وانطلق معها ماراطون متابعة المباريات والفرجة اليومية على أهم الفرق والمواجهات الساخنة – والملاحظة المهمة في الصديقات والأصدقاء المتابعين لكأس العالم أن العديد منهم ليسوا من متابعي كرة القدم وليسوا من المتيمين بالمواجهات الرياضية إلا أنهم يعطون لكأس العالم حظوة خاصة لتجدهم يتابعون اغلب المباريات بالكثير من الاهتمام والمتابعة. والبعض منهم وهم الغرباء عن شؤون الرياضة وكرة القدم تجدهم يتابعون المقابلات بكثير من الجدية ويحفظون أسماء أهم اللاعبين والمدربين عن ظهر قلب – نفس هذه الأسماء ستغيب عنهم أياما قليلة اثر نهاية المنافسات .
وقد حاولت في عديد المناسبات فهم هذه الظاهرة وهذا الاهتمام المفاجئ للعديد من الناس بكرة القدم وبصفة خاصة بمنافسات كأس العالم . وأريد أن أتقاسم معكم بعضها. وأولها أن كأس العالم لكرة القدم وهي التظاهرة الرياضية العالمية الأبرز إلى جانب الألعاب الأولمبية أصبحت الحدث الأبرز في العولمة التي نعيشها منذ سنوات . فكأس العالم تضع في نفس الوقت جزءا هاما من الكرة الأرضية معا ومهما اختلفت التواقيت الزمنية واللغة والتاريخ لمتابعة نفس الحدث الرياضي والتعايش معه بالكثير من الشغف والعشق – وهذه المنافسات والمباريات تفتح لشعوب الكرة الأرضية نافذة على العالم . فتجد مطالعاتهم في الصحف ونقاشاتهم أمام المباريات لا تقتصر على كرة القدم بل تتجاوزها لتشمل التاريخ والجغرافيا والمدن والسياسة . وهذا الانفتاح على العالم وعلى تاريخ الآخر وعاداته وصراعاته تجعل من كأس العالم الحدث الذي يجلب أكثر الاهتمام لدى الناس فيتابعونه بكل شغف كل أربع سنوات ويعزفون عن كل الأحداث الرياضية الأخرى خلال السنة .
العنصر الثاني والذي يفسر هذا الاهتمام والعشق والوله عند الناس بكأس العالم يجد تفسيره في العلاقة الهامة والقرب بين كرة القدم والعالم الواسع للعلاقات الاجتماعية والسياسية . وقد ازدادت هذه العلاقة قربا والتصاقا على مدى السنوات لتصبح كرة القدم وعالمها عبارة عن المرآة التي تعكس العلاقات الاجتماعية وتناقضاتها وهذا الالتصاق والقرب بين كرة القدم وآمال الناس وأحلامهم كما انكساراتهم جعل منها اللعبة الشعبية الأولى في العالم ويفسر الشغف الكبير والوله الذي تحظى به على مستوى العالم .
لقد تطرقت إلى هذه المسألة في عديد المقالات جمعتها مؤخرا في كتاب أسميته «Football rêve de gosse صدر عن دار نقوش عربية للصديق المنصف الشابي . كما تطرقت لعلاقة الكرة بالسياسة من خلال بعض المقالات التي أصدرتها في هذا الركن من جريدة المغرب وجمعت جزءا منها في كتاب أسميته « ورقات في عالم متقلب» وصدر مؤخرا عن دار محمد علي للصديق النوري عبيد .
سأعود في هذا المقال لنفس الموضوع حول العلاقة بين كرة القدم والسياسة وتناقضات العلاقات الاجتماعية بمناسبة كأس العالم من زاوية مختلفة . وهذه الزاوية الجديدة هي الكتاب الذي أصدره احد أهم قادة انتفاضة الشباب في ماي 1968 وهو دانيال كوهين بنديت Daniel Gohen Bendit أو داني الأحمر «Dany le rouge» كما كان يسميه اغلب الشباب الثائر في تلك الأيام. وهذا الكتاب بعنوان sous les crampons .. la plage : Foot et politique mes deux passions» أو « تحت الأحذية .. الشاطئ -الكرة والسياسة : ولهي وعشقي « عن دار نشر Robert laffont الباريسية . والعنوان هو محاولة لتحويل إحدى شعارات انتفاضة ماي 1968 «sous la pavés la plage ..» أو «تحت الرصيف أو البلاطة .. الشاطئ» ويرمز هذا الشعار إلى قناعة الشباب الثائر في تلك الأيام إلى انه تحت المجتمعات الرأسمالية وجشعها واستغلالها يوجد الأمل في بناء مجتمع بديل ومغاير يحمل البسمة والأمل .
