كالرشوة أو غسل الأموال أو هدر المال العام، وحتى في ظل المصادقة على المعاهدات الدولية ذات الصلة، فإنّ ضعف الإرادة السياسية وضعف الحشد الجماهيري يمكنهما أن يقوّضا كل جهود مكافحة الفساد وتفعيل تلك النصوص على أرض الواقع، وأكبر دليل على ذلك ما لقيته أعمال اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق حول الرشوة والفساد من تشكيك وإرباك لما حاولت الكشف عن ملفات الفساد داخل بعض المنظمات والهياكل السياسية أو النقابية أو الإعلامية، فقد تعرضت إلى حملات تشويه وتشكيك منظّمة وقفت وراءها وحرّكتها في غالب الأحيان أطراف تخشى المساءلة والمحاسبة، وهو ما يطرح وجوب انبثاق هياكل مكافحة الفساد من المجتمع المدني وضرورة حصولها على دعــم شعبي واسع يحصّنها وييسّر مهمتها، هذا فضلا عن ضرورة وجود علاقــــة تكامل وتفاعـــل بينها وبين وكل الهياكل المتدخّلة في هذا المجــــال، وهذه العلاقــة لا يجب أن تتحوّل بحال إلى علاقــــة تداخل أو تنـــازع حــــول الاختصاصـــــــات(لجنة المصادرة، المكلف العام بنزاعات الدولة، هيئة الحقيقة والكرامة، القضاء...).
وعموما، يمكن تلخيص أبرز المعوقات والعراقيل التي ظل ولا يزال يواجهها مجهود مكافحة الفساد في المحاور الأساسية الخمسة التالية:
1 - المعوقات القانونية
- بالرغم من أنّ إحداث الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد يعود الى تاريخ 14 نوفمبر 2011 كهيئة دائمة ومستقلة، فإنّ مقدراتها لم تكن لتكفي لتنفيذ مهامها المضبوطة بالمرسوم الإطاري المحدث لها على النحو المطلوب، ذلك أنّه، وعلاوة على الصعوبات المادية التي ظلت تلاحقها من خلال شحّ المخصّصات المرصودة لها، فإنّ العديد من النصوص القانونية التي تحتاجها الهيئة صدرت بتأخير كبير والحال أنّ مشاريعها كانت جاهزة منذ سنوات ولا تنتظر إلا المصادقة عليها، علاوة على أنّ الأمر الحكومي المتعلّق بتعيين أعضاء جهاز الوقاية والتقصي لهذه الهيئة، باعتباره الجهاز المؤهّل لوحده طبق القانون بالبحث في جرائم الفساد لم يصدر إلى اليوم، وهو الأمر الذي دفعها، في غياب تعيين أعضاء الجهاز المذكور، إلى العمل في غياب هذا الجهاز الحاسم، وذلك طبق الهامش القانوني المتاح.
- كما أنّ العديد من النصوص التطبيقية المنصوص عليها بالقوانين الأساسية المتّصلة بالأساس بالإبلاغ عن الفساد وحماية المبلّغين وبالنفاذ إلى المعلومة وبالتصريح بالمكاسب والمصالح وبمكافحة الإثراء غير المشروع وتضارب المصالح لم تصدر بعد، بما عطّل إنفاذ مقتضيات تلك القوانين وأعاق الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد ومنعها من تفعيل العديد من الآليات المنصوص عليها بهذه القوانين.
- فضلا عن ذلك، ولئن تمّ استكمال المنظومة التشريعية الوطنية بشكل جعلها تشتمل في العموم على مجمل الوسائل القانونية المطلوبة في مجال إرساء قواعد الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد، فإنّ المجلة الجزائية التونسية لا تزال في حاجة مؤكدة إلى المراجعة والتحيين بغاية تجويد مقتضياتها ونزع كل التناقضات والعراقيل القانونية الواردة بها والمتعلقة بالأساس بتجريم الفساد والإثراء غير المشروع في القطاع الخاص وتجريم إرشاء أو ارتشاء الأعوان العموميين الأجانب، فضلا عن عدم استكمال الإطار التشريعي المتعلق بتمويل الأحزاب والجمعيات، وأخيرا وجوب تنظيم مؤسّسات سبر الآراء بالنظر لتأثيرها على الرأي العام والمجتمع وتوجهاته، خاصة في كل ما يتعلّق بالانتخابات.
