جاهدين. أحيانا، نفوز بكسب ويكون لنا لقاء خاطف وأحيانا كثيرة نفشل في المسعى. إن فزنا، كان لنا الفخر واللذة القصوى وإن فشلنا فلا بأس. نعيد الكرّة مرّات أخرى. لا يعرف اليأس إلى قلوبنا سبيلا. نحن العزم. نحن الثبات. في كلّ يوم، ننهض، نتوكّل على الله وننطلق نكدح في الأرض كدحا. طوال النهار وبعضا من الليل، ترانا نلهث وراء البنات...
في كلّ رمضان وفي ليلة الـ 27 من الشهر وهي عندي ليلة القدر، كنت دوما في تأهّب، مستعدّا. أسهر الليل، علّي أرى ليلة القدر. علّ السماء تنفتح في وجهي. كنت أومن إيمانا لا ريب فيه بليلة القدر وأنّ ليلة القدر خير من ألف عام وأكثر. ما معنى «خير من ألف شهر»؟ لا أدري. هي ليلة مباركة، فضيلة وهذا يكفي. طوال رمضان، تعيد أمّي عليّ نفس القول: «افتح عينيك الليلة ولا تغفل. انظر في السماء مليّا وانتبه حتّى لا يشدّك نعاس ولا نوم. الليلة، هي ليلة القدر وليلة القدر ليلة مهمّة. إن فتحت في وجهك السماء ورأيت نورا يملأ الدنيا فاطلب بسرعة ما شئت فان الله، ليلتها، يلبّي لعباده كلّ دعوة. في ليلة القدر، اطلب من الرزق ما شئت ولسوف يعطيك ربّك ما تتمنّى»...
لمّا كنت شابّا، في أول العمر، كنت في ليلة 27 من كل أشهر رمضان، أسهر الليل. لا أغمض عينا. أنتظر أن تنفتح السماء، أن أفوز بليلة خير من ألف شهر. في ثانويّة سوسة، في كلّ ليلة الـ27 من الشهر، كنت أقضي الساعات مفتّح العينين، محدّقا، أنظر في السماء وما كان في السماء من كواكب ومن سحب متفرّقة...
مرّة، في إحدى ليالي القدر، كنت في البيت وحيدا. أنظر في السماء وما حواليها. فجأة، رأيت في السماء نورا متدفّقا، بهيّا. انبعث النور فجأة قويّا. ملأ الأرض. شدّني فزع وذعر. فتحت كبيرا فمي وعينيّ. نظرت في هذا النور العليّ وقد أضاء السماء وما حواليها. ظننت أنّها جهنّم تفتح أبوابها على مصراعيها. ظننت أنّها ساعة الحشر قد حانت وانتهت الدنيا ومن فيها. شدّني هلع. انطفأ الضوء المشعّ فجأة وعاد الظلام الى الدنيا. كنت أرتعش خوفا. لا أتبيّن شيئا. أسأل النفس. هل هي الحرب؟ هل هو البعث؟ هل هي ليلة القدر؟ هل انتهت ليلة القدر؟ لم أطلب من ربّي شيئا. لم أطلب لأمّي شيئا. يا لني من صبيّ غبيّ. ها قد ضيّعت فرصة العمر. لن يتحقّق شيء ممّا أتمنّى. بكيت ليلتها حسرة. حكيت لأمّي ما جرى وما رأيت في السماء من نور. قالت أمّي محدّقة فيّ، متعجّبة: «هل طلبت من الله شيئا؟» قلت: «لا. انفتحت السماء وانغلقت بسرعة. اشتعلت نار لهيب وانطفأت بسرعة. شدّني هلع. لم أقل كلمة». قالت أمّي وفي قلبها شيء من الحرقة: «أضعت فرصة. ليتك قلت شيئا بسرعة. انتبه ولا تضيّع مستقبلا ليلة القدر واحفظ عن ظهر قلب ما سوف تدعو لنفسك ولنا من خير ونعمة»...