لكن قبل الحديث عن محتوى الكتاب سأقول بعض الكلمات عن داني الأحمر وسبب اختياري لهذا الكتاب للحديث عن كأس العالم – داني هو احد أهم قادة انتفاضة الشباب في ماي 1968 وهو من أصل يهودي هرب والداه من ألمانيا إلى فرنسا أثناء الحرب العالمية الثانية مع تصاعد اعتقال اليهود من طرف القوات النازية . وولد داني في فرنسا وبقيت العائلة هناك
بعد الحرب أين بدأ دراسته ودخل إلى الجامعة حيث سيكون له شأن كبير في الحركات الشبابية . لكن المسألة الهامة التي يجب الإشارة إليها أن داني كوهن بنديت وبالرغم من عيشه في فرنسا لم يقم بالإجراءات الضرورية للحصول على الجنسية الفرنسية وبقي محافظا على الجنسية الألمانية .
وسيبدأ داني الأحمر عمله السياسي في جامعته نانتير قرب باريس حيث سيكوّن مجموعة سياسية سيطلق عليها حركة 23 مارس وستركز عملها على النضال ضد المبادئ التقليدية للمجتمعات الأوروبية والقوانين البالية آنذاك كالتي تمنع الذكور من دخول مبيتات البنات في الجامعة – و إلى جانب هذه الاهتمامات المجتمعية فسيكون لهذه المجموعة حضور كبير على المستوى السياسي حيث ستقوم بتحركات كبيرة لمناهضة الحرب في فيتنام ثم ليصبح قائدها داني الأحمر قائد واهم زعماء الثورة الشبابية لماي 1968.
وستقوم السلطات الأمنية الفرنسية بإيقاف داني الأحمر وستأخذ قرارا بطرده ومنعه من دخول التراب الفرنسي .
وستكون لوزير الداخلية الفرنسي آنذاك كلمة لتشريع طرد داني بنديت إلى بلاده ألمانيا حيث سيقول في تفسيره هذا القرار «Mais ce n’est qu’un juif allemand» أي «ماهو إلا يهودي ألماني» وستعود هذه الجملة بالشباب إلى التاريخ الأوروبي المظلم ومعسكرات الموت التي نظمتها النازية لتطبيق «الحل النهائي» على اليهود فخرجت المظاهرات في فرنسا مطالبة بعودة داني الأحمر تحت شعار «Nous sommes tous des juifs allemand» أو نحن كلنا يهود ألمان».
وسيعود داني الأحمر إلى فرنسا في المنتصف الثاني للسبعينات وسيساهم في ظهور حركة الخضر في ألمانيا وفرنسا وسيصبح احد نواب الخضر لأكثر من عشر سنوات في البرلمان الأوروبي حيث سيدافع عن قضايا الحريات في بلادنا وسيقف إلى جانب الحركة الديمقراطية في تونس في أصعب فترات الاستبداد والى جانب انغماسه وانخراطه في العمل السياسي فالمعروف عن داني هو غرامه وشغفه بكرة القدم .
وقد جاء كتابه الصادر منذ أيام للحديث عن هذا الوله والحب. وفي الوقت الذي كان ينتظر فيه الجميع أن يصدر داني الأحمر كتابا للحديث عن خمسينية الثورة الشبابية التي كان احد قادتها راوغ الجميع كاللاعبين الذين يعشقهم وأصبح صديق العديد منهم لإصدار كتاب عن كرة القدم وعشقه منذ الصبا لللعبة الشعبية الأولى .وقد طالعت الكتاب بسرعة نظرا لأسلوبه الشيق وكتابته السهلة . فهو عبارة عن استحضار لذكريات داني الأحمر في بطولات العالم لكرة القدم ولقاءاته بأهم اللاعبين والمدن والبلدان التي زارها لمتابعة بعض المقابلات .
وتكمن أهمية هذا الكتاب مقارنة بالعديد من الكتب التي صدرت بمناسبة كأس العالم في جانبين مهمين .
الجانب الأول يخص النظرة والقراءة التي يقدمها لداني الأحمر لتطور كرة القدم وعلاقاتها مع الواقع السياسي والاجتماعي . أما الجانب الثاني فيخص مساره الفكري والسياسي وخياراته في ميدان كرة القدم وعشقه لبعض اللاعبين والفرق والمدن التي جسدت في فهمها لكرة القدم الرؤيا الثورية والمتمردة التي حملها داني بنديت للمجتمع منذ صباه والى يومنا .