2 - المعوقات القضائية
بالرّغم من تنامي عدد الملفات المحالة إلى القضاء والمتعلّقة بشبهات ارتكاب جرائم اقتصادية ومالية وجرائم رشوة وفساد من قبل اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق حول الرشوة والفساد، ومن بعدها الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد خلال الفترة الفاصلة بين سنتي 2011 و2017، والمقدّرة كلها في حدود 780 ملفا، علاوة على تلك المتعهد بها مباشرة من مختلف الهيئات القضائية، فإنّ نسبة البتّ القضائي لا تتجاوز في أقصى الحالات 10 % من مجموع الملفات المحالة، حيث لا تزال نسبة هامة من هذه الملفات موضوع إنابات قضائية وأبحاث ابتدائية لدى مراكز الشرطة والحرس الوطني وفرق الأبحاث، والحال أنّها تتعلّق في جانب كبير منها بجرائم ذات علاقة بقطاعات حسّاسة على غرار القطاعين البنكي والعقاري، وباستغلال النفوذ ونهب المال العام على غرار ملفات خوصصة بعض المؤسّسات والمنشآت العمومية الناشطة في قطاعات النقل والطاقة والاتّصالات وتراخيص ممارسة الأنشطة الاقتصادية، فضلا عن ملف الوكالة التونسية للاتصال الخارجي، علاوة على ملفات أخرى تعلّقت بشبهات فساد علقت ببعض السّياسيين (الوزراء والنواب بالبرلمان ورؤساء الأحزاب) وكبار المستشارين والمسؤولين في الإدارة وفي المؤسسات العمومية، وأخرى مسّت قطاعات حيوية على غرار قضية اللوالب القلبية المنتهية الصلوحية أو تلك المتعلقة بتمويل أنشطة الجمعيات والأحزاب وبعض المترشّحين للانتخابات التشريعية والرئاسية لسنة 2014.
ولعلّ الإجماع اليوم يكاد يكون حاصلا أنّ تونس شهدت تأخرا كبيرا في مجال الملاحقات القضائية ذات الصلة بالفساد والرشوة وبجرائم الاعتداء على المال العام ونهب ثروات البلاد، ويعود ذلك بالأساس إلى انعدام الإرادة السياسية التي تدفع نحو التأسيس لقضاء مستقل وفعّال من حيث الآليات والإمكانيات والضمانات ليكون قادرا على مواجهة الكمّ الهائل والمتشعّب من ملفات الفساد المعروضة عليه منذ سنوات، حيث ثبت أنّ القضاء التونسي لم يكن متهيئا بالقدر الكافي وأنّ قضاة التحقيق الذين كلّفوا بملفات الفساد يفتقرون للخبرة وللإمكانيات التي تجعلهم قادرين على كشف أغوار تلك الملفات وتفكيك طلاسمها.
كما أنّ ارتجالا حكوميا برز في هذا المجال، حيث تولّت وزارة العدل بمجرد مذكرتي عمل إحداث قطب قضائي مختص في البحث في جرائم الفساد المالي دون غيرها من الملفات، ولئن انطلق القطب القضائي المذكور في العمل منذ 23 جانفي 2013، فإنّه لم يكن سوى امتدادا صوريا للمحكمة الابتدائية بتونس، حيث اقتصر الأمر على تعيين 10 قضاة تحقيق به و5 أعضاء من النيابة العمومية ليتقلّص هذا العدد تدريجيا بموجب تغييرات على المسارات الوظيفية للقضاة المعينين به، كما أنّ الأغفال عن سنّ قانون أساسي في الغرض يضبط قواعد مرجع النظر الحكمي والترابي وإجراءات التّعهد والإحالة والتحقيق وتسمية القضاة والخبراء العاملين بهذا القطب القضائي، فتح المجال للعديد من التساؤلات القانونية حول كيفية تعهّد القطب المذكور بقضايا الفساد المالي المنشورة لدى بقية مكاتب التحقيق.
