احتل تقرير لجنة الحريات والمساواة وكما كان متوقعا منذ خروجه إلى الراي العام الموقع الأبرز في تداولات الفضاء العمومي والإعلامي فقد تراجعت تدريجيا مع تصاعد الجدل الخلافي حول التقرير عدة قضايا إلي الموقع الثانوي رغم أنها شغلت الناس ولا تزال منها تعطّل مسار إرساء الهيئات الدستورية محاولة الالتفاف على مسار العدالة الانتقإلىة و تمرير قانون المصالحة رغم كل معارضيه و نهاية حكومة الوحدة الوطنية والخلاف بين القصرين قرطاج والقصبة والجفاء بين الشيخين وغلاء الاسعار وأزمة الماء والدواء واستمرار الاحتجاجات الاجتماعية المتفرقة والمعزولة والضعيفة السند وآثار نتائج الانتخابات البلدية على توازن المشهد السياسي بعد فوز المستقلين وخروج النهضة الرابح الأول في صفوف الأحزاب السياسية والتفكك الدراماتيكي للمشهد الحزبي الديمقراطي ونحن على عتبة انتخابات عامة بعد أشهر.
خلاصة مخاض هذا التقرير الحدث هي الظهور المتجدد لصراع تيارين اجتماعيين بارزين تيار شكّل حزاما داعما للتقرير وللجنته مثله «مؤتمر تونس للحريات والمساواة » و«عهد تونس للحريات» ثم مسيرة 13 أوت بشارع بورقيبة في حين عبّرت «التّنسيقية الوطنية للدفاع عن القرآن والدستور والتنمية العادلة» ومسيرة 11 أوت أمام مجلس نواب الشعب أبرز إطار هيكل التيار الأصولي والمحافظ الرافض، ومع ارتفاع منسوب الخطاب المحتقن من جهة الرافضين وعودة مقولة الأحكام الإلهية السرمدية ودولة الإسلام بما هو دين ودولة وعملية عين سلطانة الإرهابية عادت أشباح الصّدام الأهلي ومخاوف العنف تخيم بكلكلها على المناخ العام الخانق بطبعه منذ أشهر خلت.
وبالرغم من كل مظاهر التّوتر والقلق أمكن القول أن التّداول الذي انطلق صلب المجتمع المدني والمجتمع عموما يعد طبيعيا وضروريا على غرار ما عرفته المجتمعات الديمقراطية في العصر الحديث من تجاذبات حادة بين تياراتها المحافظة والتحررية حول حقوق النساء وحقوق الأقليات والحقوق المدنية للسود وحقوق المهاجرين ... ومن المهم أن يستمر هذا التداول السلمي في الفضاء العمومي لأنه شرط قيام المجتمع الديمقراطي ودولة المؤسسات والقانون طالما بقي التداول محتكما لإيتيقا الحوار والحجاج العقلاني فنحن لسنا في صراع بين الجهلة أو الرعاع من جهة والمتحضرين والمتعلمين من علىة القوم من جهة أخرى كما يتصوّر بعض العلمانيين ولا بين المسلمين وأعداء الديّن كما يقدمه التكفيريون بل هو صراع طويل المدى حول مشروع الدولة والمجتمع اللذين نريد بين مواطنين يفترض انهم أحرار يشتركون في الانتماء لتونس ويقبلون مستلزمات العيش المشترك.
لهذه الأسباب صار التساؤل الأهم الذي يشغل العائلة الديمقراطية والتحررية والإصلاحية هو كيف يمكن أن ننتصر للحريات والمساواة وكيف نبني القوة الاجتماعية والسياسية اللازمة لذلك في تونس إلىوم ؟ ونحن نتقدم بحذر على مسار التّحول الديمقراطي اي في تونس ما بعد سقوط التسلطية والمصادقة على دستور جانفي 2014 كمرجعية ما بعد ثورية لتنظيم السلطات والتداول على الحكم والتشريع لحقوق التونسيّين والتونسيات.
