قهوة الأحد: هل من حدود لجشع المضاربين ؟

لم أتوقف عند طرح هذا السؤال ولم ينته الخبراء والمسؤولون السياسيون في بلادنا وحتى في اعتى الديمقراطيات

من طرح هذا السؤال والنظر إليه من مختلف الجوانب : أين سيقف جشع بعض المضاربين وبعض الرأسماليين ؟ وهل يمكن للديمقراطيات وللمسؤولين السياسيين والاقتصاديين إيقاف هذا النزيف الذي ينخر المالية العمومية في الدول وأسس الديمقراطيات ؟

لم نكف عن طرح هذه الأسئلة على أنفسنا عند الإعلان عن فضائح التهرب الجبائي المتتالية – وتعيدنا هذه الفضائح إلى الاعتراف بعجزنا عن وضع حد لهذه التصرفات والمحاولات المتواصلة لعديد المضاربين وبعض رؤوس الأموال للإخلال بالتزاماتهم المالية والجبائية تجاه دولهم . وقد ساهمت هذه الممارسات لا فقط في خسارة كبيرة للمالية العمومية بل كذلك في إضعاف الأسس السياسية للديمقراطيات . والمخجل والمفزع أن هذه العمليات وفضائح التهرب الجبائي تتم بتعاون كبير بين عديد الفاعلين الهامين كالبنوك والشركات الكبرى للمحاماة والمحاسبة في العالم إلى جانب المضاربين والمتدخلين في الأسواق المالية والذين يعملون جنبا إلى جنب من اجل تسهيل عمليات التهرب الجبائي .
سنخصص هذا المقال اليوم لفضيحة أخرى من فضائح التهرب الجبائي والتي تأتي اثر فضيحة أوراق بنما أو «Panama Papiers» .

وقد خرجت هذه الفضيحة الجديدة للعموم اثر عمل استقصائي على مدى واسع قامت به صحيفة لومند الفرنسية و18 مؤسسة إعلامية من أهم المؤسسات في أوروبا . وقد دام هذا العمل الاستقصائي عديد الأشهر وشمل عديد البلدان الأوروبية لتقوم هذه الصحف بنشر أهم نتائجه في الأيام الأخيرة .

وقد قامت هذه الصحف بتسمية هذه الفضيحة الجديدة بعنوان «Cumex files» أو «أوراق العائدات المالية» وقد كشف هذا البحث الاستقصائي عن نظام وضعته كبريات البنوك الأوروبية ومكاتب المحاماة والمحاسبة العالمية يعمل على تمكين المساهمين في رؤوس أموال الشركات الكبرى والمؤسسات المالية من التهرب من دفع الضرائب على مرابيحهم من العائدات المالية لهذه الشركات وكان هذا الموضوع محل نقاش وجدل لسنوات طويلة من قبل خبراء الضرائب حول أحقية تحميل ضرائب جديدة للعائدات المالية لمرابيح المساهمين . فعند العديد من الأخصائيين لا يمكن إخضاع هذه العائدات لضرائب إضافية باعتبار أن الشركات قد دفعت ضرائب على أرباحها ولا يمكن بالتالي دفع الجباية مرتين : مرة أولى على أرباح الشركات ومرة ثانية على عائدات المساهمين - إلا أن هذا الرأي هو محل خلاف كبير ويرفضه عدد كبير من الاخصائيين في الجباية والذين يدافعون عن مبدا توظيف أداء على العائدات المالية باعتبارها تشكل دخلا مهما للمساهمين في رؤوس أموال الشركات .

ولم يجد هذا الإشكال إجابة نهائية من قبل الخبراء مما يجعل البلدان تتبع تشريعات وقوانين مختلفة . وسيغتنم الخبراء هذه الاختلافات لوضع آليات تمكن المستثمرين من الاستفادة من خلال تحويل عائداتهم المالية للبلدان ذات الاداءات المنخفضة . وهذه الآلية ستكون أساس هذه الفضيحة الجديدة وستمكن المئات من المستثمرين في عديد البلدان الأوروبية من التهرب من دفع ضرائبهم وبالتالي من تكديس مرابيح كبيرة ساهمت في تطوير ثرواتهم الطائلة .

وقد تم اكتشاف هذه الفضيحة سنة 2015 في ألمانيا لتكون نقطة انطلاق في عمل استقصائي كبير شمل عددا كبيرا من البلدان الأوروبية من قبل الإدارات الجبائية . وقد نتجت عن هذه البحوث بداية إيقافات في ألمانيا لتتواصل في بعض البلدان الأخرى. واثر بعض التسريبات من الدوائر الجزائية والقضائية قامت صحيفة لوموند مع 18 مؤسسة إعلامية في أهم البلدان الأوروبية بعمل استقصائي كبير كشف الحجم الكبير لهذه الفضيحة المالية الجديدة .

وقد شكلت الحقائق التي أفصحت عنها الجرائد والبحث الاستقصائي صدمة كبيرة في هذه البلدان وخلفت غضبا كبيرا لدى الرأي العام لأسباب عديدة . السبب الأول هو حجم هذا التهرب والذي تم تقديره بـ55 مليار اورو وفي ألمانيا قدره مسؤولو الجباية بـ10 مليار اورو وفي فرنسا وإن كانت التقديرات اقل من ألمانيا فإنها وصلت رقما هاما قدر بـ3 مليار اورو . وقد دفعت هذه الأرقام القياسية عديد الخبراء لاعتبار هذه العملية بـ «سرقة القرن».

