أزمتهم السياسية وآمال تحقيق الديمقراطية في بلادهم. لا يرتبط الأمر فحسب بإمكانية «تصدير» ما يسمى بالاستثناء السياسي التونسي الى المنطقة العربية، ولكن أيضا بإمكانية تقليد ديناميكية المنظمات النقابية وجمعيات المجتمع المدني المشكلة للمشهد السياسي في تونس والتي باتت تمثل سلطة مقترحات ورقابة قوية للسلطات.
نقابة الصحفيين التونسيين هي إحدى هذه المنظمات المهنية النقابية التي أصبحت تعد نقابة ذات ثقل وتأثير متنامي.
لا يتردد الصحفيون التونسيون في القول «بأن قصة نقابتهم هي قصة البحث عن الحرية».
هي بالنسبة لآخرين أكثر من هذا، هي أحد المؤشرات الأساسية لنجاح التجربة الانتقالية نحو الديمقراطية في تونس.
فمنذ الأيام الأولى للثورة برزت نقابة الصحفيين كفاعل اساسي في المشهدين النقابي والسياسي.
هذه المقالة تسرد مسيرة التحول والبحث عن التموقع التي عرفتها نقابة الصحفيين التونسيين.
النقابة.. الملجأ العربي الجديد!
كثيرة هي مؤشرات الدور الجديد الذي أصبحت تتمتع به النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين في محيطها المحلي والإقليمي.
ففي شهر ماي سنة 2016، استضافت نقابة الصحفيين فعاليات المؤتمر الثالث عشر للاتحاد العام للصحفيين العرب وهو المؤتمر الأول من نوعه الذي تعقده كبرى المنظمات النقابية العربية للصحفيين في شمال افريقيا منذ تأسيسها سنة 1964(1). كانت العادة في السابق، هي أن تشرف بلدان المشرق العربي على تنظيم مثل هذه المؤتمرات.
انعقد المؤتمر بتونس العاصمة تحت شعار «لا للإفلات من العقاب بالنسبة للجرائم المرتكبة ضد الصحفيين» وهو موضوع يُعدَ من المحظورات في المنطقة العربية (2).
أصبحت تونس ونقابة الصحفيين التونسيين، بالنسبة للعديد من المراقبين، ملجأ العديد من الصحفيين العرب الهاربين من الحروب الأهلية والمضايقات في بلدانهم على شاكلة العديد من الصحفيين السوريين والليبيين والمصريين والعراقيين واليمنيين الذين اتخذوا من تونس مقرا جديدا لعملهم ولإقامتهم.
خباب عبد المقصود، صحفي مصري ومنتج برامج مقيم في تونس، واحد من عشرات الصحفيين العرب الذين اتخذوا من تونس فضاءا لممارسة مهنته الصحفية يقول “في سنة 2015 قررت الخروج من مصر بعد أن أصبح الاعلام تقريبا ذا صوت واحد. كنت مراسلا ومنتجا في فريق آخر كلام (تلفزيون «أون تي في» المصري الخاص). لم أكن وحدي الذي غادر البرنامج ، فأغلب فريق البرنامج أصبح خارج مصر. لم أتردَد في المجيء الى تونس التي واصلت ثورتها ولاتزال على طريق التغيير». يضيف «عبد المقصود»: مساحة الحرية والأمان في تونس تجعلني أشعر أنني قادر على نقل حكايات الناس كما أراها».(3)
عاما بعد انعقاد مؤتمر اتحاد الصحفيين العرب في تونس بالحساسية التي حملها شعاره، أعلن الاتحاد الدولي للصحفيين من مقر نقابة الصحفيين في تونس يوم 18 نوفمبر2017 عن مشروع معاهدة دولية جديدة لحماية الصحفيين في العالم.
كان من الواضح أن الاعلان عن هذه المعاهدة الجديدة من تونس وبحضور «أنطوني بلانجير» الأمين العام للاتحاد الدولي للصحفيين و»ناجي البغوري» نقيب الصحفيين التونسيين، بمثابة اشعار لما أصبحت تتمتع به تونس ومنظمتها الصحفية من دور مهم وكملجأ جديد في المنطقة العربية لكلَ المبادرات الحامية للصحافيين والمدافعة عن حرية الاعلام.
فضلا عن مؤتمر اتحاد الصحفيين العرب، قررت الكنفدرالية الدولية للصحفيين عقد مؤتمرها القادم، أواسط سنة 2019 في تونس تحت اشراف نقابة الصحفيين التونسيين، وهو الحدث الذي يعدُ الأول من نوعه في المنطقة العربية وافريقيا.