بعد سنين، دخلت الجامعة. في كلّيّة 9 أفريل بالعاصمة، انقلبت في عينيّ الدنيا. أنا مخلوق آخر، مختلف. انتهيت من ليلة القدر وما كان في قلبي من إيمان ومن خرافات أخرى. ليلة القدر هي ليلة كالليالي. لا فضل فيها ولا بركة. انتهيت من الدين وأصبح همّي وكلّ الشباب مثلي أن ألتقي بأنثى. أن أشرب خمرا من فم فتاة حلوة. ليلة القدر عندي هي حسناء، أشربها وتشربني. تأكلني وآكلها. أقبّلها في النهار وفي الظلمة. لكسب أنثى، لا ينفع السهر وترقّب رحمة السماء العليا...
انقطعت صلاتي بالسماء العليا. لا رجاء يرجى من السماء العليا. وحده السعي يعطيك ما ترجو من الدنيا. أيّامها، كنّا في صراع ملحميّ مع الوجود. يسكننا عزم فيّاض. نعتقد أنّ يد السماء مغلولة وأنّ الحلّ والعقد بأيدينا. لا شريك لنا أحد في الأرض. انتهت عندي المعجزات. انتهى القضاء والقدر. الانسان حرّ، مخيّر وله الدنيا مطيّة، مطيعة...
٭٭٭
في ليلة الـ27 من رمضان، يقصد الناس القيروان وجامع عقبة حيث يحتفلون بالذكرى. يقول عليّ صاحبي وهو من الجهة وعارف بما يجري فيها: «ليلة القدر في القيروان هي ليلة كبيرة، مهمّة. ليلتها، تتزيّن المدينة بأجمل حلّة. يأتيها الناس من كلّ مدينة وقرية. تأتيها البنات والنسوة من كلّ بقعة»... اتفقت وأصحابي أن نزور مرّة القيروان حتّى نرى ما يجري وكيف الحصول هناك على أنثى.
قررت وصحبي أن نسافر الى القيروان، أن نقضي الليل هناك. أن نتصيّد أنثى. منذ العشيّة، كنت وجماعتي نتجوّل في شوارع المدينة. ننظر في ما كان من صبايا وبنات ونسوة. نعد الأنفس بكسب حلال، بلحم طريّ. مع الافطار، لمّا قام الآذان في المصادح يدعو، دخلنا مطعما شعبيّا وتعشّينا ما كتب الله، بسرعة. نحن في القيروان في مهمّة. أتينا الى القيروان غزاة ولن نضيع الوقت في أكل لا يجدي وفي حديث لا ينفع. خرجنا من المطعم وكلّنا استعداد. انطلقنا في الصيد مبكّرا وفي قلوبنا أمل وفي أعيننا عزم. كنّا خمسة وكان علي، قائد الرحلة، سادسنا. كنّا جميعا في انشراح وتحفّز. جئنا الى القيروان عطشى وها هو الماء، أنهار، من تحت أقدامنا، يجري...
كان صاحبي عليّ يدّعي معرفة بالقيروان وبما فيها من صغيرة وكبيرة. هو ابن المنطقة. من الأحواز. كان يقول في فرح ويعيد القول مرّة ومرّة: «ليلة 27 رمضان، في القيروان، ليلة معتبرة. يأتي الناس اليها من كلّ فجّ. سوف ترون البنات والنساء كالبطّيخ والدلاع، من كلّ حجم، من كلّ لون. سوف ترونهنّ ملقيّات على الأرصفة، متراصّات في الشوارع والأزقّة. متبرّجات، مستعدّات، حلوة». ويضيف صاحبي وكلّه ثقة وثبات: «يا شيحة، اللية ليلتك. أيّها الرفاق، سوف ترون الليلة ما لم تره عين. الليلة، شيء كبير... يكفي أن يمدّ الواحد يده حتّى يلقى الدلّاع في كلّ مكان. اختر ما شئت من الدلّاع وعضّ كما شئت. الليلة، كلّ شيء مباح، كلّ شيء حلال...» ما كنت أخال عليّ صاحبي الى هذا الحدّ كذابا. لا، ليس هو بكذّاب. صدق صاحبي في ما قال. هناك بطّيخ في الشوارع ودلّاع. هناك غلال وما طاب من ذكر وأنثى. كل القيروان خرجت ليلتها الى الشوارع. جاء الناس من كلّ مكان. كان الصخب في المدينة بهيّا. كان الناس في تدافع، في انشراح...
