التونسيون أربعة انتخابات عامة بصفة منتظمة، وينزل الجميع عند حكمها، وتحسم الخلافات والازمات بآليات سلمية مبتكرة.
الديمقراطية السياسية تشق طريقها بل تتعمق، فالانتخابات الاخيرة تقطع مع التقاليد المركزية وتعلن ميلاد طبقة سياسية جديدة من الفئات المحرومة لقرون من السلطة. و معاينة سريعة للمنحدرات الاجتماعية والخلفيات الثقافية لرؤساء البلديات الجدد من الرجال والنساء تعطي مؤشرا على عمق التحولات التي نحن بصددها. اننا بصدد انتقال من سلطة «المحظوظين» الى سلطة «عامة الناس»(Mr Mme Tout-Le-Monde).
إننا امام عينة من القيادات السياسية للعقدين القادمين على الأقل ،و لن تسمح لهم اليات التداول والرقابة الديمقراطية باستغلال المواقع للتغول وصنع دائرة من المتنفذين كما وقع ذات تجربة في تاريخنا الحديث.
وفِي نفس الوقت تتدعم ترسانة القوانين الثورية و تتركز اليات الحكم الرشيد التي نص عليها دستور الجمهورية الثانية .في النسق بطء وفِي القوانين نقائص ولكن الوجهة في هذا الجانب سليمة ،وهذا مهم جدا .
(2)
تمر هذه الثورة العميقة دون ان نحتفي بها حق الاحتفاء ،و يطغى على خطابنا الحديث السطحي عن الازمة ،وهنا نرتكب خطأ مضاعفا .
- خطأ في البيداغوجيا السياسية و التواصل اولا ،يدل على غياب القيادة السياسية التي تحدد البوصلة و الرسائل ،اذ لا يمكن لشعب ان يعيش دون امل ،ودون ابراز نصف الكاس الملآنة بجانب نصف الكأس الفارغة ،التي تحتل المشهد بطبيعتها .
- وخطأ في التقدير ثانيا ،فكأن الخلاف الحالي هو ام المعارك ،و كان التاريخ سيتوقف في صائفة 2018،بينما يوجد بعد هذه السنة سنوات قادمات .
يجب الكف عن هذه العادة السيئة التي نجعل فيها من كل معركة ام المعارك لنكتشف بعد ان نخسر مناخات و علاقات انها كانت مجرد معركة، ومجرد محطة في مسار طويل .
وهذه العادة ناتجة عن ثقافة سياسية تراهن على حسم القضايا الجوهرية من خلال منهج اقتناص الفرص و احراج الخصوم و الاختفاء وراء المواقع،لنقل انه نوع من «التحايل» السياسي تم اللجوء اليه في اوضاع الاستبداد في بداية دولة الاستقلال و في محطات اخرى من تاريخها، و لكن لا شيء يبرر اللجوء اليه في الوضع الديمقراطي، ولا شيء ينبئ بنجاحه ان تم اللجوء اليه .
ان التهدئة و ترتيب الاولويات ليس فقط فضيلة اخلاقية يقصد منها حماية المناخات ،انها ايضا فضيلة سياسية ،يقصد منها النجاعة والوصول الى نتائج قابلة للتنفيذ و الاستمرار .
و لكن الخطأ الأكبر يكمن في سوء تقدير حقيقة ما يحدث.
(3)
لا تعد الصعوبات و لا حتى الازمات والمآزق شيئا غريبا و لا كارثيا في الحياة السياسية والاجتماعية ،و خاصة في اوضاع الانتقال ،فالاشكال ليس في وجود أزمات ، وانما في فهمها و في منهج التعامل معها .
في هذا المستوى يختلط العارض بالسبب ،ويطغى خطاب التبرير و الهروب من المسؤولية و البحث عن كباش فداء . وغالبا ما تكمن خلف الهزائم و الازمات «ايديولوجيا مهزومة» أو ذهنية وطريقة تفكير مهزومة .الخطوة الاولى للتقدم تبدأ بطرح الاسئلة الصحيحة.
هل نحن في أزمة ؟
وما هي طبيعتها ؟
و ما هي أسبابها ؟
و من يتحمل مسؤوليتها ؟
(4)
في البلاد الآن أزمة، لا شك في ذلك .وأحد مظاهرها استمرار السجال منذ نصف سنة كاملة حول التغيير الحكومي و عمقه وبرنامجه ،و هذا يورث ضبابية لدى الراي العام ،و حيرة لدى المتعاملين الدوليين ،و ارتباكا عند الادارة .