ولئن صدر لاحقا القانون الأساسي عدد 77 لسنة 2016 المؤرخ في 6 ديسمبر 2016 المتعلّق بالقطب القضائي الاقتصادي والمالي، بوصفه جهازا مختصا بالبحث والتتبع والتحقيق والحكم في الجرائم الاقتصادية والمالية المتشعبة وفي الجرائم المرتبطة بها، فقد بقيت إلى اليوم حاجة ملحّة إلى تعزيز هذا القطب بالإمكانيات البشرية والمادية الضرورية التي تمكّنه من تجاوز النسق البطيء لمعالجة الكم الهائل من الملفات المعروضة عليه.
ولعل عدم نجاعة الملاحقات القضائية وخاصة غياب كل مبادرة جريئة من القضاء في هذا الاتّجاه هي التي برّرت تدخّل السلطة التنفيذية في شخص رئيس الحكومة ووزير الداخلية بالأساس يوم 23 ماي 2017 للقيام بحملة إيقافات مفاجئة وغير مسبوقة في صفوف «رجال الأعمال» الضالعين في التهريب والفساد وفي المس من الأمن العام، وهي إيقافات لم تكن مأذونا بها من القضاء بل كانت مستندة إلى الأمر عدد 50 لسنة 1978 المؤرخ في 26 جانفي 1978 المتعلق بتنظيم حالة الطوارئ، وهي مسألة سنرجع إليها لاحقا.
وما يمكن استنتاجه في هذا المضمار أنّ إهدار القضاء لمبدأ البتّ في آجال معقولة والذي يعدّ من مكوّنات المحاكمة العادلة (الفصل 108 من الدستور)، إلى جانب افتقاده للجرأة، أعطيا مشروعية لحملة الحكومة المذكورة أعلاه والتي تنقصها الشرعية القانونية الكافية.
ومن جهة أخرى، ولئن أسند دستور 2014 لمحكمة المحاسبات اختصاص مراقبة حسن التصرف في المال العام (الفصل 117 من الدستور) ومقاومة الفساد، فإنها لم تحظ هي الأخرى بالعناية والموارد اللازمة من قبل السلط العمومية قبل الثورة وبعدها، بما انجرّ عنه عدم تمكّنها من أداء دورها المنتظر في مقاومة الفساد والرشوة وفي حماية الأموال العمومية.
3 المعوقات السّياسية
إنّ طريق مكافحة الفساد طويل وعسير ويحتاج إلى مجهود جماعي ومتكامل أساسه الإرادة السياسية الدائمة والجلية، غير أنّ الواقع أفرز ولا يزال تردّدا ملحوظا في هذا المجال، ذلك أنّه ولئن تعدّدت الحكومات منذ الثورة رافعة شعار مكافحة الفساد ضمن أولوياتها وأهدافها الرئيسية، فإنّ أغلبها بقي متردّدا وممارسا في الغالب لسياسة الخطوة إلى الأمام والخطوتين إلى الوراء، أو تجدها خاضعة لإكراهات ترد عليها من بعض الأوساط المقرّبة منها والتي قد تكون في الحكم أو خارجه.
ولعلّ قرار رئيس الحكومة الصادر بتاريخ 2 مارس 2017 والقاضي بحذف وزارة الوظيفة العمومية والحوكمة وإلحاق الهياكل والمؤسّسات الراجعة لها بالنظر برئاسة الحكومة يندرج في خانة المؤشرات السياسية السلبية في مجال مجهود مكافحة الفساد، خاصة بعد إدلاء الوزير المشرف على تلك الوزارة بتاريخ 25 فيفري 2017 بتصريحات اتّهم فيها رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة بعدم وجود نية لديهما لمحاربة الفساد.