قضينا الليل نجري وراء البنات. مشينا في الأنهج والأزقّة، طولا وعرضا. قضينا الساعات نجري خلف هذه والأخرى وتلك المتلحّفة برداء أبيض وتلك السمينة وقد تبخترت، تمشي. كنّا نحدّق في البنات ولا ننتهي. نغازل من اعترضنا من الصبايا والنساء ومن تقدّمت بهنّ السنّ... كلّ مرّة، أكاد أتصيّد أنثى. أقول لنفسي ولصحبي هذه البنت ليّ. دعوني أسعى. هذه، سوف أبيت وإيّاها الليلة... ثمّ ينتهي السعي ولا صيد اصطدنا. أتعبنا الجري. أرهقنا اللهاث وراء الصبايا والنسوة. تعبت أرجلنا. لم نفلح في كسب شيء. ضحكنا كثيرا. تدافعنا. تغامزنا. لم نيأس وقلنا: «كدنا... غدا سوف نعيد المسعى ويعطينا ربّنا ونرضى...».
٭٭٭
في آخر الليل، ذهبنا الى دار مهجورة لعائلة عليّ، في الضاحيّة. فيها نقضي الليل. ننام ما تبقّى. كانت الدار في غرس مظلم. أسوارها من شوك وحولها أشجار مختلفة. في الحيّ، كلاب سائبة، تنبح بأعلى صوت. بعد عناء، دخلنا البيت. نتعثّر. في غرفة واسعة الأرجاء، خافتة الأضواء، قذرة، فرش عليّ بعض الجلود فوق حصر. ثمّ قال، آمرا صبيّا، لم أره من قبل. له شحم ولحم: «أنت، خذ ذاك الركن ونم فيه بسرعة. ثم أنت يا شيحة هنا وأنت هناك...» الى آخر نفر. كنت تعبا. أضنيت نفسي وجسمي مشيا وجريا. في البيت حشرات من كلّ نوع، بعضها يطير وبعضها يسري. هذا ناموس في الأرجاء يلسع. هذا نمل بين أرجلنا يسعى. يا لها من ليلة نكراء. ندمت على مجيئي الى القيروان ولا شيء في القيروان يسرّ، يشفي. إنّها غلطة. تغطّيت بلحاف غليظ. انكمشت كجنين في بطن أمّه. يجب أن أنام وأنسى. هزّني نوم عميق...
في ظلام الليل، سمعت عليّ صاحبي يتأوّه. ما لصاحبي في آخر الليل يتأوّه؟ هو ولا شكّ مرهق، تعبان مثلي. ازداد التأوّه قوّة. فتحت عينيّ. لم أر في الظلمة شيئا. بجانبي، هزّ ونفض. حركات، انتفاض، تأوّهات مستمرّة. سمعت وقع خطى. هناك في الغرفة حركة. كنت أسترق السمع. هذا عليّ ينهض ويأتي آخر محلّه. لم تنته الحركة. لم ينقطع التأوّه. ماذا يجري في هذه الليلة الكلبة؟ لا أدري. أنا تعب. هزّني النوم...
في الصباح، نهضنا. جمعنا ما كان من جلود وحصر. حان وقت العود الى العاصمة. ركبنا سيّارة أجرة. كان عليّ صاحبي بجانبي بين نعاس ويقظة. نظرت اليه وكنت في بعض غيظ وقلت «كانت حقّا زيارة موفّقة... أمّا الدلاع والبطيخ الذي وعدت فلم نر له لونا ولم نذق له طعما». سكت علي لحظة ثم قال مغمض العينين «على كلّ حال، في القيروان، حين يغيب الدلاع والبطّيخ، تلقى «الحرشاي» وتأكل»...
(يتبع)