وكان مأمولا من جلسة 28ماي بين الموقعين على وثيقة قرطاج إنهاء مسلسل النقاشات والحسم في هذه الوجهة او تلك ،غير اننا وصلنا الى حالة من الانسداد نتيجة غياب التوافق السياسي اولا ،ثم عدم وضوح الحلول المؤسساتية بعد ذلك .
نظر لجلسة السباعي يوم السادس عشر من جويلية كمحاولة للتدارك و لكنها اقرت نفس حالة الانسداد وغياب الحلول عند كل الفاعلين .
وصفة التوافق المعتادة ،و التي تعني تنازل طرف بعينه، لم تشتغل هذه المرة.كما اتضح ان سياسة المرور بقوة مجازفة غير مضمونة العواقب .
الفاعلون هم أنفسهم و لكن قواعد اللعبة تغيرت قليلا ،بما أحدث ما يشبه المفاجأة .
كان يراد تكرار مشهد حصل منذ سنتين عند ابعاد السيد الحبيب الصيد و لكن الطرفين اللذين مررا عن مضض الشوط الاول لم يقبلا الإعادة .وظهر و كاننا ننتقل درجة اخرى في الازمة السياسية في البلاد ،من ازمة تتعلق بضعف المنجز التنموي ونمط الحوكمة الى ازمة سياسية قد تفتح الباب ،ان لم تتداركنا الحكمة ،لازمة مؤسساتية تبدو افاق حلها غامضة .
ولكن هل حقيقة الامر هي هكذا ؟ هل ان ما يحصل هو تعقد في طبيعة الازمة ام هو انكشاف لما كان ثاويا ؟
(5)
شخصيا أرجح الاحتمال الثاني .
فالجوهر السياسي للازمة قائم منذ ثلاث سنوات .
لنقل ان الوصفة التي أنتجتها انتخابات 2014 لم تشتغل كما كان ينبغي لها ان تفعل .
فالرهان الأساسي لانتخابات 2014 هو الانتقال المزدوج :من المؤقت الى المستقر، ومن الاولوية السياسية الى الاولوية الاجتماعية التنموية .
مرة اخرى يكون الوعي الشعبي متقدما على وعي النخبة .
ففي شتاء 2011حينما فرض زخم القصبة خيار التاسيس وضغط على النخب التي كانت لديها القابلية لاجراء إصلاحات جزئية على المنظومة السياسية التي استهدفتها الثورة .
هذه المرة فرضت ارادة الناخبين الالتقاء على كتلتين كانت لديهما كل القابلية للتصادم .
بشيء من التبسيط كأن الجسم الناخب اراد الاستفادة من مكون الخبرة في القديم مع تنبيهه ان العالم قد تغير ،واراد الاستفادة من حماسة ونظافة الجديد مع تنبيهه الى ضرورة اعتماد أقدار من الواقعية .
وهكذا نفهم الالتقاء الحاصل منذ سنة 2015 باعتباره حكما من الجسم الناخب لا فضيلة اخلاقية من هذا الطرف او ذاك حسب سردية اولى ،او هو اختيار ضد الطبيعة حسب سردية مسكونة بالايديولوجيات القديمة و احلام صدام المشاريع .
اذن حسب هذه الفرضية فان انتخابات 2014وفرت الفرصة و الإمكان ،و المسؤولية تقع بعد ذلك على عاتق الفاعلين لاستثمارها او إضاعتها.
يجب ان تكون لنا شجاعة الانصاف لنقول ان منظومة 2014 كانت لها مزية الحفاظ على الاستقرار و على كيان الدولة في محيط رماله متحركة ،وان المسار التأسيسي يتقدم في التشريعات و الآليات .
وفِي المقابل يجب ان نمتلك شجاعة الاعتراف ان ما حصل هو الحد الأدنى السياسي Smig، وان المنجز من وعود الانتخابات كان دون الممكن تحقيقه والشعوب لا تعيش بالاستقرار فقط. فالاستقرار مطلب، و هو خاصة رافعة للاستثمار و التنمية.