فضلا عن ذلك، فإنّ عدم تفعيل المجلس الأعلى للتصدي للفساد واسترداد أموال وممتلكات الدولة والتصرف فيها والذي أحدث بمقتضى الأمر عدد 1425 لسنة 2012 المؤرخ في 31 أوت 2012 يعدّ صورة من صور التراخي السياسي المعرقل لمجهود مكافحة الفساد، ذلك أنّ المجلس المذكور على أهمية تركيبته وصلاحياته لم يجتمع منذ إحداثه سنة 2012 إلا في مناسبتين، حيث كان بإمكانه أن يلعب دورا مهما في متابعة وتنسيق أعمال مختلف اللجان والهيئات الوطنية المكلّفة بمصادرة واسترجاع والتصرف في الأموال والممتلكات المكتسبة بطرق غير شرعية.
كما أنّه ولئن تمّ تضمين مكافحة الفساد كأولوية من الأولويات والتوجهات المتّفق عليها بين السلط العمومية والأحزاب والمنظمات الوطنية الموقّعة على وثيقة اتّفاق قرطاج المؤرخة في 13 جويلية 2016، فإنّ الاطلاع البسيط على وثيقة قرطاج الثانية لسنة 2018 أبرز غياب أي تنصيص أو إشارة إلى هذه الأولوية بها، وهو ما يعكس مرة أخرى تذبذب الإرادة السياسية وعدم جدّيتها في تعاملها مع ملف محاربة الفساد منذ الثورة.
ولعلّ حيّزا هاما من التعثّر يعود بالأساس إلى الآثار السلبية التي خلّفها تقديم رئاسة الجمهورية لمشروع قانون أساسي يتعلّق «بإجراءات خاصة بالمصالحة في المجال الاقتصادي والمالي» في شكل مبادرة تشريعية تهدف بحسب ما جاء في وثيقة شرح أسبابها إلى «تهيئة مناخ ملائم يشجع على الاستثمار وينهض بالاقتصاد...من خلال اتّخاذ جملة من التدابير الخاصة بالانتهاكات المتعلقة بالفساد المالي والاعتداء على المال العام تفضي إلى غلق الملفات نهائيا وطي صفحة الماضي تحقيقا للمصالحة الوطنية»، على أن يكون ذلك من خلال سنّ عفو لفائدة الموظفين وأشباههم بالنسبة للأفعال التي تمّت مقاضاتهم من أجلها والمتعلقة بالفساد المالي والإداري كفتح المجال أمامهم لإبرام صلح في شأن ما نسب إليهم من مؤاخذات.
وقد تصدّت مكوّنات مدنية وسياسية ومجتمعية لهذا المشروع باعتباره يفرغ من جهة منظومة العدالة الانتقالية من محتواها، ويؤدّي كذلك إلى مخالفة أحكام الدستور التي ألزمت الدولة بالحرص على حسن التصرف في المال العام ومنع الفساد ومقاومة التهرب والغش الجبائيين، فضلا عن مخالفته الثابتة للاتّفاقية الأممية لمكافحة الفساد المعتمدة في 31 أكتوبر 2003 والمصادق عليها من قبل الجمهورية التونسية في 25 فيفري 2008.
كل هذه المؤاخذات تجنّدت لإبرازها أطياف واسعة من منظمات وجمعيات حكومية وغير حكومية انتهت في الأخير إلى النجاح في منع تمرير مشروع قانون المصالحة المذكور والحيلولة دون عرضه على الجلسة العامة لمجلس نواب الشعب، قبل أن يمرّ هذا المشروع بمضمون جديد ومغاير لما كان عليه ويحظى بمصادقة مجلس نواب الشعب بجلسة يوم 12 سبتمبر 2017 بعد أن بات في غير الصيغة الأصلية التي عرض بها لأول وهلة، إذ أصبح يقتصر على سنّ تدابير خاصة بالموظّفين العموميين وأشباههم من الذين نفّذوا تعليمات رئاسية ومن دون الحصول على منافع لخاصة أنفسهم ، على أن يستثنى من ذلك كل من ثبت قبولهم لرشاوى أو استولوا على أموال عمومية.
