ما الذي يكمن في هذه الوظائف؟ أحيانا، أدرك. أتبيّن لمّا أرى أهل الوظائف العليا وما هم فيه من نعيم ومن بحبوحة. أحيانا، يغيظني حالي. أحسد أهل الوظائف...
كذلك أنا. أعيش بين موقف ونقيضه. بين صدّ وحسد. مرّة، تراني أحتقر هؤلاء اللاهثين وراء المناصب وأرى نفسي محظوظا، في غنى، قائلا: «انّ وضعيّ أفضل. أنعم براحة البال ولي ما لهم من أكل وشرب وملبس». أو يكاد. مرّات أخرى، تراني في حسد. تشدّني بعض نقمة. أتمنّى أن أكون مثلهم، صاحب وزارة أو صاحب منصب. أحبّ أن أمشي في الشوارع والأعين إليّ مشرئبة. أن أحيا في خير ونعمة، محلّ حفاوة وتبجيل وتملّق...
في وجوه أهل السلط ترى نورا مجهول المصدر. فيهم قوّة خفيّة. في الأرض، هم أهل الحلّ والعقد. هم أولي الأمر وطاعتهم واجبة، مؤكّدة. لأنّهم شخصيّات البلد، تفتح لهم شاسعة الأبواب والنوافذ. عيشهم هنيء وأمرهم مقضيّ. في يسر. يرفرفون في السماء العليا. لا يعرفون شقاوة ولا عصب. كلّ الادارات والبنوك والأسواق... لهم ميسورة، متيسّرة.
من أجل هذه الفتوحات، ترى الناس تتدافع، تتكالب، تلهث وراء المناصب...
أن تكون غبيّا، جاهلا. أن تكون لصّا، مرتزقا. أن يسكنك نفاق وانتهازيّة... لا يهم. المهمّ هو أن تعلم كيف الولوج الى أوليّ الأمر، كيف التقرّب منهم. كيف كسب ودّهم، كيف الترقّب. أهل السلط يختارون الوزراء والسفراء والمديرين والمستشارين وغيرهم ممّن كان في الباب، واقفا، ينتظر. من كان لهم طيّعا، مطيعا. المهمّ، ليست الكفاءة أو الشهادة أو التجربة. المهمّ أن تكون في المفترق، في الوقت المناسب وأن يذكرك الناس بما أتيت من سمع وطاعة، من سكوت، من تودّد...
أنظر من حولك في من كان وزيرا، كاتب دولة، مستشارا. أنظر في هذا الآخر الذي قضّى حياة، رغم رداءته، من وظيف الى آخر. أنظر في من عيّن على رأس المؤسّسات العموميّة، في الديوانة، في القضاء، في الأمن، في السفارة... واسأل ما السبب وهل لهؤلاء حقّا خبرة أو كفاءة. لهؤلاء، يا صاحبي، فقط سمع وطاعة. هي الفوضى يا أخي. هي المحسوبيّة تقتل البلد وتغدر بمستقبله. كلّ المناصب عندنا يعطيها الأهل لأهلهم. هي هبات دم ومحاباة وقبليّة...
* * *
في حزب النهضة، يسمّي راشد الغنّوشي من كان الى قلبه أقرب أو هو لمنحاه مساند. لم يعتبر رئيس حزب النهضة بما حصل لبن عليّ وكيف أنّ نصرته لأصحابه وأصهاره هي أصل هلاكه... أنا أسأل: لماذا دفع الغنّوشي بصهره في الخارجيّة ولا علم لصهره بالخارجيّة؟ كيف هو يعيّن حمّادي الجبالي رئيسا للحكومة والرجل غير كفء، غير قادر؟ بعض وزراء النهضة اليوم في الحكومة هم مصيبة وطنيّة وما يفعله هؤلاء هو سوء وعبث.
نفس التمشّي نلقاه في حزب نداء تونس وأكثر. أنا أتعجّب ممّا يأتيه الباجي من جنون وكيف هو يدفع بابنه حافظ لرئاسة الحزب وهو يعلم أن ابنه عاقر، عاجز. ها هو الحزب انتهى. خرّبه ابنه... ثمّ انظر في بعض وزراء النداء وكيف هم في عبث، في سوقيّة. يفسدون، يهزّون وينفضون. هذا يرتشي والآخر يتزلّف والكلّ يحسب، يجتهد للبقاء في المنصب.
نفس المنهج تلقاه في اتّحاد الشغل منذ اصبح اتّحاد الشغل «أكبر قوّة في البلاد». انظر، ان شئت، في سادته واسمع ما يقولون وكيف يحلّلون وما لهم من غايات ومقاصد. اصغ جيّدا. تتبيّن. سوف تلقى لدى السادة جعجعة لا تنتهي و«عضرطة» وكثيرا من التسلّط... أحيانا، أسال النفس هل يملك هؤلاء جميع مداركهم؟ هل هو على علم بما يقول...؟ تدير وجهك للأخر فتدور بك الدنيا ويشدّك العجب.
أزحنا بن عليّ بسبب ما أتاه من محسوبيّة وبسبب ما اكتسب من غنيمة. أسقطنا نظامه لأنّ نظامه، كانت أسسه، العلاقات الدمويّة، من أصهار وأصحاب وذوي القربى... لم نتبيّن. لم نعتبر. ها نحن نعود الى أوّل المربّع..