الالتقاء لم يكن مغشوشا و لا غير طبيعي،بما انه كان استجابة عقلانية لحكم الصندوق ولكنه لم يكن منتجا ،او بالأحرى لم يكن منتجا بالقدر الكافي ،وهذا ما ضاعف الفجوة بين عالم السياسة و عالم المواطنين الذين يعاينون خذلانا من حكامهم انجر عنه تفاقم النفور من الاحزاب بل و من الاهتمام بالشان العام اصلا .
(6)
السؤال المهم هو لماذا لم تف منظومة 2014 بوعودها ؟
سنجد أنفسنا أمام مساءلة عقلنا السياسي، لا فقط ممارستنا السياسية .
للاسف لم تلتقط النخبة رسالة انتخابات 2014ولم يستطع لقاء الضرورة ان يتحول الى قاطرة حكم على اساس وعود الانتخابات .
فلا اصحاب النفوذ القديم (الايديولوجي والمصلحي) تخلصوا من وهم الاسترداد reconquista ،فالدولة دولتهم ، و لا حق للطارئ الا في مقاعد اللجوء .و يجب المن عليهم كل حين انهم لاجئون و انهم مواطنون تحت الاختبار. ولا بأس بلمزة رشيقة بين الحين والآخر تذكرهم اذا نسوا،وترشدهم اذا ضلوا .
ولا مكونات الجديد تخلص بعضها من الاحساس بالاضطهاد و المتابعة و الغربة،و لا تخلص بعضها الاخر من الطهرانية وثورية الكتب.
وفِي الأثناء غرق الجميع في حروب تكتيكية صغيرة لتأمين افضل التموقعات او لإحراج الخصم (العدو؟) الرئيسي .
وفِي الأثناء يتجاور ضعف الانجاز مع الاخلالات في المنهج،بل ومع التهرب من تحمل المسؤولية .
وفي الممارسة يتم الضغط لتتحول مؤسسة الرئاسة الى ادوار اقرب لدستور 1959منها لدستور 2014،و يتم اللجوء الى اليات للمرافقة كانت مقبولة في الوضع التأسيسي غير أنه كان من شانها تهميش المؤسسات و خاصة باردو والقصبة في الوضع المستقر.
نعيش ثقافة سياسية هجينة فلا هي ثقافة ما قبل 2011 ولا هي ثقافة ما بعد دستور الجمهورية الثانية .
وأثناء ذلك لم يستطع الحزب الاول ان يتحول من حاجة مجتمعية للتوازن السياسي الى حزب مؤسساتي .وحرب التموقعات داخله دفع ثمنها الاستقرار الحكومي و البرلماني وصورة الاحزاب السياسية ،كما أدت الى اللجوء الى حلول غير حزبية للمحافظة على التوازن الحزبي في البلاد .يحصل كل ذلك بوعي من البعض ،و بمسايرة من البعض الاخر ،و باستمراء من اطراف مدنية و اعلامية .
هذه جناية وأزمة العقل التكتيكي الذي يفضّل التذاكي و التحايل و اللعب تحت الطاولة على الصراع السياسي الواضح الجدير بالأوضاع الديمقراطية و بالأوضاع ما بعد الثورية.
تسكننا عقلية محافظة ،فكان السياسة بين خياري التماهي او الحرب، في حين ان الممارسة السياسية في الفضاء المدني توفر أقدارا كبيرة من الخيارات: فلا الالتقاء ينفي التنافس، و لا التباين يؤدي الى الحرب ،ولا التاجر الشاطر يمن على الفلاح الطيب.
أغلبنا (من ندعي الانتساب الى عالم النخبة )مسؤولون عن الانحرافات التي حصلت في اختلال التوازن في المشهد المؤسساتي ،و عن التشوهات التي حصلت في طريقة ممارسة السياسة ،حيث أدت هشاشة الاحزاب الى استشعار بعض الهيئات ضرورة ملء الفراغ ،كما أدى ذلك الى تدخل قوى نفوذ مالي و اعلامي ورياضي وجهوي ساحة التاثير السياسي المباشر .
في السياسة ،كما في الحياة ،معركة صغيرة في وقتها يمكن ان تجنبنا كثيرا من الانحرافات .و لكن عندما يفوت الوقت قد لا تستطيع حرب كبيرة إصلاح الاوضاع .