يعدَ اختيار تونس لتنظيم المؤتمر العام للاتحاد الدولي للصحفيين حدثا استثنائيا في تاريخ الصحافة العربية أرجعه مؤيد اللامي رئيس الاتحاد العام للصحفيين العرب» الى نضال وجُهد الصحفيين التونسيين في ترسيخ مبادئ الحرية والديمقراطية في بلادهم» (4)
فطوال السبع سنوات الأخيرة التي أعقبت الثورة تحولت نقابة الصحفيين التونسيين الى رقم صعب في المعادلة النقابية والسياسية في البلاد، دفع يوسف الشاهد، خامس رئيس حكومة بعد الثورة، الى الحضور بنفسه الى مقر النقابة بالعاصمة يوم 14 جانفي 2017، بمناسبة الذكرى السنوية للثورة وبمناسبة الذكرى التاسعة من تحول «جمعية الصحفيين التونسيين» الى «نقابة وطنية للصحفيين» (13 جانفي 2008). جاء رئيس الحكومة بنفسه الى مقر نقابة الصحفيين بالعاصمة تونس معلنا عن جملة قرارات اجتماعية واقتصادية شملت بشكل خاص دعم الصحافة المكتوبة التي تعيش أزمة اقتصادية خانقة أدَت الى اغلاق العديد من الصحف في السنوات الأخيرة. كان حضور رئيس الحكومة شخصيا الى مقر النقابة بمثابة الاعتراف بالمكانة التي أصبحت تتمتع بها نقابة الصحفيين بعد عشريات من القمع والتضييقات.
أشواق الحرية
من المهم أن نعود الى السنوات الأخيرة التي سبقت الثورة لنفهم هذا التطور الذي شهدته نقابة الصحفيين التونسيين مكانة وأهمية. فقد اتسمت هذه السنوات، بحسب تعبير النقيبة السابقة للصحفيين التونسيين نجيبة الحمروني، وهي أول امرأة تعتلي منصب رئاسة نقابة صحفية في المنطقة العربية، بمثابة «سنوات الصراع من أجل شرعية الوجود»(5).
طوال الخمس سنوات التي سبقت الثورة، خاض الصحفيون التونسيون صراعا طويلا من أجل فرض مطلبهم بتحويل هيكلهم الى «نقابة» متخليين عن دورهم الذي رُسم لهم من قبل نظام الرئيس زين العابدين بن علي الذي أراد أن يواصل هذا الهيكل دوره «كجمعية» تقاس أهمية دورها بمدى التزامها بالخطوط الحمر التي رُسمت لها.
كانت توازنات النظام في تلك الفترة وتزكيته لبعض المرشحين في انتخاباتها عنصر مهم في وجودها ودعمها ماليا وتحديد دورها مسبقا.
تاريخ نقابة الصحفيين التونسيين هو في الحقيقة تاريخ المنظمات النقابية في تونس، حيث تأسَس أول هيكل مهني جامع للصحفيين في تونس سنة 1962 تحت اسم «الرابطة التونسية للصحافة» قبل أن يتحول اسمها سنة 1969 الى «جمعية الصحفيين التونسيين».
في جانفي 2008 استطاع الصحفيون التونسيون تحويل «جمعيتهم» الى «نقابة وطنية للصحفيين التونسيين».
في عام 2009 ، شنت الحكومة حملة ضد النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين ، بعد أن بدأت الأخيرة تنتقد الحكومة لتقييد حرية الصحافة ومعاملة قاسية للصحفيين. أدت الحملة إلى الإطاحة وتهميش المكتب التنفيذي الشرعي والمنتخب بشكل مستقل واستبداله بمكتب جديد موالي للرئيس.
عايشت هياكل الصحفيين التونسيين بتسمياتها المختلفة حقبة الثلاثين سنة من حكم مؤسس الجمهورية التونسية الحبيب بورقيبة سنة 1956، كما تعايشت مع رُبع قرن من فترة حكم الرئيس زين العابدين بن علي هذا فضلا على فترة الثلاثة الرؤساء الذين تعاقبوا على حكم البلاد بعد الثورة.
طوال حوالي نصف قرن، خاض الصحفيون التونسيون صراعات متعددة من أجل الاستقلالية وحرية الاعلام.
الكاتبة الصحفية والناشطة النسوية المخضرمة «نورة البورصالي»(6) اشتغلت في ثلاث صحف تمكنت السلطات السياسية من اغلاقها قبل الثورة وهي جريدة «المغرب» و»الرأي» و»لوفار»، كما عايشت «البورصالي» طوال الثلاثين السنة الماضية اعتقال العشرات من الصحفيين التونسيين وسجنهم.
وصَفت «البورصالي» حالة الانغلاق الاعلامي التي بلغت أوجها في السنوات الأخيرة قبل الثورة بانها «حالة ديكتاتورية تدعو الى الاكتئاب»(7).
يتبع