الانشغال بهذا السؤال يتجاوز التسليم بالمساندة المبدئية للتقرير وللجرأة التشريعية التي تتطلع لها ولما يمثله في نظرنا لا فقط من استمرار للروح الإصلاحية التونسية بمختلف أجيالها بل من جسارة مؤكدة في حدّ ذاتها لأجيج التّطلع الثوري للنخب الحداثية والتحررية التونسية من مكاسب المواجهة الأخيرة بين «الإسلاميين» و«الديمقراطيين» هي تشكّل ملامح جبهة إصلاحية بمكوناتها المدنية الحقوقية وكذلك السياسية تجاوزت «نداء تونس التاريخي قبل التفكك» بعد المواقف الجلية التي أعلنتها الجبهة الشعبية وحزبي المسار وآفاق تونس و التيار الديمقراطي الذي يتقدم نحو احتلال موقعه صلب هذه الجبهة
وما يعدّ مكسبا إضافيا من جهة هذا المعسكر المساند للتقرير هي درجة التعاطف والتأييد التي عبّر عنها مثقفون وكتاب عرب وهيئات حقوقية عربية ودولية في مقابل الحرج الذي مثّله لحركة النهضة التي لا ترغب في العودة إلي الوراء، على الاقل الآن، نحو الفضاء الإسلامي السّلفي (الداعشي و الوهابي أو القطبي ..) المتشدد لخوض معركة الشارع ضد التقرير وخسران ثقة من يراهن على مدنيّتها وانفتاحها وقابليتها للفصل بين الديني والسياسي سواء في الداخل والخارج المكسب الأعمق من هذا الجدل هو طرح قضية الحريات الفردية والمساواة الفعلىة بين المواطنين والمواطنات بوضوح وجرأة في تجاوز لمربع الحريات العامة الذي أضحي محل إجماع فضفاض معلن بين كل العائلات الفكرية والسياسية منذ سنوات سبقت سقوط الاستبداد وتأكد على امتداد سنوات الانتقال الديمقراطي المستمر فالتقرير يضع على محك الواقع آليات المرور من الديمقراطية الإجرائية إلى الديمقراطية كمنظومة قيم وكسلوك وكحقوق يكفلها القانون وتحميها الدولة ويختبر قابلية إعلانات النوايا، لدى الأفراد كما لدى التنظيمات، للتحول إلى التزامات غير ان التركيز على نقاط التصادم بين الرؤية العلمانية
والإسلامية الأصولية والاستمرار فيه يخفي طابعه التأسيسي العام لدولة تحترم مواطنيها وتقرّ لهم بحقوقهم وهو تأسيس يتعالى عما يبديه «الحداثيون» من تجاهل لحقوق الإنسان حين يتعلق الأمر بالسلفيين والجهاديين وحتى أسرهم ويتعالى عن عدم اعتراف الإسلاميين المعلن والضمني بكونية حقوق الإنسان بتعلة الخصوصية وثوابت الهوية ومقاومة التغريب حين تحلّ ساعة الحقيقة فالتقرير يقترح مداخل فلسفية وتأصيلية ودستورية لوضع قواعد قانونية عامة مجردة ومحايدة مرجعها الدستور والمعاهدات والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان و تؤسس لدولة المواطنة التي لا تزال دولة معلقة ولا نخالها مستحيلة في مقابل التركيز على صراع الهوية والدين مجددا تبقى المعضلة التي تجلت بوضوح مرة أخري هي سوء التفاهم الدائم بين مناضلي حقوق الإنسان، الفردية والمدنية، من جهة ونشطاء الحركات الاجتماعية والاحتجاجية والشبابية الجديدة المدافعين عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والرافضين للفساد وأهله من جهة اخرى والحال أنهم يمثلون معا عناصر كتلة تاريخية ممكنة لنجاح التحول الديمقراطي في سياق أهداف الثورة بما هي ثورة ديمقراطية وطنية في جوهرها.
إن هذا التّوتر المستمر بين دعاة الحريات الفردية ومناضلي العدالة الاجتماعية والتوزيعية والتنموية يمكن فهمه بوجه ما على أنه توتّر موضوعي بين فئات برجوازية صغرى ووسطى ومدينيّة معلمنة هاجسها الأول دولة مدنية وتنظر بعين الريبة والخوف للحركات الاحتجاجية كحركات قصوويّة مهددة للدولة وإضعاف لها وفئات اجتماعية مفقرة ومهمشة و محرومة و شبابية لا تخضع كلها لتأثير دعاية الإسلام السياسي ولا تطمئن لعرضه الاجتماعي بل تمتلك من الإرادة ما يجعلها تدافع عن حقوقها الاجتماعية بقوة، هاجسها الاول تجديد العقد الاجتماعي بين المجتمع والدولة الراعية، بل إن بعضها يرى في محور النضال حول الحريات الفردية ملهاة و ترفا برجوازيا لا يعنيها وهي في أحسن الأحوال لا تثق في دعاتها المحليين وداعميهم الدوليين.