علما بأنّه وبرغم التعديلات الجوهرية المدخلة على صيغته الأصلية، فقد ظلّ قانون المصالحة في المجال الإداري يواجه انتقادات من عدد من مكوّنات المجتمع المدني على غرار جمعية « أنا يقظ» التي دعت بالتنسيق مع «حملة مانيش مسامح» إلى النزول إلى الشارع للتصدّي له، كما قامت 11 جمعية ومنظمة بتاريخ 2 أوت 2017 بتوجيه رسالة إلى رئيس المجلس الأعلى للقضاء وأعضائه بغاية دعوتهم إلى مواجهته باعتباره يسمح بخيانة قيم الثورة ونضالات الشعب التونسي وبإرجاع منظومة الاستبداد.
بقي أنه لابد من الإشارة في هذا المجال إلى مبادرة «الحرب على الفساد» التي أطلقتها الحكومة بتاريخ 23 ماي 2017 والتي تمّ بموجبها إطلاق حملة من الإيقافات في صفوف «رجال الأعمال الضالعين في التهريب والفساد»، وهي مبادرة استندت إلى الأمر عدد 50 لسنة 1978 المتعلق بتنظيم حالة الطوارئ والذي نصّ فصله الخامس على أنه «يمكن لوزير الداخلية أن يضع تحت الإقامة الجبرية في منطقة ترابية أو ببلدة معينة، أي شخص يقيم بإحدى المناطق المنصوص عليها بالفصل الثاني أعلاه يعتبر نشاطه خطيرا على الأمن والنظام العامين بتلك المناطق. ويتعين على السلط الإدارية اتخاذ كل الإجراءات لضمان معيشة هؤلاء الأشخاص وعائلاتهم».
وقد شملت عملية الإيقافات ثمانية أشخاص منهم رجال أعمال معروفون بعلاقاتهم بالنظام السابق وحتى من بعض الأوساط السياسية الحاكمة، ومنهم كذلك من سبق له الترشح للانتخابات الرئاسية لسنة 2014 ومنهم بعض الأشخاص المعروفين في مجال التهريب والتجارة الموازية.
ولئن نال إطلاق رئيس الحكومة هذه الحرب في البداية استحسان أغلب مكوّنات المجتمع التونسي وحظيت بالتجاوب والدعم الكبيرين لدى العموم ولدى مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي، فإنّ شقا مقابلا من الحقوقيين ورجال السياسة اعتبروها مجرّد «ذرّ رماد على العيون» أو هي انتقائية وتحرّكها دوافع «سياسوية ضيقة»، في حين اعتبرها البعض الآخر قائمة على إجراءات غامضة أو هي غير سليمة من الناحية القانونية باعتبارها استندت إلى الأمر عدد 50 لسنة 1978 المتعلق بتنظيم حالة الطوارئ بما ينطوي عليه من صلاحيات استثنائية باتت تتعارض مع دستور 2014، وأنه لا مناص من ضرورة اضطلاع القضاء صاحب الاختصاص الأصيل بمهامه في مجال تتبع جرائم الفساد والتصدي لها في نطاق إجراءات المحاكمة العادلة وطبق الضمانات الدستورية المكفولة، وهي انتقادات بان صوابها شيئا فشيئا بفعل انقطاع وهيج هذه الحرب وتوقفها بعد أن امتدّت لمدة وجيزة، حيث لم تتواصل بنفس الوتيرة أو هي انقطعت وتوقفت بالتمام، فضلا عن إصدار المحكمة الإدارية للعديد من القرارات التي قضت فيها ببطلان إجراءات المصادرة التي رافقت تلك الإيقافات لافتقادها لكل سند واقعي وقانوني سليم، ثم تلا ذلك صدور قرار عن المحكمة الإدارية بتاريخ 2 جويلية 2018 تحت عدد 150168 قضت فيه بعدم دستورية الأمر عدد 50 لسنة 1978 المتعلق بتنظيم حالة الطوارئ سند هذه الحرب على الفساد.
