في الاقتصاد والسياسة : بين هيمنة التوازنات الكبرى وحلم إعادة بناء العقد الاجتماعي

تعيش بلادنا مند أشهر على وقع حوار طرشان بين الخطاب الرسمي للحكومة من جهة والإحساس الجمعي

لأغلب الناس والمواطنين بتدهور الأوضاع ودخول البلاد في أزمة شاملة على اغلب المستويات وبصفة خاصة السياسي والاقتصادي والاجتماعي . من ناحية يشير الخطاب الرسمي إلى بداية تحسن الأوضاع الاقتصادية ويذهب حتى إلى التأكيد على أن السنة الحالية هي آخر سنة صعبة وستكون السنة المقبلة أي سنة 2019 نقطة الانطلاق لازدهار اقتصادي حقيقي سيمكننا من الخروج من السنوات العجاف التي عرفناها منذ انطلاق ثورات الربيع العربي – ومن ناحية ثانية تعطينا استطلاعات الرأي التي تقدمها كل معاهد الإحصاء وحتى التعاليق الغاضبة أو الساخرة منها على الشبكات الاجتماعية فكرة على النسب الكبيرة التي وصلها عدم رضا الناس وتخوفهم على تطور الوضع الاجتماعي والسياسية .

يتواصل هذا الحوار مند أشهر ويتواصل معه عدم الفهم وغياب النقاش الجدي لطرح أسس مشتركة لتوافق اجتماعي واسع للخروج من هذه الأوضاع .

وتعتمد القصة المتفائلة أو le récit الرسمية بالأساس على بعض المعطيات الكمية للتوازنات الاقتصادية الكبرى للإشارة إلى هذا التحسن أو على الأقل على بداية التعافي للاقتصاد . فيشير الخطاب الرسمي إلى بداية رجوع النمو في الثلاثيتين الأولى والثانية لهذه السنة واللتين كانتا الأحسن منذ سنة 2015. وهذا التحسن ينبئ باسترجاع النمو لنسقه لا فقط حسب المؤشرات الرسمية بل كذلك حسب توقعات المؤسسات الدولية كصندوق النقد والبنك الدولي – كما تؤكد اغلب التوقعات على مواصلة تعافي النمو خلال السنة المقبلة .

طبعا قدم عديد الخبراء قراءة نقدية لعودة النمو وتعافيه والتي تشكل نقطة أساسية في الخطاب الرسمي . ومن جملة هذه الانتقادات ضعف النمو وهشاشته مقارنة بما تحتاجه بلادنا. وبالرغم من هذه الانتقادات فقد أكدت الحكومة على أهمية استرجاع النمو لنسقه واسترجاع عافيته لإعادة الثقة للفاعلين الاقتصاديين .
أما المؤشر الثاني فيخص التشغيل والتحسن الطفيف الذي عرفه في الأشهر الأخيرة وبصفة خاصة بالنسبة لبطالة أصحاب الشهائد والتي عرفت بعض الانفراج .

المسألة الثالثة التي يؤكد عليها الخطاب الرسمي تخص التجارة الخارجية . فقد أشارت الأرقام الرسمية الأخيرة إلى تحسن نسبة تغطية الواردات بالصادرات بعد التطور الهام الذي عرفته الصادرات . كما تؤكد الرواية الرسمية على أن النمو الذي عرفته الواردات هو ايجابي باعتباره موجها للاستثمار ويخص المواد النصف مصنعة والآلات والمعدات الموجهة للاستثمار مما يهيئ لمزيد من التحسن. هذه القراءة لم تفلت كذلك من النقد- فقد أشار العديد من الخبراء أن تحسن التغطية الميزان التجاري ليست هيكلية ومردها التحسن الذي عرفته صادراتنا من زيت الزيتون ومن المواد الفلاحية الأخرى كالدقلة والتمور .كما يؤكد كذلك النقد على عدم قدرة بلادنا بالرغم من تحسن الأرقام التي تشير إليها الحكومة من تعبئة مواردنا من العملة الصعبة . فقد بقيت مدخراتنا تحت السقف المطلوب والذي يصل إلى 90 يوم توريد بينما مدخراتنا لا تتجاوز 70 يوما .

