سؤال وجواب: قريبا، ألتقي وجه ربّي... ماذا عساني أقول لربّي ؟

الكثير من أهلي انتقلوا الى جوار ربّي. الكثير من زملائي انتقلوا الى جوار ربّي. أمّي، هي الأخرى، انتقلت الى جوار ربّي. كلّ عامّ، تأخذ المنيّة

واحدا أو اثنين أو أكثر من أهلي ومن صحبي. أرى الناس من حولي يختفون شيئا فشيئا. الواحد تلو الآخر. أنظر من حولي، في نفسي. أسأل: من بقي ليّ في الدنيا؟ قلّة قليلة. قريبا، أنا أيضا سألتقي وجه ربّي. أنتقل الى جواره وأنتهي من الدنيا.
انا لا أحبّ أن أنتقل الى جوار ربّي. ماذا عساني أفعل بجوار ربّي؟ أحبّ البقاء هنا. أفضّل البقاء في الأرض. دعوني أبقى هنا ومن حولي جيران لهم أخلاق وفضل. ماذا عساني ألقى بجوار ربّي؟ لا أعرف هناك أحدا. ربّما ألتقي بأمّي. أحبّ أن أرى وجه أمّي. أنا خائف. لا أحبّ أن ألقى وجه ربّي…
لا شيء أفعل هناك. لا شأن لي هناك ولا أمر. دعوني هنا أبقى. بجوار ربّي تنتهي الدنيا. لا حياة بعد الدنيا ولا حبّ. في ما يقال، بعد الدنيا، يبقى الانسان العمر كلّه يأكل وينكح ويشرب عسلا وخمرا. أو هو في نار سعير يصلى...
أنا أخاف لقاء وجه ربّي ولا أدري ما سوف ألقى. أنا أخاف المجهول وما سوف يكون يوم أموت ولمّا أغادر الدنيا. في الحقيقة، أحبّ البقاء هنا بين أهلي وصحبي. مع هؤلاء قضّيت سنينا من العمر ولي وإيّاهم صلات وذكرى. أعرف ما يخفون وما يظهرون. أحبّ ما يقولون وما يفعلون... منذ عقود وأنا بينهم أحيا. أمّا «جوار ربّي» فلا أعلم عنه شيئا. هل هو صقيع بارد أم نار تصلي أم جنّة الخلد. فيها غلمان وحور وأشياء أخرى. لا أحبّ النار ولا الجنّة. أنا أخاف الآخرة. أنا أحبّ الحياة الدنيا وما في الحياة الدنيا من عسر ومن عشق. فكريّ مشوش. يشدّني قلق. لا أعلم كيف سيتقبّل الله وجهي. أنا أخشى لقاء ربّي. وجها لوجه. ما كنت التقيته أبدا من قبل. هذا أمر مربك. هو لقاء مزعج. أنا في حيرة...
***
لم أنا خائف من ملاقاة ربّي؟ ما الذي سيكون لمّا ألقى وجه ربّي؟ أنا لم أفعل في الدنيا إثما. أنا عشت إجمالا عيشا خفيفا، مستقيما. بعض الحرام أحيانا. بعض الخروج عن الصفّ وأشياء أخرى. أشياء صغيرة. صحيح، أنا لا أصلّي. لا أصوم الشهر. أمشي في الأرض مرحا. أرفض الأفكار المحنّطة وأشكّ في سنن السلف وما كان للسلف من سبيل ومسعى. أفلا يقول الفقهاء «إنّ الاختلاف رحمة»؟ أنا إذا مختلف وأرجو رحمة من ربّي. ثمّ لا تنسى يا صاحبي. أنا أتيت الحجّ ومشيت الى عرفة وشربت ماء زمزم وسعيت سبع مرّات بين الصفا والمروى الى غير ذلك من المناسك الأخرى. كلّ المناسك أتيتها في خشوع وصدق. في ليلة عرفة، قلت للشيخ أن يدلّني على ماهيّة السعي، فقال استغفر الله واطلب الرحمة لك ولوالديك وابك إن استطعت... فعلت كلّ شيء الا واحدة. دعوت الله كثيرا وطلبت الرحمة لأمّي ولأختي مريم. لكن لم تنزل من عينيّ دمعة رغم ما بذلت من جهد وما أتيت من عصر...