ففي الجانب الأول اي النظرة لكرة القدم يقوم داني بنديت بنقد عميق وفي بعض الأحيان جارح للعديد من المثقفين الذين يعتبرون كرة القدم أفيون الشعوب وهي التي الهت الناس عن اهتماماتهم السياسية والاجتماعية .ويشير في عديد الأماكن من هذا الكتاب الى معاناته من اجل الدفاع أمام المثقفين والمناضلين اليساريين عن عشقه وحبه لكرة القدم. وقد أشار إلى التأفف والامتعاض الذي كان يجابه به من المثقفين عند دفاعه عن كرة القدم .
ويعتبر داني أن كرة القدم هي عبارة عن مرآة تعكس آمال وأحلام الناس وحتى انتكاساتهم . وهذه العلاقة العضوية المتينة بين كرة القدم والعلاقات الاجتماعية والاوضاع السياسيبة جعلتها ترتقي الى الصدارة في الرياضة وتصبح اللعبة الشعبية الأولى في العالم . وهذه القراءة ليست بالجديدة بل قدم عديد الباحثين والمتابعين لشأن كرة القدم الكثير من الدراسات التي تسير في نفس الاتجاه.
إلا انه أهمية كتاب وتحليل داني بنديت تكمن في قراءته لأهمية ثورات الشباب في 1968 وتأثيرها على كرة القدم . فهذه الثورات التي طالبت بالحرية ونادت بالتمرد على التقاليد البالية في المجتمعات الرأسمالية أثرت بطريقة مباشرة على كرة القدم لتعرف اللعبة الشعبية الأولى ثورة على عديد المستويات المستوى الأول يخص بعض القوانين التي تنظم كرة القدم المحترفة وبصفة خاصة علاقة اللاعبين مع فرقهم . وكانت هذه القوانين تجعل اللاعبين بمثابة العبيد لفرقهم وتحد من حريتهم وانتقالهم من فريق إلى آخر . وقد دخل اللاعبون في تلك الثورات في تحركات وإضرابات هامة من اجل الدفاع عن حريتهم . فكونوا نقابات وجمعيات خاضت عديد النضالات من اجل تغيير القوانين البالية –وكان لهم ذلك غداة الثورات الاجتماعية في نهاية الستينات لتعرف هذه القوانين تغييرات جذرية أعطت للاعبين الكثير من الحرية وساهمت في تغيير ظروف انتقالهم من فريق إلى آخر .
كما كان لهذه الثورات تأثير كبير على طرق اللعب فتراجعت طرق اللعب الجامدة لتفتح مجالا هاما للحركة والفنيات التي قلبت رأسا على عقب تكتيكات لتفتح المجال للعب الجميل والخلق والإبداع في المربع الأخضر . فعرفنا منذ نهاية الستينات فريق البرازيل والذين أصبحوا لكل العالم راقصي السامبا بقيادة الساحر بيلي والذين انتصروا في كأس العالم لسنة 1970 في المكسيك بعد دورة مثيرة ومباراة نهائية وصلت قمة في إبداع ضد المنتخب الايطالي .
كما ستعرف هذه السنوات كذلك الفريق الهولندي الأسطوري لاجاكس أمستردام بقيادة يوهان كرويف والذي سيهيمن على الكرة الأوروبية في بداية السبعينات وسينتصر في ثلاث كؤوس أوروبية متتالية . كما ستمكن طريقة اللعب الهولندية والمسماة بكرة القدم الكلية أو Foot Ball total المنتخب الهولندي من الهيمنة على الكرة العالمية في السبعينات بالرغم من هزيمتين متتاليتين في نهائي كاس العالم سنة 1974 أمام ألمانيا وفي نهائي 1978 أمام الأرجنتين تحت أنظار جنرالات الأرجنتين . وسيسافر يوهان كرويف إلى برشلونة في اسبانيا لتصبح طريقة اللعب هذه إحدى خصوصيات هذا الفريق إلى يومنا هذا.