ولكن بالرغم من النقد فقد اعتبر الخطاب الحكومي أن تحسن الميزان التجاري وتغطية الواردات بالصادرات هو مؤشر آخر على بداية تعافي الاقتصاد .يمكن أن نضيف إلى هذه المؤشرات الثلاث مؤشرا رابعا والذي تشير إليه الحكومة ويخص تحسن المالية العمومية . فقد أشارت عديد المصادر إلى مداخيل الدولة شهدت تحسنا هاما وفي نفس الوقت تم الضغط على المصاريف مما يمكننا من التخفيض من عجز ميزانية الدولة لهذه السنة .

هذا الرقم أثار الكثير من النقد ليعتبر العديد من الخبراء انه لو كانت هذه الأرقام جدية لما احتاجت الحكومة إلى قانون مالية تكميلي كما تم الإعلان عنه منذ أيام للزيادة في حجم الدعم بعد الارتفاع الكبير في اسعار النفط .

مؤشر آخر يشير إليه الخطاب الحكومي للتأكيد على فكرة تحسن الوضع الاقتصادي أو على الأقل السيطرة على المؤشرات والتوازنات الاقتصادية الكبرى في بلادنا ويهم التضخم . طبعا لن يكون من السهل الحديث عن ضبط التضخم بعد الانفلات الذي عرفه منذ بداية السنة – إلا أن الخطاب الحكومي يؤكد على مسألة أخرى وهي انه لو لا الإجراءات وبصفة خاصة الزيادة في نسبة الفائدة المديرية لوصلت نسبة التضخم إلى مستويات اكبر لينفلت هذا المارد من عقاله وليصل إلى رقمين .إذن نحن بصدد رواية رسمية أو narration officielle تؤكد على بداية تعافي الوضع الاقتصادي من خلال التأكيد على بعض مؤشرات التوازنات الكبرى أو الاقتصاد الكلي أو macroéconomie حسب لغة الاقتصاديين .

فعودة النمو وإن كانت ضعيفة وانتعاشة سوق الشغل وتحسن الميزان التجاري وكبح جماح التضخم هي مؤشرات ايجابية تؤكد في الرواية الرسمية نجاح الحكومة في رفع التحدي الاقتصادي . وتصل الرواية الرسمية إلى نتيجتين – الأولى أهمية الاعتراف بهذه النتائج كما أكدت على ذلك المؤسسات الدولية وخاصة وبالرغم من الضعف النسبي لهذه المؤشرات فانه لا مناص من المواصلة والمتابعة – وفي تأكيد انه ليس هناك سياسات أخرى وبديلة يمكن لها أن تعطي نتائج أهم واكلها بطريقة أسرع .

النتيجة الثانية هي سياسية بالأساس وهي التي تؤكد على أهمية الاستقرار السياسي وضرورة أن تواصل الحكومة عملها لتدعيم النتائج الحاصلة وتحسينها للخروج من الأزمة الاقتصادية التي تمر بها بلادنا .

إلا أن هذه الرواية الرسمية يبدو أنها لم تنجح في عملية الإقناع الذي تقوم بها الحكومة من خلال تدخلات أعضائها . وبالرغم من تأكيدات الخطاب الرسمي على بدايات التعافي فإن الخوف والتشاؤم هما السائدان . ويبرز الخوف وغياب الثقة من خلال استطلاعات الرأي التي صدرت مؤخرا والتي أكدت تراجع الثقة مقارنة بالأشهر الأخيرة وتنامي عدم الاطمئنان والخوف من المستقبل . كما نلاحظ تراجع هذه الثقة في عديد المجالات الأخرى كالتعاليق الساخرة أو الغاضبة .

وفي رأيي تنطلق هذه التخوفات والإحباط الذي نعيشه اليوم من قراءة وحكاية narration مختلفة عن التي تدافع عنها الحكومة . فالسردية الجمعية والتخوف والإحباط الذي تحمله يرتكز في رأيي إلى تآكل وتأزم أهم مرتكزات العقد الاجتماعي لدولة الاستقلال وعجز الحكومات عن إيجاد الإجابات الضرورية لتجاوزها .