في الحجّ، كلّ يوم، كنت أصلّي صلواتيّ في أوقاتها، خلف زوجتي، في بيت مكيّف، في نزل فخم. كانت صبيحة أحرص منّي على الفرائض وكنت أتبعها طواعيّة لمّا تتوضأ ولمّا تصلّي... يوم الجمعة، أمشي الى جامع الحيّ وحدي. لا حقّ للنساء في صلاة الجمعة. في الجامع الصغير، أستمع الى خطبة الامام فوق المنبر. أتابع ما يقوله من أمر ونهي. لا يعجبني خطاب إمام الجمعة. كان يقول كلاما منتهيّ الصلاحيّة. فيه تكرار سخيف وسجع لا فائدة منه ترجى. أمّا رمي الجمرات فأدّيتها على أحسن وجه. بفضل الله، كنت طويل القامة. أقف بعيدا عن الناس وقد تدافعوا دفعا. في يدي حجيراتي. أرميها على الحائط بعنف. ألعن الشيطان مع كلّ جمرة. أعيد الرمي مرّات عدّة. بعد الرمي، أعود الى البيت. أسأل نفسي هل انتهيت مع الشياطين. هل انتهى أمرها حقّا؟ في الطريق، تحت لهيب الشمس، أعود الى قلبي. أنظر فيه. ألقاه في مكانه. يسكنه شيطان أزرق. أستغفر الله وأنسى.
***
قريبا سألتقي وجه ربّي. لا يهم. لست الوحيد في الأرض الذي يلقى وجه ربّه. كلّ نفس ستمشي الى جوار ربّي. لا يهمّ. أنا اليوم في الأرض أحيا وقد فارق الأرض الكثير من أهلي وصحبي. بعد ذاك المرض الخبيث، ها أنا أعود وأحيا. ها أنا ألهو. لم يسعف الحظّ الكثير من صحبي. قتل المرض الخبيث الكثير منهم... هذا مختار أراه يتبختر. في انشراح وزهو. كان مختار محبّا للحياة، دوما يضحك. له صوت حمّال. دوما يغنّي. أهلكه المرض بعد صراع مرير منذ سنوات عدّة. هذا المهدي من سيدي بوزيد. رجل أسمر الوجه، كريم. كان المهدي مسالما، فخورا بابنيه. عنهما دوما يتحدّث. هو الآخر قصفه المرض الخبيث ونزعه عن ولديه قسرا. هذا عبد الرحمان من العاصمة. طويل القدّ رقيق الأصابع. أبيض الوجه. له لحية بيضاء كثّة. هو فنّان يحبّ النبيذ ويبغض المحافظين ومن مشى خلفهم في الأرض. في بيته، أراه مرّة يزرع وردا، مرّة يقرأ. يقرأ عبد الرحمان بانتظام مقالاتي في المغرب. أحيانا، يهاتفني ليقول فيها رأيه. هو أستاذ صعب. إن أعجبه المقال شكرني وإن لم يرق له انتقدني بلطف. هذا صالح من باجة وكان صالح ظاهرة اجتماعيّة فريدة، مميّزة. كنت أحبّ صليح وما يأتيه من فعل جنون. يعشق صالح الحياة والثورة والنساء والخمر. هو الآخر، أهلكه المرض الخبيث يوما. أمّا شكري وهو أستاذ زميل فكان رجلا نشيطا، في كدّ متّصل. دوما يسعى. لشكري طموحات كبرى. له كتابات في الشبكة بهيّة. سهام ناريّة. منذ أشهر، فارق صاحبي الحياة الدنيا وكنت أخاله نجا من مرض ماكر، كلب...
الكثير من صحبي وأهلي غادروا الدنيا. كلّ سنة، واحد أو اثنان أو أكثر من أقاربي، من صحبي ينتهي أمره. يمشي الى جوار ربّي. أنا أيضا، قريبا، سأغادر الدنيا. سألتقي وجه ربّي. لا أدري كيف سألقى وجه ربّي. لا يهمّني ما سوف ألقى. لا أعبأ بما سوف يكون من نار أو جنّة. مصير الانسان في الأرض. حياته في الدنيا. أنا حدّدت في الحياة مصيري، كما ارتأيت. دون طمع ولا خوف. ماذا يمكن أن يكون اللقاء بالربّ؟ فليفعل بيّ الربّ ما شاء من الفعل وما أظنّه فاعلا شيئا. لا أدري. سوف نرى ما سوف يكون. في انتظار وجه ربّي أنا اليوم أحيا. أمّا غدا فقضيّة أخرى.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115