والغضب والصدمة لا يقتصران على حجم الأموال التي تم إخفاؤها عن الجباية بل يهم كذلك الفاعلين الذين ساهموا ولعبوا دورا أساسيا في هذه الفضيحة الجبائية .فقد أشارت التحقيقات الجبائية والعدلية إلى انخراط عديد الفاعلين الاقتصاديين كمكاتب محاماة كبرى وأهم شركات محاسبة ومتدخلين على الأسواق المالية، كما أشارت هذه التحقيقات إلى مسؤولية 50 من اكبر البنوك الأوروبية ومن ضمنها 3 من أهم البنوك الفرنسية وهـي BNP Paribas وsociété générale وcrédit agricole. وتورط كل هؤلاء اللاعبين والفاعلين دفع العديد من الخبراء للحديث عن «جريمة منظمة».

وقد شكلت الخارطة الجغرافية للبلدان مصدر قلق وغضب عند الرأي العام والمسؤولين السياسيين والاقتصاديين .فلئن حصلت اغلب الفضائح المالية السابقة في بلدان تعتبر «جنات ضريبية» مثل بنما وعديد البلدان الاخرى فإن هذه الفضيحة الجديدة شملت بلدانا من أعتى الديمقراطيات في العالم مثل ألمانيا وفرنسا وهولاندا واسبانيا والدانمارك وبلجيكيا والنمسا وسويسرا والنرويج. وتعتبر هذه البلدان مناهضة للتهرب الجبائي وقامت بخطوات كبيرة للحدّ منه ومنعه خاصة بعد الأزمة المالية العالمية لسنوات 2008/ 2009. إلا أن هذه الفضيحة الجديدة تشير إلى انه وبالرغم من التحسن الذي عرفته هذه البلدان في هذا المجال فإن قضية التهرب الجبائي ومحاربته تبقى مسألة طويلة المدى وتتطلب عملا طويلا ومتواصلا من اجل منعه وإيقافه.

إن هذه الفضيحة ومسألة التهرب الجبائي في البلدان إلى جانب انعكاساتها المالية والاقتصادية باعتبارها تتسبب في خسارة للمالية العمومية فإن لها انعكاسات سياسية كبيرة جدا لمساهمتها الكبيرة في خلخلة أسس ومشروعية الأنظمة الديمقراطية . فقد بنت هذه الأنظمة مشروعيتها على مبادئ العدالة والمساواة في عديد المجالات والميادين في الحياة العامة . ومن ضمن هذه المجالات نجد ميدان الجباية أين وضعت اغلب الأنظمة الديمقراطية منظومات جبائية هدفها تجميع المداخيل الضرورية للدولة لتغطية مصاريفها المتجهة نحو كل المجالات من صحة وتعليم وامن واقتصاد . وقد اعتمدت اغلب الأنظمة الجبائية على مبادئ العدالة والمساواة في تعاملها مع المواطنين .فلا يمكن لأي كان ومهما كان موقعه التهرب من واجبه الجبائي والذي أصبح ركيزة أساسية لمبدا المواطنة والمشاركة الديمقراطية .

ولذلك تسلط اغلب البلدان الديمقراطية عقوبات كبيرة على جرائم التهرب الجبائي لا تقتصر على الجانب المالي والمادي بل تذهب في عديد الحالات إلى المنع من المشاركة في الحياة السياسية والعامة . كما تعمل هذه المنظومات الجبائية على تطبيق مبدإ العدالة في التعاطي مع المواطنين فتكون الضرائب مرتبطة بمستوى مداخيل المواطنين وتأخذ شكلا تصاعديا لترتفع كلما ارتفعت هذه المداخيل وتنامت وقد شكلت هذه المبادئ أساس العمران كما أشار لذلك ابن خلدون في المجتمعات القديمة وإحدى الركائز الأساسية للديمقراطية في المجتمعات الحديثة.

إلا أن التهرب الجبائي والفضائح التي تنشرها التحقيقات الاستقصائية لكبرى الصحف تساهم في ضرب هذه المبادئ وزعزعتها فبفضل علاقاتهم وأموالهم يقوم الأثرياء بالتهرب من واجباتهم الجبائية وتكديس ثروات اكبر بدعم من البنوك الكبرى ومكاتب المحاماة والمحاسبة . وتضرب هذه العمليات في العمق احد المبادئ الأساسية للمجتمعات الديمقراطية ألا وهو العدالة والمساواة أمام الجباية.ففي حين تعاني الطبقات الشعبية والمتوسطة من التهميش الاجتماعي والبطالة وتردي مستويات عيشها فان الطبقات الثرية والعليا تنعم برغد العيش وتعمل على التهرب من واجباتها الجبائية والمالية أمام دولها ومجتمعاتها .وقد ساهمت هذه الفضائح والآفات في ضرب مصداقية الأنظمة الديمقراطية وزعزعتها ونمو وتطور الحركات الشعبوية في اغلب بلدان العالم .

ويبقى السؤال مطروحا في كل أزمة وفضيحة مالية جديدة : كيف نضع حدا لجشع المضاربين ؟ أم أن هذا التهرب الجبائي لا مناص منه ولا يمكن القضاء عليه؟ في رأيي أن محاربة التهرب الجبائي تبقى مسألة أساسية لا فقط لإيجاد مداخيل إضافية للدولة بل كذلك للدفاع عن الديمقراطية .
لقد قامت اغلب البلدان ومن ضمنها بلادنا بخطوات هامة في هذا المجال لكن هذه الحرب تتطلب عزيمة كبيرة ونفسا طويلا كي نتمكن في المستقبل من وضع حد لجشع وطمع المضاربين وإقناعهم أن الواجب الجبائي هو احدى ركائز الديمقراطية وقاعدة هامة لمبادئ العيش المشترك التي نسعى لبنائها لنحمي مجتمعاتنا من المجهول ومن غول الشعبوية القاتلة .

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115