إذن كانت لثورات الشباب وربيع الحرية والتمرد اللذين أتت بهما تأثير مباشر على كرة القدم التي ستصبح مجالا للإبداع والخلق والإمتاع لملايين المتفرجين والمتابعين عبر العالم .إلا أن هذا الهامش من الحرية لن يتواصل . فستستعيد الرأسمالية قوتها وغطرستها مع الثورة النيوليبرالية منذ منتصف الثمانينات لتأتي على هامش الحلم والحرية . ولن تقتصر الثورة المضادة على المجال السياسي والاقتصادي بل ستمتد كذلك إلى ميدان الكرة التي ستعرف تراجع اللعب الجميل والحرية في المربع الأخضر وصعودا للتكتيكات الجامدة والمقيتة والتي ستبعث فينا الملل والقلق . ويعطي الكاتب مثالا لهذه الكرة الفريق الألماني الذي مرنه فرانز بيكنباور والذي فاز بكاس العالم في ايطاليا سنة 1990 وانتصر في النهائي على الفريق الأرجنتيني بقيادة مارادونا بهدف لصفر سجله المدافع الأيسر بريمي من ضربة جزاء .
وكان هذا الفريق في قمة التنظيم والتنسيق وأصبح على غرار الالة الألمانية غابت عنها الأحاسيس والإبداع . ويعطي مثالا آخر لفريق البرازيل سنة 1998 والذي انهزم في النهائي أمام فريق الديكة الفرنسي ليكون هذا النهائي بداية انطلاق أسطورة زيدان . وسيربط هذا التحول في لعب الفريق البرازيلي والانتقال من الكرة الجميلة بالفطرة والمرور إلى محاولة تقليد الفرق الأوروبية بهمينة دونغا Dunga كلاعب وقائد فريق ثم كممرن .
ويخصص الكاتب في هذا المجال العديد من الصفحات لدخول رأس المال واغداق الاموال وانتصاب منطق الربح السريع والذي سيصبح المنطق المهيمن في كرة القدم مع ظهور أرقام خيالية لمنح انتقال اللاعبين من فريق لآخر وأجورهم .
يعطي هذا الكتاب صورة لتطور كرة القدم وارتباط هذا المجال وتأثره العميق بالتغييرات السياسية والتحولات الاجتماعية الكبرى .والى جانب هذه القراءة الطويلة في تاريخ الكرة يقدم لنا داني الأحمر جولة مع أهم اللاعبين الذين عرفهم واثروا فيه أو في كرة القدم واذكر من هؤلاء اللاعبين نجوم فريق فرنسا لكأس العالم 1958 والذين انهزموا في الدور النصف النهائي أمام فريق البرازيل والذي برز فيه ابن الثمانية عشرة ربيعا والذي سيصبح منذ ذلك اليوم بيلي الأسطورة العالمية لكرة القدم وسيحكي عن لقاءاته مع فونتان Just fontaine الذي ساهم في خلق نقابة اللاعبين المحترفين وراموندكوبا نجم الفريق .
كما سيتحدث الكاتب عن بوشكاس نجم الفريق المجري والذي انهزم في كأس العالم سنة 1954 في سويسرا أمام المنتخب الألماني . كما سيشير إلى لجوء كل لاعبي الفريق إلى الخارج بعد دخول الجيش الأحمر لضرب انتفاضة الشعب المجري .
الكتاب زاخر بهذه الشخصيات واللاعبين الذين كان لهم دور كبير في تطور اللعبة . ولن نتفاجأ إذا كانت لقاءات وصداقات داني الأحمر مع اللاعبين الذين جسدوا مثله روح التمرد والثورة في ميدان الكرة – وضمن هذه القائمة نجد نجم فرنسا وفريق سانت ايتيان في السبعينات دومينيك روشتو Rocheteau واللاعب الأسمر لفريق بنفيكا ولفريق البرتغال اوزبيو –ونجد كذلك اللاعب مارادونا .
إلا أن اللاعب الذي خصه داني بنديت بجزء هام من الكتاب هو اللاعب الكبير سوكراتاس Socrates نجم المنتخب البرازيلي وقائده في الثمانينات والى جانب إتقانه اللعب وفنياته العالية فقد كان سوكراتاس مثقفا ومناضلا سياسيا ضد الديكتاتورية العسكرية في بلاده . وقد كان سوكراتا قائدا ونجم فريق كورنتياس Corinthians البرازيلي والذي له تجربة عريقة في الديمقراطية المباشرة . فاللاعبون يختارون مدرب الفريق بالاقتراع كما يساهمون في اختيار طريقة اللعب .
في خضم كأس العالم يشكل هذا الكتاب قراءة ممتعة فمن خلال العودة إلى تاريخ كرة القدم واستحضار بعض اللاعبين الكبار والدور الكبير الذي قاموا به يدعم الكاتب الرأي القائل بالعلاقة العضوية بين الكرة والتحولات السياسية والاجتماعية لتصبح المرآة العاكسة لهذه التطورات . وهذا الدور جعل كرة القدم اللعبة الأكثر شعبية في العالم .