الناس ومع من تحبين من أهلك لنحي ذكراك بعد أربعين يوما من رحيلك القاسي اليوم سنلمس مرّة أخري حجم حب الناس لك مية بعد أن إستأذنت في الغياب المر هذه المرة غياب الموت وغياب نقطة النهاية التي لا مفر منها لكل بني البشر حتي الأنبياء والنبيّات منهم.
لست وحدي من شهد إجلال الآلاف لمسيرتك حين سرنا وراءك نساءا ورجالا يتامي كلنا وحين جاء كل مسؤولي الدولة لتعزية أهلك ورفاقك وحين قرأنا ما كتب عنك و ما نقله من عاشرك في مختلف منعطفات حياتك السياسية عن عطائك منذ سنوات الشباب الجامعي إلي آخر المواقف الجريئة و الصادقة التي أصدعتي بها وجموع المتهافتين علي الثورة تزداد يوما بعد يوم للإلتفاف عليها من كل الزوايا فلا محاسبة و لا عدالة إنتقالية ولا تنمية في معجميتهم بل إن الثورة خطأ تاريخي وقوس لا بد أن يغلق في نظر العائدين إلي واجهة المشهد السياسي بلا حياء ولا وجل وفي نظر المتسرعين لمسايرة رياح الرّدة أو العائدين إلي القول بأن هذا الشعب المسالم سيسهل لنا إخضاعه مجّددا
رحلت ميّة عناّ ونحن أقلية في صندوق الإقتراع فالشعب لم ينتخبنا في الإنتخابات السابقة ولم يصوّت لنا وهو صاحب السيادة منذ أن قدّم الشهداء لتحرير نفسه ولكننا سنظل مصرّين علي الإستمرار في حبّه كما أحببته إلى حدّ التعب فحلمنا دوما هو- هو سيصهوّت يوما ما شعبنا المقبل لنفسه وعلينا أن نمنحه الفرصة لذلك فلا نتركه مع الذئاب وحيدا عند آخر اللّيل.
اليوم أعود لأقول للأحياء من مناضلي الساحة الوطنية وحتي العربية و خاصة للشباب أن مية الجريبي التي عرفتها وعاشرتها معاشرة الأخوة الصادقة و الرفاقية الصامدة كتبت عبر سنوات حياتها و سنوات مرضها إلي يوم موتها سرديّة خالدة تمنحنا حق الإفتخار بإمرأة جسدت علي إمتداد أربعة عقود من النضال فلسفة حياة و تركت فينا وعلى أرضنا وصية لم تكتبتها مكتملة بهذا العنوان ولكننا تلقيّنها مركبة من جمل خطبها وكلماتها ووقع خطاها وإلتفاتة يديها وهي تحيي باسمة الأفراد والجموع و المعتصمين و المتظاهرين وتشد أزر الصامدين والماسكين على الجمر علي إمتداد أرجاء الوطن تلقيناها من إصرار جسدها النحيف على الجوع سلاحا ضد الإستبداد دفاعا عن حق الكلمة الحرّة وحق الوجود المختلف.
لم أتفق مع مية إلي حدّ التطابق و التماهي في كل شيء ولم نختلف إلي حدّ القطيعة كما يحصل أحيانا بين صفوف بعض مناضلي اليسار.. جمعتنا مسيرة طويلة في الحزب الديمقراطي التقدمي بكل ما إعتمل داخله من صراعات و تجاذبات خضناها كذوات حرّة تناقش و تحاجج وتختار أفضل السبل لإستمرار الجهد الجماعي المقاوم للإستبداد و يكفينا فخرا أن الساعات الأخيرة الحاسمة لإكراه الطاغية علي الرحيل وقفناها مع الناس ومية مرفوعة فوق الأعناق مستعدة للشهادة تدعوه للتنحي تمّحي اليوم كل التفاصيل و يخلد ذلك الموقف التاريخي فهو الأبقي و الأهم لقد إنتظرنا طويلا لحظة العناق بين فعل المقاومة الذي كنا نبدع أشكاله الجديدة كل ساعة و الحشود تملأ الشوارع ولم نكن نأمل أننا سنعيشها حدثا فعليا ستحييه الأجيال القادمة كما عشناه صباح 14 جانفي 2011 .
