كنت أمشي طليقا الى العالم كلّه. طالبا، كلّ صيف، أرحل الى بلاد الغرب. أقضي أشهرا. أعمل. أتجوّل. يومها، لا تأشيرة ولا أوراق تدفع. يومها، زرت الغرب شمالا وجنوبا، مرّات عدّة. العديد من صحبي درسوا في الغرب. بعضهم الى اليوم، هناك، يحيا ويشتغل. في قريتي منزل كامل، في السنوات السبعين، كلّ الشباب هاجروا الى فرنسا ومنها كسبوا وفيها عمّروا...
انتهى ذاك الزمن. اليوم في بلاد الغرب، تغلّق الأبواب غلقا وتوصد الحدود وتسدّ المنافذ. ضاقت بنا البلد. نحن اليوم، في تونس، كفئران في مصيدة. أصبح السفر الى بلاد الغرب عسرا عسيرا. أصبح الرحيل مستحيلا. في الغرب اليوم شعبويّة وقوميّة. تدعو الى الذود عن الذات والأصالة، الى طرد الآجنبيّ المختلف...
في ما مضى، كان العالم مفتوحا، متفتّحا. يسعى الى الجمع، الى التعاضد، الى قبول الآخر المختلف. في كندا حيث عشت سنين، ما كنت أراني أجنبيّا. أنا في بلدي. كلّ العالم وطني. أمشي في الأرض مرحا. كلّ الناس إخوتي. أنا العالم. أنا انسان من العالم («انسالم») وكلّ البشر أحبّتي... تغيّر العالم وانتهى ذاك الزمن.
لمّا كنت في كندا وكلّ عائلتي لسنوات عدّة، لم يخطر على بالي الاستقرار فيها ولم أسع أبدا للحصول على جنسيّة. لماذا أفعل وأنا تونسيّ وهذا العالم كلّه في يدي؟ لست وحيدا. كلّ صحبي يومها لم يطلبوا الجنسيّة وما كان نيل الجنسيّة عسيرا أو فيه شقاء أو كلفة... هل ندمت اليوم على ما لم أفعل؟ لا، أبدا. لكلّ زمن خصائصه وبالأمس، كان العالم يفعم أخوّة. سمته التفتّح.
اليوم، في ظلّ اقتصاد عالمي حرّ وتبادل تجاريّ كلّي، نرى الحدود بين الأقطار تنغلق وهذه قوميّة مقيتة تشتدّ وتنتشر. غريب ما يحدث. في العالم، هناك تحرّر اقتصادي غير مسبوق وفي الآن ذاته، هناك غلق للحدود غير مسبوق. ما نعيشه اليوم مفزع. منذر. إن تواصل الغلق وهذه شعبويّة تعلو وتزمّجر، سوف ينغلق الأفق وينطفئ معه الأمل. سوف تشتدّ الشدائد وتأكل الناس بغضاء وحروب.
أصبح همّ الناس من حولي السعي لضمان مستقبل الذرّيّة. في نظر الكثير، لا مستقبل لمن عاش في البلد. الكلّ يستعدّ للرحيل. يتدبّر لكسب جنسيّة غربيّة. الكثير من الشباب يلقون بأنفسهم في البحر، في التهلكة. لن يوقف الابحار، قوّة ولا حراسة. كلّ السبل، كلّ الحيل ممكنة. بعض العائلات من حولي تدفع بالغالي والنفيس لنيل الجنسيّة. تستقرّ العائلة أشهرا خلسة في بلاد الغرب حتّى تولد الحامل وينال الرضيع الجنسيّة. يمشي البعض الى كندا، الى الولايات المتّحدة... للولادة هناك، للحصول على الجنسيّة...
آخر عمليّة تلك التي أتاها نائب بلدي في مدينة رادس... في الأشهر الماضيّة، جمعت دولة ألمانيا من العالم مستشارين بلديين لتعلّمهم حسن التصرّف وكيفية الدفع بالناس للإسهام في احياء المدينة والرفع من جودة العيش المشترك. وقع اختيار النائب ضمن قائمة. كلّ النفقات من نقل واقامة على الدولة المستضيفة. نال كلّ واحد بعض المال لإنفاقه الشخصيّ... ماذا فعل النائب البلدي بعد أن أدّى اليمين؟ الكلّ يعلم ما حصل وكيف هرب النائب المحترم وها هو اليوم يحيا متخفيّا، يترصّد كيف البقاء في بلاد الغرب. يتدبّر كيف الغدر مجدّدا، كيف المخاتلة...
في سنة 2015، دعتني سفارة المملكة السعوديّة الى أداء الحجّ بوصفي صحفيّا في جريدة المغرب. ذهبت وزوجتي وبعض التونسيين. في جدّة، كنت ضمن وفد من الصحفيين جاؤوا من كلّ العالم. كان الاستقبال حارّا وأقمت وزوجتي وبقيّة المدعوين في أكبر النزل. ثم كان أن أقام وليّ العهد يومئذ وهو اليوم الملك سلمان مأدبة غداء وكنت ممّن وقع اختيارهم ضمن وفد مضيّق. قبل الذهاب الى قصر وليّ العهد في جدّة وكان قصرا لم أر مثله، فيه رخام ومرمر وحراسة مشدّدة، اقترب منّي صحفيّ تونسيّ وقال لي همسا: «أنت محظوظ يا صاحبي. أنت ستلتقي بوليّ العهد. أنا أنصحك نصيحة الأخ لأخيه ان أمكن لك مقابلته وجها لوجه، أطلب منه الاقامة. ان نلت الاقامة فقد أنقذت نفسك ومن معك من كلّ ضيق وعوز». التقيت وجها لوجه مع ولي العهد وتغدّيت قبالته وأكلت ما لذّ من الخيرات وما لم أر في الدنيا مثله. بينما كنت أنعم، ألهف من اللذّات ما طاب، كان الخادمي وزير الشؤون الدينية في جبّة زرقاء منقوشة، يخطب في المنصّة. يقول كلاما منمّقا فيه سجع ومدح لا ينتهي...