحصل. جميعا نحيا في ضبابيّة... هناك أيضا ادارة أخطبوط بالطبع فاسدة. غايتها بهذلة الناس. خنق البشر. كلّها عراقيل ورشوة. أمّا الأمن فحدّث ولا حرج. في تونس اليوم ارهاب يرتع. يضرب متى شاء وهذا أمن نائم. هناك لصوصيّة منتشرة وعنف وتسلّط... كيف العيش في البلاد وقد أصبحت البلاد بين أيدي فاسدة من مهرّبين وارهابيين وصعاليك وساسة دجّالين ومنافقين في قلوبهم مرض خبيث ومكر أخبث؟ كلّ الناس تسعى اليوم الى الرحيل بحثا عن نظام وأمن وطمأنينة.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115