الاهتمام بالثقافة وبالسياسة الثقافية ومسألة الميز العنصري وذلك على هامش زيارتي للولايات المتحدة الأمريكية وقضائي لبعض الأيام في مدينة نيويورك لأسباب عائلية.
بقيت مسألة هامة أخرى لم أتعرض لها بالرغم من أنها تثير الكثير من الجدل لا فقط على المستوى العالمي بل كذلك في الولايات المتحدة وهذه المسألة تخص «حالة ترامب» «le cas trump» الرئيس الأمريكي والذي يثير الكثير من النقاش والاختلاف ونقدا كبيرا لا فقط لتغريداته النارية على الشبكة الاجتماعية بل كذلك لمواقفه وقراراته المفاجئة والتي تبدو في بعض الأحيان غير مدروسة وغير جدية.
وشخصية الرئيس ترامب هي محل نقاش مستمر في الولايات المتحدة وعلى اكبر القنوات التلفزية واغلب وسائل الإعلام بين معارض ومساند . وقد ازداد هذا النقاش حدة اثر الإعلان عن حدثين هامين :
الأول يخص اعلان إحدى أهم دور النشر الأمريكية عن قرب نشر كتاب مهم للصحافي المخضرم Bob Woodward حول الأجواء في البيت الأبيض الأمريكي تحت إمرة الرئيس دونالد ترامب . وهذا الكتاب هو عبارة عن هجوم من الصحافي المشهور على الرئيس الأمريكي وعلى الفوضى التي يعيشها البيت الأبيض منذ انتخابه وخاصة تأكيده على عدم كفاءته وأخلاقه من خلال استعماله الكثير للغة السب والشتم مع أقرب معاونيه .
هذا الكتاب ليس الأول من نوعه فقد صدرت عديد الكتب والتي وجهت نقدا عنيفا لدونالد ترامب منذ انتخابه . ولعل أهم هذه الكتب هو الذي أصدره Michael Wolff في بداية هذه السنة تحت عنوان «Fire and Fury» أو «الحريق والغضب الشديد» وقد واجه دونالد ترامب كل هذه الكتب بكثير من الاستخفاف والاستهزاء واعتبرها نتيجة لمناورة يتعرض لها من تحالف بين أعدائه الديمقراطيين وحتى الكثير من الجمهوريين وتحالف الصحافيين ورجال الإعلام الداعمين للنخب التقليدية والرافضين له .
والحق يقال فقد نجح ترامب وفريقه الإعلامي في التقليص من أهمية هذه الكتب والتي في النهاية لم يكن لها تأثير على شعبيته .
إلا أن هذا الكتاب يختلف عن سابقيه لسببين على الأقل .السبب الأول يهم شخصية الكاتب والاحترام الكبير الذي يتمتع به عند الرأي العام في الولايات المتحدة الأمريكية – فبوب وودوارد Bob Woodward هو الذي اكتشف قضية واتر غايت لما كان صحافيا في جريدة واشنطن بوست والتي عصفت بالرئيس نكسون ودفعته للاستقالة في منتصف سبعينات القرن الماضي . وقد أصبح صحفيا مؤثرا وكاتبا لامعا حيث اصدر 18 كتابا سجل 12 منهم اكبر المبيعات وتحصل على جائزتي بوليتزر وهي من أهم الجوائز المخصصة للكتب في الولايات المتحدة الأمريكية . وأصبح الكاتب على مر السنين احد أهم الكتاب وصناع الراي في الولايات المتحدة وأكثرهم تأثيرا .
السبب الثاني والذي يفسر أهمية هذا الكتاب هو انه نتيجة حوارات لأقرب مساعدي الرئيس ترامب بدون تسميتهم . فقد اتصل الكاتب بكل الفاعلين في البيت الأبيض ابتداءا بالرئيس ترامب نفسه الذي رفض اللقاء لقناعته أن هذا الكتاب لن يكون لصالحه .