4 - المعوقات الإعلامية
لئن تكوّنت داخل المجتمع التونسي قناعة راسخة بضرورة توفير كل الدعم والمساندة للّجان والهيئات والهياكل المشاركة في الحرب على الفساد، فإنّ هذه الأخيرة لم تخل من حملات التشكيك والإرباك المنظمة التي كانت تقف وراءها في غالب الأحوال أطراف تخشى المساءلة والمحاسبة، وهي أطراف وجدت في بعض المواقع الإلكترونية والصحف والأقلام غير النزيهة سبيلا لها لممارسة ضغوطاتها ومسعاها نحو تسميم التحركات الاجتماعية وتشويهها، فضلا عن سعيها نحو إذكاء النزعة الجهوية والقبلية والقطاعية (الأمر الذي عبّر عليه زياد كريشان بـــ»جمهورية القبائل»، وهي أكبر خطر على «الجمهورية الديمقراطية») بغاية إبرازها كغايات مستهدفة من السلطات أو من الهياكل المتدخلة في الحرب على الفساد، على غرار ما رافق أحداث منطقة الكامور بالجنوب التونسي والحوض المنجمي بقفصة من تدخل للوبيات الفساد الماسكة سواء لمسالك التهريب القريبة من الحدود أو تلك المسيطرة على دواليب نقل الفسفاط من تجييش وتمويل وإذكاء لموجة تلك الأحداث بغاية توسيع نطاقها وإرباك السلط العمومية وإثنائها عن كل محاولة في الحرب على الفساد وعن ملاحقة المهربين، فضلا عن إطلاق حملات التشويه التي استهدفت رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد وأعضائها من قبل الصحافة الصفراء ومجموعة من المدوّنين المرتبطين بدوائر الفساد، ووصل مدى هذه الحملات إلى انتهاك الحياة الخاصة والثلب والمسّ بالأعراض والحرمات، مع الملاحظ أنّ الهيئة تقدّمت في الغرض بعشرات القضايا في الخصوص، وهي مازالت سجينة خزائن القضاء.
كما حصل أن تعرّضت منظمة « أنا يقظ» بصفتها مشرفة على بحث استقصائي حول شبهات تهرب ضريبي وتحيل جبائي منسوبة إلى أحد مالكي قناة تلفزية خاصة والمقرّب من الجهات الحكومية إلى تتبّعات قضائية انتهت في الأخير بعدم سماع الدعوى.
غير أنّه وعلى الرغم من امتداد النفوذ الإعلامي للمال الفاسد، فإنّ غالبية المشهد الإعلامي في تونس تميّز إجمالا منذ الثورة بمتابعته وتركيزه على كل الملفات المرتبطة بفساد بعض رجال المال والسياسة وبالشخصيات ذات العلاقة بالشأن العام، حيث ما فتئت المنابر الإعلامية تفتح أمام مختلف الجهات والجمعيات والهياكل المتحمسّة لهذه الملفات، وسجّلت العديد من هذه الملفات تركيزا إعلاميا كان له الأثر الإيجابي على نسق التحقيق فيها وفي كشف خفاياها وملابساتها لعموم الناس.
كما تتعيّن الإشارة إلى ظهور الصحافة الاستقصائية ومن أبرز عناوينها موقع «انكفادا» (ومن أبرز الملفات التي تناولها: بناما بايبرز، الديون العمومية غير المستخلصة، تونس مغسلة الأموال الليبية...).
وقد ساعد هذا الأمر على خلق رأي عام صلب مساند في أغلبه لمكافحة الفساد، ويرى في الفساد خطرا على الانتقال الديمقراطي (سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وإعلاميا وحتى قضائيا).
5 - المعوقات السوسيولوجية
ساهمت بعض المعطيات السوسيولوجية في التأثير على متانة وصلابة الحراك الاجتماعي المناهض للفساد على غرار ترسخّ عقلية «رزق البيليك» في السلوكيات، فضلا عن بروز بعض الخلفيات الجهوية والقطاعية (جمهورية القبائل) والتي تقوم على منع كل محاولات التركيز في الملاحقات القضائية المتّصلة بالفساد والرشوة على بعض الشخصيات المنتمية إلى بعض جهات البلاد بحجة وجود نوايا لاستهداف بعض الجهات من البلاد دون غيرها أو بعض الشخصيات المنتمية إليها، أو على بعض القطاعات والتنظيمات الاجتماعية والوطنية على غرار قطاع القضاء أو المحاماة أو الأمن أو الصحافة والإعلام، أو ما عبّر عنه بمحاولات استهداف العمل النقابي من خلال إثارة بعض ملفات الفساد داخل هذه التنظيمات ذات العلاقة.