وسنأخذ بعض الأمثلة لهذه الأزمة والانخرام السريع لمرتكزات العقد الاجتماعي – المسألة الأولى تخص الحق في الصحة والتمتع بالدواء – لقد كان هذا الحق احد أهم المرتكزات التي بنيت عليه دولة الاستقلال مشروعيتها – فبنت المستشفيات في المدن الكبرى والمستوصفات والمراكز الصحية في كل القرى والمناطق النائية – ومكنت هذه السياسة اغلب المواطنين من الوصول إلى هذا الحق والتمتع به مما كان له انعكاس كبير على صحة المواطنين وتطور هام لمعدل الحياة في بلادنا – إلا أن النظام الصحي العمومي شهد صعوبات وتراجعا في خدماته مما يستوجب إعادة بنائه وتطويره . إلا انه بالرغم من الصعوبات والأزمات وشح الموارد المالية فإن بلادنا تعرف أزمة في نقص الدواء وحتى انقطاعه كالتي نعيشها منذ أشهر هذه الأزمة كانت وراء عديد الحملات على الشبكات الاجتماعية مثل حملة «سيّب الدواء» وعديد حملات التضامن بين المواطنين لشراء الأدوية الضرورية من الخارج.

إلا أن هذه الأزمة ساهمت بطريقة كبيرة في زعزعة الوعي الجمعي وثقة الناس في قدرة الحكومة على تجاوز الأزمة – طبعا قدم عديد المسؤولين التفسيرات والتي في بعضها ليست مجانبة للواقع لفهم أزمة الدواء – إلا أن هذه التحاليل وفي بعض الأحيان التبريرات لم تنجح في إقناع الناس وإرجاع ثقة الوعي الجمعي في المستقبل .

المسألة الثانية التي يمكن أن نقف عليها والتي تخص تآكل العقد الاجتماعي للدولة الحديثة تهم مسألة الوصول إلى الماء والذي شكل منذ سنوات الاستقلال الشغل الشاغل للدولة – فقامت بتحديد سياسة مائية نشيطة من خلال بناء السدود هدفها محاربة الجفاف وتمكين المواطن من الماء الصالح للشراب وإدخاله إلى كل البيوت .

إلا أن السنوات الأخيرة شهدت هي الأخرى تدهورا كبيرا لهذا المرفق العام – طبعا أشار المسؤولون منذ أيام إلى أسباب هذا الشح في التزويد بالمياه وقدموا الأعذار والتفسيرات العلمية في اغلب وسائل الإعلام – إلا انه بالنسبة للوعي الجمعي فإن هذه التغييرات واهية والمهم تبقى النتيجة وهي تراجع هذا المرفق العام وعدم قدرة الدولة على الإيفاء بأحد التزامات الدولة الحديثة وهو توفير الماء الصالح للشراب .

المسألة الثالثة التي تقض مضاجع المواطنين والوعي الجمعي تخص مسألة المدرسة والأزمة العميقة التي مر بها نظامنا التعليمي مند سنوات وللمدرسة مكانة رمزية خاصة في العقد الاجتماعي لدولة الاستقلال – فالى جانب مساهمتها في تكوين الدولة التي أدارت الدولة فقد كانت المدرسة الأساس الرئيسي للمصعد الاجتماعي والذي مكن الملايين من الارتقاء الاجتماعي ليتبوؤا مناصب اجتماعية هامة في الدولة والمجتمع .

إلا أن النظام التعليمي في بلادنا بدا يعيش أزمة عميقة منذ سنوات حدت من فاعليته مما دفع العديد إلى اللجوء إلى الدروس الخصوصية لتوفير ظروف النجاح لأبنائهم . ولوضع حد لهذه الأزمة بدأت الحكومات منذ مدة في إعداد مشاريع الإصلاح للخروج من هذه الأزمة ولإعادة عافية نظامنا التعليمي . إلا أن هذه المشاريع لم تتقدم قيد أنملة وبقيت محدودة في الزمن الدراسي في حين أن الأزمة زادت حدة والأرقام المفزعة التي أشار إليها السيد وزير التربية منذ أيام حول نتائج الامتحانات تشير بما لا يدع للشك إلى تآكل واهتراء المنظومة التعليمية في بلادنا وحاجتها إلى إصلاح حقيقي والى ثورة تعليمية جديدة .

وأزمة نظامنا التعليمي وانخرام المصعد الاجتماعي هي من أهم مصادر الخوف من المستقبل وأزمة الثقة وانسداد الأفق التي يعيشها الوعي الجمعي في بلادنا . فالي جانب بطالة أصحاب الشهائد والتي باب الشغل غير مضمون فإن اهتراء النظام التعليمي ضرب في الصميم مشروع دولة الاستقلال ومسا من مشروعيته وقدرته على تعبئة الناس والدفاع عنه .