كما التقى بأقرب مساعديه ومنهم جايمس ماتيس وزير الدفاع وروب بورتار Rob Porter سكرتيره الخاص السابق وقاري كوهن Gary cohen مستشار الاقتصادي ومدير ديوانه John Kelly .وقد سارع كل هؤلاء إلى التأكيد في بيانات صحفية أنهم ليسوا أصحاب التحاليل التي أتت في الكتاب بالرغم من انه لم تقع تسميتهم .
وقد أكد الكتاب على عديد المظاهر التي تثبت عدم كفاءة الرئيس وعدم قدرته على قيادة الولايات المتحدة الأمريكية فأشار مثلا إلى الفوضى العارمة التي عمت البيت الابيض منذ وصول الرئيس ترامب نظرا لجهله بالقواعد التي تقود عمله . فيقول عنه احد المقربين منه في الكتاب بدون ذكر اسمه « انه أحمق وغبي .. نحن عند المجانين . لا ادري ما اعمل هنا
– انه أتعس شغل قمت به في حياتي» ويشير مساعد آخر أن «مستواه العقلي لا يتجاوز مستوى تلامذة المدرسة الابتدائية».
ويعطي الكاتب كذلك عديد الأمثلة عن عدم كفاءة الرئيس وتسرعه في اخذ القرارات جاءت على لسان اقرب مساعديه . فيشير احدهم أن الرئيس ترامب كان على أهبة إمضاء قرار يوقف اتفاقية التجارة الحرة بين الولايات المتحدة الأمريكية وكوريا الجنوبية لو لا أن مستشاره الاقتصادي سرق نص القرار في آخر لحظة . كما كان نفس الشيء بالنسبة لاتفاق التجارة الحرة مع كندا والمكسيك حيث كان يستعد لإمضاء قرار انسحاب من الاتفاق لو لا أن أحد معاونيه سحب منه النص في آخر لحظة . وتشير حادثة أخرى إلى محادثة بين الرئيس ترامب ووزير الدفاع الجنرال السابق جيمس ماتيس قبل غارة جوية على قواعد الجيش السوري بعد اتهامه باستعمال الأسلحة الكيمياوية . وتقول الحكاية أن الرئيس طلب وزير الدفاع في الهاتف الذي كان موجودا بين مساعديه « لنقتله (الرئيس بشار الأسد ) نعم نهاجمهم نقتله ثم نعود للمنزل» عند انتهاء المكالمة وبعد لحظات طويلة من الصمت والوجوم نظر وزير الدفاع إلى قادة الجيش وخاطبهم قائلا : «لن نفعل أي شيء مما قاله الرئيس . سنواصل عملنا بكل مسؤولية».
يحتوي الكتاب على الكثير من الحكايات التي تؤكد عدم كفاءة الرئيس ترامب وتسرعه في اخذ القرارات الهامة والمصيرية للولايات المتحدة .
كما يشير الكتاب كذلك إلى سلطة لسان ترامب واستعماله الكثير من الشتائم في وصف اقرب مساعديه . فكان يقول مثلا حسب احد مساعديه أن Jeff sessuous وزير العدل «متخلف ذهنيا» كما يصف Rudy Giuliari مستشاره السابق ومحاميه «بالطفل الذي يجب تنظيفه كل يوم». وفي نفس الفترة التي صدر فيها الكتاب نشرت صحيفة نيويورك تايمز والقريبة من التيارات الليبرالية والحزب الديمقراطي مقالا دون توقيع لأحد المسؤولين الكبار في البيت الأبيض يؤكد فيه ما جاء في الكتاب وما يعرفه العديد من «النهج البائس» و»المتهور» للرئيس ترامب في إدارة أهم واكبر دولة في العالم . وقد أثار هذا المقال الكثير من الانزعاج والسخط في البيت الأبيض والذي اعتبر مبادرة الصحيفة بإقناع احد اقرب مساعدي الرئيس بكتابة هذا المقال بدون إمضائه عدائية ومخالفة للأعراف والتقاليد.
وأكد المقال على جوانب من شخصية ترامب كعدم «الاستقرار» و«انعدام الانضباط» و«التصرفات غير الأخلاقية» ويشير كاتب المقال أن بقاءه في الإدارة الأمريكية هو «جزء من المقاومة داخل إدارة ترامب».
