في تلك المناطق، هناك دوما غضب يتجدّد. هناك احتجاجات وطرق تقطع وأحيانا يسيل الدم... في نظري، الجنوب هو بؤرة توتّر. في ما أرى، هي منطقة يسكنها غموض وتململ. في الجنوب، تحاك الدسائس والناس هناك، دوما في تهافت. كنت أعتقد أنّ الجنوب فقر كلّه. تشدّه جهالة وتأكله غلظة. كنت أعتقد، أنّ الارهاب له في الجنوب قدم وأحيانا أراه يضرب. أمّا التهريب فهذا نشاط مزدهر، منتشر. في التهريب يشتغل الناس ومع الارهابيين يلتقي المهرّبون. استفحلت، في الأرض، منذ الثورة، الظاهرة. أحيانا، أعتقد أن لا صلاح لهذه المنطقة وأنّ هذه يلزمها العصا والتصلّب... هذا ما كنت أرى وهذا ما كنت أعتقد. قبل زيارة الجنوب، هيّأت نفسي. ها أنا أنظر من خلال ما استقرّ في النفس من ريبة، من أحكام جاهزة...
* * *
منذ أيّام قليلة، مشيت وزوجتي الى الجنوب واستقرّ بنا الرحال في مدينة توزر. هناك، تجوّلنا في كلّ المنطقة، من قرى وواحات وأرياف. خلال ثلاثة أيّام، زرت وزوجتي أهمّ ما في توزر من أرض ومن معلم...
على خلاف ما كنت أعتقد، أنا منبهر بما لقيت في توزر من حياة ومن متعة. أنا معجب بما رأيت من خير ومن زرع ومن بشر. لا صحّة في ما كنت أعتقد. أنا كنت على خطأ.. في توزر، عشت ثلاثة أيّام حلوة. أيّام قطعت من الصبا. فيها نور ودفء وطمأنينة. ثلاثة أيّام جاءتني من الذكرى، من غور النفس. هبّة نسيم، بلسم. في توزر، كنت في جنان، في جنّة. توزر، يا إخوتي، هي ربيع ومتعة وهدوء. هي بهاء ونور يسري... دعني من الوصف ومن الكلام الذي لا ينفع. في الوصف حصر وفي الكلام دوما نقص وعجز. أنا أدعوكم الى الرحلة. أدعوكم الى السفر هناك، الى العيش هناك ولسوف ترون ما في توزر من جمال، من بهاء، من سكينة....
* * *
ماذا شدّ انتباهي وما الذي غيّر اعتقادي وحوّل نظري؟
أوّلا. أعجبني ما لقيت من بشاشة ومن حسن ضيافة لدى الناس جميعا. الكلّ، في توزر، يبتسم. يقول لك من الكلام أطيبه. هذا عجوز ثقلت خطواته. هذا شابّ شدّه، في ما يبدو، عوز. هذا تحت حائط جالس، يحكي مع صحبه، قصص الزمن. الآخر في شغل، يجمع تمرا من رأس نخلة. غير مبال، رغم ما في شغله من ضنى ومن خطر... مهما اختلف الحال، في كلّ مرّة، كنت ألقى الناس في زهو، كلّهم وداعة. أنظر فيهم. في وجوهم أٍرى عسرا وفي أفواههم أرى دوما ابتسامة. في كلامهم حمدا لله كثيرا ورضا بالحال وتفاؤلا لا ينضب. قتلني لدى الناس هذا الرضا الدائم. شدّني هذا الأمل المتّصل. لا خوف في القلوب. لا حزن في توزر ولا نكد...
توقّفت أمام المدارس. ها هم الصبية من ذكر وأنثى في ازدحام وفي مرح. أنظر فيهم. أنشرح. في وجوههم الصغيرة جمال واشراقة. في أفواههم ضحك دائم. لا يمكن لهذا النشء أن يخيب في المسعى. أنا متأكّد أن يكون لهؤلاء غد واعد ومستقبل أفضل.
ثانيّا. انبهرت بما كان في الواحات من نشاط ومن سعي. نحن في موسم جني التمور وفي موسم جني التمور، ترى الناس جميعهم في نشاط، في حركيّة. تذكّرت ما كان عندنا في الساحل من غبطة ومن كدّ حثيث في موسم جني الزيتون. في توزر وفي غيرها من القرى المجاورة، أرى الناس تجري، تجمع التمور، تسوّيها، تزيّنها، تعدّها للبيع، للتصدير. توزر هي عين الواحات. هي قلب التمور. في توزر، هناك تمور طويلة القدّ، شهيّة، في وجهها نور على نور وفي طعمها لذّة لا توصف. تمور توزر فريدة، مميّزة. لم أر مثلها في سوق...
أنظر في النخيل شاهقة، تعانق السماء وترى الناس من حولها في عشق، يقطعون ما تدلّى من أغصان، من أكاليل. أتذكّر الشابي، شاعرنا الكبير. أتذكّر ما كان في قلبه من وله وفي فمه من قول بليغ. لا فرق عندي بين الشابي وهذا النخيل. كلاهما شامخ، يغنّي للحياة، يسبّح للوجود.
ثالثا. خلافا لما كنت أعتقد، في توزر ومن حاذاها، هناك بنية تحتيّة جيّدة. خلافا لما راج بيني وبين الناس من نظر، كل شيء أو يكاد هنا متوفّر. هذه طرقات جيّدة، مفروشة تربط الأرض ربطا محكما. هذه مدارس في كلّ قرية نائيّة. زرت مدرسة «البليدات» فوجدتها جميلة البنيان وفيها كلّ المرافق. هذه ديار بناها الحاكم. هذه قنوات تروي الأرض في كلّ واحة. هذا كهرباء يعتلي الجبال ويمشى في كلّ منخفض... خلافا لما كنت أعتقد، توزر ليست منطقة ظل ولا هي فقيرة أوهي مهمّشة. في توزر، هناك تمور تدور وتجارة وتصدير. هناك نشاط يتدفّق. هناك حركيّة ماليّة... في توزر، أنجزت الدولة منذ الاستقلال عديد المرافق وهذه مصالح الادارة في كلّ بقعة وهذه المدارس والمستوصفات والجامعة. ما كنت أحسب أنّ الدولة التونسيّة، قديما وحديثا، اجتهدت ووفّرت ودفعت بالنموّ وبالحياة في الجنوب...
صحيح، رأيت في توزر، عديد النزل مهملة، مغلقة وقد أكلها الخراب. رأيت عديد الديار الفاخرة وقد هجرها أهلها، منذ زمن... بعد ما حصل في البلاد من إرهاب ونظرا لقربها من الحدود، تضرّرت توزر من الارهاب الحاصل وهجرها السيّاح وأصيب قطاع السياحة بأزمة هالكة... في ما يبدو، في ما أرى، تعود الحياة الى سيرها وها هم السيّاح يعودون الى هذا البلد الآمن، الجميل.