مسألة أخيرة نريد التوقف عليها في إطار نقاشنا في قضية تآكل واهتراء أسس دولة الاستقلال تهم مسالة التقاعد والأزمة الخانقة التي تعرفها هذه المنظومة منذ سنوات – ولابد من الإشارة إلى أن هذا النظام الذي عممته الدولة الحديثة اثر سنوات الاستقلال لعب دورا كبيرا في إرساء منظومة اجتماعية حديثة ترتكز بالأساس على التضامن بين الأجيال والتعاون بينها .

إلا أن هذا النظام بدا يعيش هو الآخر أزمة عميقة نتيجة تراجع نسبة المساهمين فيه والنمو الكبير الهام لنسبة المنتفعين – وقد التزمت اغلب الحكومات منذ الثورة بالقيام بالإصلاحات الضرورية لإرجاع عافية النظام التقاعدي وإعطاء من خلاله جرعة أمل في المستقبل .

إلا أن هذه الإصلاحات بقيت تراوح مكانها مما ساهم في تعميق أزمة الصناديق الاجتماعية . إلا أن ما زاد الطين بلة هي التصريحات المتكررة لعديد المسؤولين وفي أعلى مستويات الدولة وتأكيدها على عدم قدرة الصناديق على الإيفاء بالتزاماتها وعجزها عن دفع جرايات التقاعد.

وفي رأيي يجهل هؤلاء المسؤولون القيمة الرمزية لهذه التصريحات والتي ساهمت من حيث لا يعلمون في زيادة مخزون التشاؤم وانفراط عقد الثقة في المستقبل عند الناس .

هذه المسائل التي اشرنا إليها والتي تهم أزمة الأدوية واهتراء النظام التعليمي وأزمة الصناديق الاجتماعية وقضية توفر الماء الصالح للشراب هي أمثلة محدودة لسردية وقراءة أخرى للوضع الاجتماعي والاقتصادي

والسياسي .ويمكن أن نضيف لهذه الأمثلة مظاهر ومسائل أخرى كأزمة المؤسسات العمومية وتراجع الدينار ومسألة الدعم وغيرها – كل هذه المسائل الهامة هي مؤشرات خطيرة لانخرام العقد السياسي والاجتماعي للدولة الحديثة وعدم وجود إشارات جدية لإعادة بنائها . وهذه الأزمة وتواصلها وتعميقها تشكل في رأيي الأساس لسردية وقراءة مختلفة عن القراءة الرسمية للواقع الاجتماعي وتفسر في رأيي في جانب كبير حنين الكثير من الناس لبناة دولة الاستقلال وبصفة خاصة لحامل مشروع الدولة الحديثة الرئيس الحبيب بورقيبة .

وشكلت الدولة الحديثة وآلياتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية محطة هامة في تاريخنا المعاصر – وساهم العقد الاجتماعي الذي بنته دولة الاستقلال في إعطاء مشروعية الدولة الحديثة وخروج الناس من المؤسسات المهترئة للنظام السابق والانخراط في المشروع الجديد والانتصار له . وقد لعبت المسائل الاجتماعية كتوفير الصحة والارتقاء الاجتماعي عبر المدرسة والتضامن بين الأجيال دورا أساسيا في دعم مشروعية برنامج مشروع ورؤية الدولة الحديثة وثقة الوعي الجمعي في المستقبل .

إلا أن هذا المشروع دخل في أزمة عميقة منذ سنوات ولعل ثورات الربيع العربي هي من ابرز تداعياتها – وكان من نتائج هذه الأزمة تراجع الثقة في هذا المشروع وخاصة حالة التشاؤم والخوف أمام المستقبل عند الوعي الجمعي . وأصبحت المهمة الأساسية عند اغلب الناس هي إعادة بناء خيوط العقد الاجتماعي المنفلتة واسترجاع الثقة في قدرة الدولة على صياغة مشروع جديد ينمي الحلم الجماعي بغد أفضل . وهذا المشروع يتطلب إصلاحات كبرى وهيكلية تمس قطاعات الصحة والتعليم والاقتصاد وتعيد ثقة الناس في قدرة الدولة على حمل همومهم وآمالهم وأحلامهم .

إلا انه في مقابل هذه السردية والقراءة الجمعية للوضع الاجتماعي تقابلنا قراءة رسمية مختلفة وسردية مغايرة تعتمد أساسا على التوازنات الكبرى ومشاغل الاقتصاد الكلي – فيحنما يعبر الوعي الجمعي عن خوفه من المستقبل أمام أزمة المنظومة التعليمية والصحة وغيرها من ركائز العقد الاجتماعي المنفلتة يجيب الخطاب الرسمي ببداية تعافي النمو وتحسن تغطية الواردات بالصادرات وتراجع عجز المالية العمومية .