عرفتها في مخاضات ولادة الحزب الجمهوري و في المحطّات العسيرة اللاّحقة لتأسيسه وفي الإنكسارات المرة بعد 2011 ظللت علي تواصل خافت و حزين معها أرقب مقاومتها الإخيرة للمرض و آخر ما بقي في ذهني لحظة تخليها عن الامانة العامة في إفتتاح مؤتمر الحزب الجمهوري الأخير ولحظة تكريمها في المؤتمر الأول للحركات الإجتماعية وبقيت في أدق زوايا نفسي العميقة لمسة الأخوة التي حمتني بها ميّة من السقوط في عدمية اليأس حين فجعت في رحيل أبي المفاجئ ونحن في أتون معركة المسار الإنتقالي في ايامه الأولي وحين لفني قبل ذلك الحزن خوفا علي شقيقتي حفظها الله وهي تقاوم السرطان كانت مية التي جبلت علي مقاسمة أصدقائها آلامهم علي قدر كبير من جمالية الروح المتفردة تنقل لي بقربها اليومي مستطاع البقاء واقفا في زمن أرادت فيه الأقدار أن أحيا بين أمل ثورة شعبي اليافعة و إنكسار ذاتـي الضعبفة لأجـــل ذلك أبكيك مية أختا ورفيقة لامست شغاف الروح فيّ و منحتها قوة العطاء مجددا و أحيت فيها إصرارا جامحا في حرية الترحال وطاقة التمرد والتعهّد بالأمانة ما استطعت إلي ذلك سبيلا.
لأن مية سردية رائعة في هذا الزمن التونسي الصعب فإني قد ألخص كل حياتها في روح مقاومة عمادها الوطنية قولا وفعلا و إنتصارا لفلسطين كما لو كانت ولدت في أحياء القدس القديمة ألخّصها في التمسك بالجمهورية خيارا يحمي الدولة من انحرافات الاستبداد وفي إعلائها لقيم المواطنة أفقا للمساواة بين المواطنين و لإنصاف النساء من كل حيف وظلم.
نجحت مية في أن تترجل فوق هذا الأرخبيل من القيم والقضايا بلا صعوبة ولا حساب زمن الإستبداد القديم و بعده زمن الإرهاب المهدد للجمهورية والمجتمع الآمن بين إنتخابين وزمن الدعوة لتوافق الأغلبيات الآسرة للتعدد بعد التقاء الخطين اللذين لا يلتقيان.
كثّفت سردية حياة مية إبنة مدرسة الجمهورية الأولي صورة المرأة الحـــداثية والحرة وغادرت الدنيا بعـــــد أن ساهمت في و ضع لبنات الجمهورية الثانية فإستحقّت ما منحه الناس لها من محبة و إحترام وإستحقت أن تدخل مقام الزعامة الخالدة رغم أنها لم تسع إليها وربما هــي اليـوم في هذا المقام لأنها عاشت ومـاتت وهي لا تفكر في نفسها أولا.
عصيبة هذه الأيام التي يعيشها الرفاق بعــد غيابك سيدتي الأمينة العـــامة الأولي في تونس الحديثة فقد فرقتنا أشياء كثيرة بعضها تعلمينه ولا فائدة من العودة إليه و بعضها الآخر لا نفهمه فنحن لا نلمح في الأفق صحوة النخب القديمة التي قتلها التكرار و الدوران حول الذات وترفض التلفت نحو شعاع الشمس يصعد من تحت من زخم العطاء الشبابي ومن زخم صمود المهمشين و ضحايا الفقر و الحيف و من صبر النساء في كل الفضاءات العمومية المسطحة و الصّعبة في وجه فشل السياسيات الإقتصادية المجوّعة وفي وجه الذكورية المتسلّطة.
عصية هذه الأيام ونحن نستمر في خوض معركة الحقوق الفردية و الأساسية ونتطلّع لنهوض حضاري ينقلنا كتونسيين وعرب ومسلمين إلي مصاف المجتمعات الديمقراطية المؤمنة بعلوية حقوق الفرد أمام الجماعة و العشيرة و الأمة الصماء و لكن لا مفر فنحن تونسيون و تونسيات لا يزال يسري في عروقنا لقاح قولك الوصيّة... لا تخشون في الحق لومة لائم».
غدا نعود إلي معيشنا بعد لقائنا بأنفسنا وببعضنا وبك طيفا و روحا زاهدة عند ربها نعود وقد غيّر الدمع مجراه وصار كتوما نعود لنجمع من فوق سطح الأرض الحجر الضروري لنبي جسرين جسر يعبر به شتات شعبنا المقبل إلي نفسه وجسر نعبر به إليك جين تحل ساعتنا متي حلّت فلا نلقاك ونحن قد خناّ الأمانة.