ومع الإقرار بأن دوافع التعبئة المواطنية ليست فقط طبقية أو اقتصادية وبأن أسباب هذه الهوة بين قوى التغيير الاجتماعي مركّبة فإننا لا نرى التّعارض اساسيا بين الهاجسين هاجس الحقوق الفردية و هاجس الحقوق الاجتماعية إلي حدّ التنافر والتّباعد وعدم الاعتراف المتبادل بوحدة المعركة بل نري في استمرار هذا التّوتر والتباعد إنهاك للفاعلىن الاجتماعيين في طريق تحررهم الذاتي والجماعي وخدمة لخصومهم وأعداء تحررهم وانعتاقهم.
ليست القوى الإسلامية إلىوم وحدها من يعمل على استمرار تفكك هذه الكتلة التاريخية الممكنة بل كذلك قوي الثورة المضادة بتعبيراتهم السياسية المتنوعة وبما يمثلونه من ارتباط مع لوبيات الفساد وراس مإلىة الاقارب والصداقات والراس مال الرّيعي و الطفيلي كقوى معطلة لإصلاح الاقتصاد ودمقرطة إنتاج الثروة ودمقرطة توزيعها حتى يتوقف الانتقال الديمقراطي عند
حدود مرسومة لا يتخطاها ولا يهدّد مصالح المستفيدين من بقاء الحال على ما هوعلىه من هذا المنظور سيكون من المفيد ان تقرأ الفئات الاجتماعية الحاملة لمشروع التغيير الاجتماعي التقرير من زوايا مختلفة حتى تستطيع بناء التّضامنات اللّازمة فيما بينها فالتقرير لا يؤسس حصريا حصنا منيعا ضد مشروع الدولة الدينية التسلطية وإختزاله في ذلك خطأ فادح وتوظيف سياسوي له لخدمة أهداف وضيعة بل هومن منظور كلّي وثيقة تضع كذلك الضّمانات ضد الدولة الأمنية وضد الإفلات من العقاب ومن أجل تشريعات تكفل كرامة الإنسان وتبحث عن بناء مقاربة انسانية كونية وحضارية متكاملة لمفهوم المواطنة في بلادنا فهو على سبيل المثال لا الحصر حين يؤكد نفس التقرير على إدانة التعذيب وحماية الحريات والحياة الخاصة ويقنن الايقاف التحفظي ... فهو يشكّل من جهة ما مدخلا للحماية القانونية للحركات الاجتماعية والاحتجاجية ذاتها والتي يتعرّض نشطاؤها للتنكيل والملاحقة فدولة القانون والجمهورية الديمقراطية تضمن شروط تطور فعلىة للنضال الاجتماعي والمدني في حين تعيقها الدولة التسلطية فالحملات من مثل «تعلم عوم» ضد العنف البوليسي والمطالبة بمحاسبة المتسببين في وفاة عمر العبيدي (مارس 2018 ) وحملات حماية نشطاء الحركات الاجتماعية «حل المينوت طبق الفصل 37 » ومحاكماتهم الجائرة والمطالبة بكشف الحقيقة عن مقتل أنور السكرافي في تطاوين (ماي 2017) خمسي إلىفرني (جانفي 2018) في طبربة تجد في تقرير الحريات سندا يعزز شرعية نضالها المدني ويؤكد قانونيته ويكسبها تعاطفا داخليا وحتى دوليا.
في ضوء ذلك سيكون من الممكن توسيع دائرة مناصرة التقرير إلى حلقات أوسع لتشمل أوساطا شبابية واجتماعية ضحيّة للتعسف والظلم ربما أكثر من غيرها ولا ترى نفسها معنية بمكتسبات التقرير حين تقدم كانتصار على الإسلاميين لا غير لذلك يصير الوعي بهذه العلاقة المتلازمة بين الدفاع عن الحريات والمساواة وتقدم النضال الاجتماعي هو جوهر البرنامج السياسي للقوى إلىسارية والديمقراطية الاجتماعية عموما وهو ما يتأكد حين لا نلمس في الفترة الأخيرة مؤشرات قوية لانفتاح أغلب فئات البرجوازية الصغرى والوسطى التحرّرية المسكونة بهاجس الحريات الفردية على فضاءات الحراك الاجتماعي بل هي لم تتحمس كما تفعل إلىوم حول معركة قوانين الميراث على أهميته لتحويل فشل الحكومة الدامغ في قطاعات حسّاسة كالصحة والتزود بالدواء إلى محور تعبئة سياسي يوحّد فئات واسعة رغم قابلية الشارع وغليانه فلا أمل لهذه الفئات الاجتماعية في تعزيز حضورها و دورها في الدفاع عن نفسها وعن المجتمع عموما إن هي استمرّت في تجاهل حيوية المطلب الاجتماعي وفي الحذر من المنخرطين بحماس في الدفاع عنه وظلّت تتجاهل مشروعية وصدقية وجماهرية المطلب الاجتماعي بما هو مطلب حيوي.