ما نجنيه الان هو نتيجة تضييع فرصة صراحة كان يفترض ان نقفها في جوان 2016.حينها كانت هناك صعوبات نعم ،و لكن التشخيص و تحميل المسؤوليات كان خاطئا . طغى كالعادة العقل التكتيكي ،وكان المخفي من الرهانات مناقضا للخطاب المعلن ،في عالم اصبح فيه الذكاء اعدل الاشياء قسمة بين الناس .
(7)
هل فات أوان العلاج ؟
لا.
شرط ان نستثمر هذه الفرصة لمراجعة عقلنا السياسي والخروج من الثقافة الهجينة الى ثقافة جديرة بثورة قدر ما تبحث عن المشتركات لا تستنكف من التنافس على قاعدة سياسية لا فضل لتونس على اخر الا بمقدار التزامه بالنصوص المؤسسة و بخدمة المصالح العليا للبلاد .
لنتفق أولا أن بلادنا قد تكون مهددة بحكومات فاشلة او بأقدار من الفوضى، و هذا بالطبع سيئ وخطير ،و لكنها في تقديرنا ليست مهددة بحلول قصوى كالتي نجدها في عدد من دول محيطنا .
و لنتفق ثانيا على انه في التدافع في الفضاء السياسي السلمي المدني توجد دائما حلول أفضلها بالطبع ما كان اثر تشارك وتشاور وتنازلات متبادلة ولكن الحلول المؤسساتية ايضا ليست سيئة .
و ان التموقع في الحكومات هو احد أهداف الاحزاب في الاوضاع الديمقراطية ،ولكن المعارضة البرلمانية هي جزء من منظومة الحكم وتفرض ،على من اختارها او رجح أفضليتها لمصالحه الحزبية او للمصلحة الوطنية ،قدرا من العقلانية في ممارسة السياسة .
هل تكون لنا القدرة والشجاعة على استخلاص الدروس الاساسية لازمة صائفة 2018 بما يجنبنا تكرار اخطائنا السابقة، و يساعدنا على توفير الشروط التي تجعل منظومة الحكم التي تفرزها انتخابات 2019 اكثر نجاعة من منظومة انتخابات 2014؟
نرى ان المسالة تتعلق بالشروط الثقافية وبالتوازن الحزبي و السياسي اكثر من تعلقها بشروط دستورية.
بعقلانيتنا التونسية سنصل لحل ،في هذه الوجهة أو تلك ،بشان عمق التحوير الحكومي ، ولكن يبقى السؤال الاهم :هل ستنبهنا هذه الرجة الى التشوهات والاختلالات الكبرى حتى لا نعود لنفس المربع ؟
و انما يحصل ذلك من خلال :
- العودة الى نص وروح دستور الجمهورية الثانية في ادوار المؤسسات و السلط (طالما بقي ساري المفعول ).
-إيجابية وضرورة توسيع الحوار السياسي والاجتماعي و المدني و لكن مع اللجوء الى المؤسسات المنتخبة لا فقط لتتويج الحوارات وانما لتكون عنصرا أساسيا فيه .
-التزام الاحزاب بمسؤولياتها وفقا لتعاقدها الاخلاقي و السياسي مع الناخبين و لتعاقدها البرامجي مع الشركاء .
-التزام قواعد الشفافية و المأسسة والانتخاب في الحياة الحزبية بما يقطع، او على الأقل يُحد، من تاثير دوائر النفوذ الخلفي في الحياة السياسية .
و يبقى مطلب جوهري لاستمرار المسار الديمقراطي في البلاد يتعلق بالبحث عن التوازن.
لقد ابانت انتخابات ماي 2018ان القاعدة المحافظة الديمقراطية تحظى بتمثيل سياسي مستقر ومعقول ،غير ان التنافس و التكامل واحتمال التداول رهين بتمثيل معقول للعائلة الديمقراطية الليبرالية (و المسؤولية الأكبر تقع على الاخوة مناضلي نداء تونس )،و للعائلة الديمقراطية الاجتماعية التي اخل غيابها بالتنوع و التوازن في حياتنا السياسية (و المسؤولية تقع على عدد من التعبيرات و عشرات الشخصيات في هذا الفضاء الذي قدم الكثير للبلاد).
• ملاحظة :صاحب الورقة ملتزم في الخيارات الكبرى وفي الموقف وفِي العلاقات بما تعبر عنه مؤسسات الحركة التي ينتمي لها، ولكن قراءته وتحاليله شخصية يساهم بها في حوار يراه يهم كل المعنيين بالشان العام .