كما أنّ من أبرز صور هذه المعوقات بروز تصور شعبي مستمد من مصطلح الشهامة العربية ومفاده أنّ كلّ مبلّغ هو في النهاية «قوّاد»، وأنّ الإفصاح عن الفساد ليس من شيم الرجال، وهو ما يفسّر أحيانا الإعراض عن التبليغ عن الفساد وضعف الإقبال على الانتفاع بمزايا قانون حماية المبلّغين.
• ثالثا: الخاتمة
1-لئن تراوحت مجمل هذه التراكمات القانونية والواقعية في التأثير على المسار الانتقالي، طورا بالإيجاب وطورا آخر وهو الغالب بالسلب من خلال عدم انحسار حجم الفساد وتمدّده في كل الأجهزة والقطاعات في ظل غياب الاستقرار السياسي ودقة المرحلة الانتقالية التي تشهدها البلاد منذ اندلاع الثورة، فإنه من المؤكد أنّ المجتمع التونسي يمتلك مقّومات النجاح والمرور بسلام إلى إرساء دولة القانون والمؤسّسات وإلى المضي قدما في طريق الحرب الهيكلية على الفساد. فالمعركة ولئن ستظلّ طويلة، رغم ما أنجز، فهي تحتاج الى مجهود جماعي ومتكامل أساسه الإرادة السياسية الجدية والثابتة والحس المواطني والشعبي، ومن مفاتيح النجاح المتوفرة في تونس التوفق في استكمال الإطار التشريعي الذي كان في وقت من الأوقات مطمحا صعب المنال، فضلا عن تواجد إعلام منفتح في غالبه ومساند عموما لمجهودات مكافحة الفساد ومجتمع مدني يقظ وقوي تأتي على رأسه الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان ونقابة الصحفيين التونسيين وعدد كبير من الجمعيات ناهز عددها اليوم 20 ألف جمعية بعد أن كان عددها يقتصر على 6000 جمعية على غرار جمعية «أنا يقظ» وجمعية «البوصلة»، وهي جميعا مسنودة بنخبة وطنية ومدنية توفقت في إدارة العديد من الأزمات والمعارك الفكرية والقانونية، توّجت بنيل تونس من خلال مؤسّسة «الحوار الوطني» جائزة نوبل للسلام بعنوان سنة 2015، فضلا عمّا كان للمرأة التونسية في كل هذا من نصيب متميّز ومن دور كبير لا يحتاج البيان، وهي التي تستحوذ اليوم على ما يناهز 60 % من المناصب والمهن النبيلة في البلاد على غرار القضاء والطب والتعليم، كلّ ذلك في ظلّ شعار أضحى يتداوله التونسيون باستمرار مفاده «إمّا تونس أو الفساد ونحن اخترنا تونس»، والنزاهة العلمية تقتضي الإقرار بأنّ أوّل من أطلق هذا الشعار هو شوقي الطبيب رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد.
2 - يبقى الدور الأهمّ مكفولا للقاضي الذي عليه أن يكون عادلا وجريئا وناجعا، في سياق ما كتبه عبد الرحمان بن خلدون في مقدّمته من أنّ «العدل هو أساس العمران»، وأنّ «الظلم مؤذن بخراب العمران»، ممّا يعني عكسيا وبالضرورة أنّ مقاومة الظلم والفساد مؤذنة بازدهار العمران.
3 - في ظلّ كل ما سبق، وبعد وضع مسافة تجاهه، تعيّن إيجاد التوازن الواقعي في هذه الحرب بين تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة، على نحو ما يراه المفكّر غرامشي.
انتهى