بناء جسور التّضامنات والتقاطعات و التحالفات بقدر ما يبدو صعبا فهو ضروري للطرفين وهو حيوي للقوى الاجتماعية ويستلزم دخولها معركة الحريات الفردية فكريا وسياسيا وميدانيا بعدتها الخاصة وبمعجميتها و أدواتها فمن الناحية الفكرية سيكون من المهم كشف ما تمثله الخيارات اللّيبرإلىة والاجتماعية وحمّى الاستهلاك والهيمنة الإعلامية والتلاعب بالعقول من تهديد بدورها للفرد لتحوّله إلى كائن مغترب أناني معزول وليصبح تحرير الفردية بهذا المعنى هو تحرير للذاتية المغتربة بالمعني الإنساني تحت سطوة الإسلام السياسي ورعب اقتصاد السوق الأعمى المسكون بجنون المنافسة والربح فالشّغف بالفرد الحرّ هو في صميم الرؤية الفكرية لقوي التغيير الاجتماعي التقدمية التي تحتاج في معركتها التاريخية إلىوم إلى حلفاء وليس فقط إلى رسم خط التباين مع خصومها.
ومن الناحية السياسية لا يمكن للدّولة «التّنين» القوية والمتسلّطة أن تضمن انعتاق الفرد بل تبرّر قمعه واضطهاده تحت شعار الاستقرار وحفظ الأمن ومحاربة الهمجية والفوضى من هنا يكتسب المشروع النضإلى للقوى الاجتماعية المتضامنة دلالاته كمشروع تحرّر إنساني عادل من التسلطية الدينية أو الأمنية وحتى الناعمة فليست الدولة وفق هذه الرؤية بالضرورة أداة قمع وهيمنة طبقية بل هي أداة نهوض للمجتمع وعامل من عوامل تطوّره في مرحلة من مراحل نضجه التاريخي وهي أقدر على الاضطلاع بهذا الدور حين تكون أداة عقلنة وتنظيم وقادرة على تمثيل أوسع فئات المجتمع ديمقراطيا وكسب ثقتهم أخلاقيا وبناء مؤسسات هذه الدولة الجديدة إلىوم هو في صميم المهمة التاريخية لكل قوى الثورة.
أما من الناحية الميدانية فإن في تقاطع القوى الاجتماعية (النقابات, الحركات الشبابية, وحركات الاحتجاج الحركات الفنية ..) مع حركات حقوق الإنسان وحقوق النساء فكا لعزلتها وانتزاعا لمجالات من الفضاء العمومي للتداول حول قضايا المهمشين و المغيبين و خيارات التنمية البديلة والعادلة إرساء لمقدمات تضامن أكثر استدامة وتعزيزا لفرص قيام مشهد سياسي تعدّدي يكسر إرادة الهيمنة التي تريد حصره في قوتين لا غير تتنافسان وتتحالفان وفق لأجندا اقتسام الحكم وبهدف عزل خصومهما.
وأيا كانت في الأخير مآلات هذا التقرير بالنظر للإرادة السياسية الداعمة ولدرجة دعمها له ولغاياتها المعلنة أو المخفية ارتباطا بحلبة التنافس الانتخابي القادمة التي يراد لها ان تكون حربا مرة أخري بين «الهوويين» و «الحداثيين» تخاض في مناخات من الخوف والعدائية المشطّة وحتى بالنظر إلى الصّد الذي أبدته حركة النهضة لمقترح رئيس الجمهورية المتعلق بالميراث فإن سقف المطلب الحقوقي والديمقراطي والمواطني في تونس ارتفع بما يجعلنا نستمر في زرع الأمل لأن على هذه الارض ما يستحق الحياة.