وهذه الاختلافات الجوهرية بين السرديتين أو القراءتين للواقع الاجتماعي والاقتصادي هي وراء الأنظمة وحوار الطرشان الذي نعيشه منذ أشهر بين الدعوة إلى بناء نظرة شاملة للخروج من أزمة العقد الاجتماعي ووضع الأساس لنظرة جديدة واثقة في المستقبل من جهة ومشروع أو نظرة تقنية تختصر السياسة والاقتصاد في التوازنات الكمية .ولنفهم أسباب أزمة هذه السردية أو الرواية الرسمية وقراءتها للأحداث لابد من العودة بسرعة لصعودها على المستوى الفكري ثم أزماتها المتتالية منذ سنوات – ولابد من الإشارة أن هذه النظر الكمية او التي تختزل السياسة والاقتصاد في التوازنات الكبرى ليست خاصة ببلادنا بل هي نتاج لتيار فكري سيطر على السياسات العامة منذ بداية التسعينات على المستوى العالمي – وهذا التيار أو ما يسميه الاقتصاديون «التوافق الجديد « أو la nouvelle synthèse هو نتيجة الالتقاء بين ورثة المفكر الاقتصادي كينز الذي دافع على تدخل الدولة وأبناء فريدمان وهو المفكر الاقتصادي النيوليبرالي وحامل لواء مدرسة شيكاغو .

وقد أكد هذا التوافق الجديد على ثلاث مسائل أساسية ستكون في كنه السياسات الاقتصادية على مدى ثلاثة عقود من الزمن – المسألة الأولى هي علوية وأفضلية اقتصاد السوق في حوكمة الاقتصاديات الحديثة – المسألة الثانية هي ضرورة تراجع دور الدولة واقتصاره على المسائل التنظيمية والتعاقدية – المسألة الثالثة تخص إعطاء الأهمية الأساسية للتوازنات الكمية في السياسات العامة وستشكل هذه المبادئ الثلاثة جوهر السياسات النيوليبرالية التي سيقع اتباعها في الثلاثة عقود الاخيرة أو سنوات ما سمي «بالعولمة السعيدة»

إلا أن هذه المرحلة ستعرف نهاياتها مع الأزمة الاقتصادية والمالية لسنوات 2008 و2009 والتي كادت أن تجر النظام الاقتصادي العالمي إلى الهاوية – وكان من نتائج هذه الأزمة إعادة النظر في الأسس النظرية للسياسات العامة والتأكيد على دور جديد للدولة نظرا لعجز السوق عن إيجاد الحلول للازمات الاقتصادية .

كما شكلت ثورات الربيع العربي محطة نقدية هامة لهذا التوافق الاقتصادي حيث أكدت أن التوازنات الكبرى والتي لا تأخذ بعين الاعتبار التوازنات الاجتماعية تفتح بابا على مصراعيه للثورات والهزات وعدم الاستقرار الاجتماعي – وقد طرحت هذه الثورات إشكالية الاندماج الاجتماعي كأساس جديد للسياسات الاقتصادية .

إلا انه وبالرغم من النقد وفشل هذا التوافق بين أحفاد كينز وفريدمان ودعوة الجميع للخروج منه وبناء أسس جديدة للسياسات الاقتصادية فقد عاد بقوة في السنوات الأخيرة في جراب المؤسسات الدولية ليجعل من الاقتصاد الكلي أو macroéconomie la الهدف الأساسي للسياسات العامة .وفي رأيي وعلى أهمية التوازنات الاقتصادية فانه لا يمكنها اختزال السياسة والاقتصاد – فالإشكالية الأساسية المطروحة في بلادنا والتي يؤكد عليها الوعي الجمعي تخص إعادة بناء العقد الاجتماعي الذي انفلتت حباته منذ سنوات في مستوياته المتعددة من اقتصاد وصحة وتعليم .. وعملية البناء هذه تتطلب القطع مع النظرة الضيقة والسردية التي أسست للسياسات العامة وللخطاب الرسمي وبناء نظرة جديدة قادرة على إعادة الأمل وبناء الثقة في المستقبل عند الناس .

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115