قهوة الأحد: أزمة المشروع الأوروبي ومحاولات إعادة البناء

يعيش المشروع الاوروبي أزمة عميقة منذ بعض السنوات، وقبل اثارة هذه الازمة لا بد من الحديث عن هذه التجربة الهامة في تاريخ التعاون و التكامل

الاقتصادي على المستوى العالمي، لقد عرفت أوروبا مآسي وويلات حربين عالميتين، خرجت أوروبا من هذه الحروب مثقلة بالأحزان وخاصة على المستوى السياسي بانعدام كبير للثقة بين شعوبها وبين البلدان الكبرى، بالرغم من العمر الكبير لتجربة الوحدة والتعاون فإننا نجد لحد الآن بعض بقايا هذا الجو من الخوف وعدم الثقة الذي طبع علاقات الشعوب الأوروبية ببعضها في النصف الأول للقرن العشرين.

وبالرغم من هذه المآسي وهول الحروب فقد قرر القادة الأوروبيون سنوات قليلة اثر نهاية الحرب العالمية الثانية الانطلاق في تجربة مهمة من التكامل الاقتصادي ديدنهم في ذلك أن التعاون والتآزر هما الطريق الوحيد لدحر شبح الحروب وأهوالها.
وستنطلق هذه التجربة بصفة فعلية عندما دعا وزير الخارجية الفرنسي روبار شومان Robert Shuman مع صديقه ومستشاره Jean Monnet في 9 ماي 1950 البلدان الأوروبية الى الالتحاق بمنظمة التعاون في صناعات الفحم والحديد والصلب والتي تعتبر في تلك الأيام قطاعات استراتيجية في الاقتصاد العالمي وترتبط بصفة مباشرة بالصناعة الحربية، وكانت هذه الدعوة موجهة بصفة خاصة الى ألمانيا والمستشار أديناور Adenauer.

وستكون هذه الدعوة نقطة انطلاق المشروع الاوروبي والذي لن يقتصر على التعاون والتكامل الاقتصادي بل سيؤكد على المشروع السياسي ليجعل من مبادئ الحداثة والديمقراطية والتعددية والتداول السياسي على السلطة أسس البناء الأوروبي وهويته السياسية والايديولوجية في مواجهة الأنظمة الشمولية والانظمة الاشتراكية تحت هيمنة الاتحاد السوفياتي.

وقد شهدت التجربة الأوروبية عديد المراحل الهامة الى أن وصلت الى بناء منطقة الأورو واتخاذ عملة موحدة في بداية الألفية، لم تكن هذه التجربة وعملية البناء الاوروبي بالهينة فقد لقيت الكثير من النقد والتحفظ من عديد القوى السياسية في البلدان الاوروبية والتي رفضت التفريط في السيادات الوطنية في بلدانها لفائدة الكيان الأوروبي المشترك.

إلا أنه وبالرغم من هذا النقد والنقائص فقد نجحت تجربة التكامل الاقتصادي والمشروع السياسي الاوروبي الى حد كبير لتصبح التجربة التي ألهمت وأثرت في عديد التجارب على المستوى العالمي.
رغم هذه النجاحات فقد بدأت هذه التجربة تعيش العديد من المشاكل والتحديات وتواتر النقد، وستكون الأزمة الاقتصادية العالمية لسنوات 2008 و2009 بمثابة نقطة تحول كبرى في تاريخ المشروع الأوروبي، فعجز البلدان الأوروبية عن مواجهة الأزمة وانعكاساتها الاقتصادية مع الأزمة الخانقة للبنوك والمؤسسات الاقتصادية و آثارها الاجتماعية مع النمو الكبير للبطالة سرّعت بأزمة المشروع الاوروبي المشترك وتصاعد القوى السياسية المناهضة له، فقد عرفت السنوات الأخيرة نجاح العديد من القوى الشعبوية الرافضة للمؤسسات الأوروبية والتفريط في سيادتها الاقتصادية والسياسية، وشكلت البريكست Brexit وتصويت البريطانيين للخروج من المشروع الأوروبي منذ سنتين الضربة القاصمة لهذا الحلم المشترك والتي دفعت عديد القوى للتعبير عن رفضها لهذا المشروع بكل حدة.

ومنذ ذلك الوقت بدأت القوى السياسية في اعادة المشاريع لتجديد البناء الأوروبي ودفعه للخروج من أزمته، ولعل آخر هذه المحاولات المشروع الذي قدمه الرئيس الفرنسي ماكرون والذي يسعى من خلال التحالف مع ألمانيا الى اعطاء دفع جديد للمشروع الأوروبي.
وتدور أغلب النقاشات حول اعادة بناء المشروع الاوروبي حول ثلاث مسائل أساسية، المسألة الأولى هي القضية الاقتصادية وكيفية الخروج من الركود الاقتصادي الذي تعيشه بصفة خاصة بلدان جنوب أوروبا كايطاليا واسبانيا واليونان وحتى فرنسا واعطاء دفع جديد للنمو و التشغيل، ومن ضمن المقترحات التي تم تقديمها للخروج من الأزمة الاقتصادية نذكر مقترحات الرئيس الفرنسي ماكرون والتي تتمحور حول ضرورة بناء ميزانية مشتركة على المستوى الأوروبي أكثر جرأة وتكون القاطرة لاعادة النمو ودفع الحركية الاقتصادية من خلال الاستثمارات الكبرى، كما أكد الرئيس الفرنسي في مقترحاته الاقتصادية على ضرورة دفع التعاون

والوحدة في اطار منطقة الأورو.