وقد اتجهت أصابع الاتهام إلى وزير الخارجية مايك بومبيو الذي سارع الى التكذيب وصرح «أنا انطلق من مبدإ انه إذا لم تكن تريد تنفيذ إرادة القائد، فأمامك خيار واحد وهو أن تغادر» – كما اتجهت كذلك اصابع الاتهام إلى مايك بنس والذي سارع مكتبه الى الإعلان «أن نائب الرئيس يوقع المقالات التي يكتبها».
يشير كتاب بوب وودوارد والمقال المجهول الإمضاء بصحيفة نيويورك تايمز إلى افتقار الرئيس ترامب الى الكثير من المؤهلات الفكرية والعملية للقيام بمهامه على أحسن وجه وعلى رأس اقوى الدول في العالم . كما يشيران الى جو عدم الثقة والتوتر والخوف الذي أصبح يسود أركان السلطة في الولايات المتحدة الأمريكية.
لكن السؤال الهام والأساسي الذي يطرح نفسه يهم الانعكاسات السياسية لهذه المقالات والكتب حول شخصية الرئيس بصورة أوضح هل ستكون لهذه الكتابات الحادة والعنيفة انعكاسات سياسية وهل ستقلص من شعبية ترامب لدرجة دفعه إلى الاستقالة قبل نهاية ولايته كما يحلم العديد. هذا السؤال يكتسب أهمية خاصة ونحن على أيام من انتخابات نصف المدة او Rid term لتجديد بعض أعضاء الكونغرس والمجلس وذلك يوم 6 نوفمبر القادم .
عادة ما تكون نتائج انتخابات نصف المدة سلبية للحزب الحاكم _ وتتوقع استطلاعات الرأي التي نشرتها وكالات الاستطلاع أن الحزب الجمهوري سيفقد الأغلبية في مجلس المستشارين لفائدة الحزب الديمقراطي – لكن ترامب والحزب الجمهوري سيحافظون حسب كل التوقعات على الأغلبية في الكونغرس .ويرجع المتابعون للشأن السياسي الأمريكي غياب تراجع ترامب بالرغم من هذه الكتب والمقالات التي تؤكد عدم كفاءته وتسرعه في اخذ القرارات إلى ثلاثة أسباب أساسية – السبب الأول مرتبك بالطفرة والنمو الاقتصادي الكبير الذي يعرفه الاقتصاد الأمريكي والذي أدى إلى تراجع كبير في البطالة ووصوله إلى مرحلة ما يسميه الاقتصاديون le plein emploi أو التشغيل الكامل .السبب الثاني يعود إلى نجاح ترامب في توحيد الحزب الجمهوري حول قيادته . وهذه المهمة لم تكن بالامر السهل لنتذكر الحملة الانتخابية منذ سنتين ورفض عديد القادة الجمهوريين دعم ترامب ودعوة العديد منهم للتصويت لهلاري كلينتون مرشحة الحزب الديمقراطي . إلا انه وبعد سنتين من الحكم نجح ترامب في إسكات وإضعاف اغلب منتقديه ومنافسيه لتصبح آلة الحزب تشتغل بقوة من اجل دعمه . والمسالة الثالثة تخص الشعبية الكبيرة التي يتمتع بها عند جمهور الناخبين المحافظين التي لم تتأثر بالفضائح والكتب والمقالات الصحفية ليصبح ترامب الرئيس الأكثر شعبية في نصف مدته النيابية .ان الحديث عن ترامب يدفعنا للتفكير في مسالة اشمل واهم وتخص صعود القوى الشعبوية وقدرتها على السيطرة على المؤسسات في ظل أزمة ترهل الأنظمة الديمقراطية وبالرغم مما تحمله هذه القوى من مخاطر قد توصلنا كما في السابق إلى أزمات إنسانية كبرى – هذا الوضع يتطلب منا العمل على إعادة إحياء البرنامج الديمقراطي وإعطاء الأمل لخوض تجربة تاريخية جديدة تفتح أفاقا جديدة للإنسانية ولتجربة التعايش بين الشعوب .