إلا أن هذه المقترحات وبالرغم من الترحيب الأولي تلقى اليوم الكثير من الرفض والمعارضة، وقد لعبت الأوضاع الاقتصادية المختلفة للبلدان الأوروبية دورا كبيرا في المواقف التي تدافع عنها على المستوى الاقتصادي وهنا يمكن أن نفرق بين ثلاثة مجموعات من البلدان الأوروبية، المجموعة الأولى تضم بلدان وسط وشمال أوروبا من ضمنها ألمانيا والنمسا وهولاندا وبلجيكا والدانمارك والسويد وفنلندا، وما يجمع هذه البلدان هو نجاحها في تجاوز الأزمة الاقتصادية العالمية وعودة النمو وتحسين أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية بصفة عامة، واتخذت هذه البلدان مواقف رافضة للميزانية المشتركة ولمزيد التعاون والوحدة، واعتبرت نفسها قامت بالاصلاحات الضرورية والموجعة منها لدفع عملية النمو بينما الدول الأوروبية الأخرى لم تقم بهذه الاصلاحات ولا بد لها من تحمل مسؤولياتها قبل المطالبة بالمزيد من التعاون والوحدة.
المجموعة الثانية من البلدان هي بلدان الشرق الأوروبي والتي استفادت من الاستثمارات الأوروبية من قبل المؤسسات الصناعية الكبرى ومن التحويلات والدعم المالي الأوروبي والتي ساهمت في التطور الاقتصادي السريع الذي تعيشه هذه البلدان في السنوات الأخيرة، ولاعطاء فكرة على أهمية التحويلات المباشرة نشير الى ميزانية صندوق الدعم الهيكلي أو ما نسميه Les fonds structurels للمفوضية الأوروبية والذي بلغ بين سنتي 2014 و 2020 ما يقارب 645 مليار أورو تمتعت بولونيا لوحدها بـ 105 مليار أورو من هذه الميزانية، وهذه البلدان رافضة لمبدأ توسيع منطقة الأورو ولكنها متمسكة بضرورة دعم الميزانية المشتركة.
المجموعة الثالثة من البلدان تضم فرنسا واسبانيا وايطاليا واليونان والبرتغال و، وتعاني هذه البلدان من آثار الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية وبقي النمو فيها ضعيفا، وتدافع أغلب هذه البلدان على مزيد من الجرأة في الميزانية المشتركة لدفع النمو والخروج من الأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي كانت وراء التطور الهام للقوى الشعبوية الرافضة للمشروع الأوروبي.

اذن تتميز المواقف على المستوى الاقتصادي بالكثير من التضارب اذ لم نقل من التناقض بين الشركاء الاوروبيين مما يجعل عملية اعادة احياء المشروع الأوروبي من الناحية الاقتصادية صعبة ومعقدة.
المسألة الخلافية الثانية التي تشق البلدان الأوروبية تخص قضية الهجرة غير القانونية وتواصل توافد المهاجرين في قوارب الموت بصفة يومية، وبالرغم من حاجة هذه البلدان لليد العاملة مع التطور الديمغرافي الكبير الذي عرفته والتزايد الكبير لنسبة الشيوخ فانها ترفض فتح حدودها وتواصل تعاملها مع هذه المسألة بطريقة أمنية لتفادي نمو القوى العنصرية وأحزاب أقصى اليمين.

المسألة الثالثة التي تشق البلدان الأوروبية تخص البناء المؤسساتي، ففي حين تدعو بعض البلدان الى ضرورة تطوير هذا النسيج من المؤسسات والقوانين المشتركة فان عديد البلدان الاخرى تدافع عن ضرورة التأني في هذا العمل وعدم التسريع به،
يواجه المشروع الأوروبي بعد سنوات من النجاح أزمة عميقة تتطلب الكثير من المراجعات والتقييم من أجل الخروج بأفكار وآراء جديدة لاعادة البناء، ويرتكز هذا النقاش على مسألة أساسية وهي قدرة التعمق والتوسع ودفع المشروع الى الأمام في الخروج من الأزمة الأوروبية، وتصطف القوى السياسية الأوروبية حول ثلاثة مواقف أساسية بين المدافعين على فكرة المضي قدما في هذا البناء والمنادين بالتأني والداعين الى القطع مع هذا البناء والعودة للدولة الوطنية.

وبالرغم من هذه التحديات والصعوبات وحتى التناقضات تبقى تجربة البناء الاوروبي تجربة مميزة وايجابية، فقد ساهم هذا البناء في ابعاد شبح الحرب واحلال السلام، كما لعب دورا هاما في النمو الاقتصادي والاجتماعي وخروج العديد من البلدان والجهات الاوروبية من الفقر المدقع والتخلف.
ولا بد لهذه التجربة أن تشكل نبراسا ينير خطواتنا ويزيد من قناعاتنا على ضرورة المضي قدما في تجربة البناء المغاربي ومواصلة النضال من أجلها بالرغم من الصعوبات التي يعيشها هذا المشروع، وقناعتي كبيرة في أن هذا البناء ودفع التعاون بين بلداننا سيساهم مساهمة فعالة في الخروج من الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها بلداننا.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115