تخطي الحدود وفرض حق العودة للشعب الفلسطيني . الشهداء بالعشرات والجرحى بالآلاف لكن هذا العنف الهمجي لآلة الحرب الإسرائيلية لم يمنع أبناء الشعب الفلسطيني من الصمود بصدورهم العارية لمواجهة الرصاص . وقد تزامنت هذه المجزرة مع الذكرى العشرين لوفاة شاعر العرب الأهم نزار قباني والذي غيبه الموت في 30 افريل 1998 في لندن وتم دفنه في دمشق حيث كانت جنازته مهيبة شارك فيها كل السوريين من كل الفئات الاجتماعية لشكر الشاعر وعرفانا له على مساهماته في إذكاء الوجدان والشعور العربي بصوره الشعرية البليغة والمؤثرة .
وكان نزار أحد رواد الحركة التجديدية في الشعر العربي منذ الخمسينات ولم يقتصر تمرد نزار الشعري فقط على القوالب الشعرية التقليدية بل تجاوزها إلى المضمون حيث طرح في قصائده عديد القضايا المسكوت عنها والممنوعة في التراث العربي والإسلامي كالجسد والحب والمرأة وحتى الجنس – هذا التمرد على السائد ورفضه وثورته على الأفكار المهيمنة في المجتمعات العربية وإن سببت الكثير من المشاكل لنزار قباني مع الأنظمة السياسية القائمة حتى الثورية منها فقد جعلته يحتل مكانة خاصة لا فقط عند النخب بل كذلك عند عامة الناس ليصبح أحد الشعراء الأكثر شعبية في البلدان العربية .
وقد ازدادت هذه الشعبية اثر اختيار عديد المطربين الكبار قصائد نزار قباني لأغانيهم ومن هؤلاء المطربين نذكر منهم الأغنيتين المشهورتين للعندليب الأسمر «رسالة من تحت الماء» و«قارئة الفنجان» والتي لحنهما محمد الموجي وأغنيتين لكوكب الشرق أم كلثوم «أصبح عندي الآن بندقية» و«رسالة عاجلة إليك « لحنهما محمد عبد الوهاب ولم يقتصر اللجوء إلى نصوص نزار قباني على عبد الحليم وأم كلثوم بل شمل كذلك نجاة الصغيرة والتي غنت له «ماذا أقول له» و«متى ستعرف كم أهواك» و«أيظن» و«أسالك الرحيل» من الحان محمد عبد الوهاب كذلك السيدة فيروز والتي غنت له من الحان عاصي الرحباني «وشاية» و«لا تسألوني ما اسمه حبيبي» ولن يقف اهتمام المطربين بنصوص نزار قباني عند الجيل القديم بل حتى الجيل الجديد سيجد في كلماته وأشعاره منبعا للإبداع والغناء – فغنت له ماجدة الرومي «بيروت ست الدنيا» و»كلمات» وسيدخل نزار قباني إلى أفئدة وقلوب شباب اليوم خاصة عن طريق المطرب كاظم الساهر الذي جعله أحد أهم ملهميه. فغنى له نصوصا صعبة المراس ليجعل منها من انجح الأغاني على الساحة الفنية العربية ومن ضمنها «زيديني عشقا» و«إني خيرتك فاختاري» و«مدرسة الحب» و«قولي احبك» و«صباحك سكر» و«يوميات رجل مهزوم» وغيرها من المقطوعات والأغاني الراقية والتي ساهمت في إنقاذ الذوق العام في العالم العربي في السنوات الفارطة أمام تصاعد الرداءة والتفاهة .
تزامنت هذه المجزرة الجديدة للجيش الصهيوني مع الذكرى العشرين لرحيل الشاعر نزار قباني. وهذا التزامن دفعني إلى الرجوع إلى أشعار ونصوص نزار قباني .
وبصفة خاصة السياسية منها والناقدة بعنف للوضع العربي .فنزار لم يكن شاعر الحب والعشق والنساء فقط بل كان كذلك شاعر اليأس والإحباط والهزيمة القاتلة التي نعيشها في الوطن العربي .
واهتمام نزار قباني السياسي وكتاباته الشعرية الملتزمة ستبدأ مع هزيمة 1967 والزلزال الذي أحدثته لا فقط في المجال السياسي العربي بل كذلك في الوجدان والمخيال العربي وستحدث هذه الهزيمة رجة في قلب الشاعر المرهفة لتنتج إحدى أهم النصوص الشعرية السياسية في الساحة العربية.وستنطلق هذه الملحمة الشعرية المنغمسة في القضايا السياسية بقصيدة «هوامش على دفتر النكسة» والتي صاغها مباشرة اثر هزيمة 1967. ثم ستتوالى القصائد والدواوين السياسية اذكر منها ديوان « أشعار خارجة عن القانون» الصادر سنة 1972 وديوان «قصائد مغضوب عليها» الصادر سنة 1986 وديوان «ثلاثية أطفال الحجارة» والتي خصصها لأطفال الحجارة أبطال الانتفاضة الأولى والصادر سنة 1988 ثم ديوان «السيرة الذاتية لسياف عربي» والذي قام فيه بنقد لاذع للأنظمة الاستبدادية العربية والذي صدر سنة 1988 ثم ديوان «تزوجتك أيتها الحرية» الصادر سنة في نفس السنة وديوان «الكبريت في يدي ودولاتكم من ورق» والصادر سنة 1989 والذي شكل في رأيي إحدى أجرأ وأشد الأشعار نقدا للوضع العربي .
وقد تسبب هذا المنحى السياسي في أعمال نزار قباني في الكثير من المنع وفي غلق كل وسائل الإعلام الرسمية أمامه – إلا أن هذا التوجه الملتزم سيمكن نزار قباني من حظوة واحترام كبيرين على المستوى الشعبي ليصبح إلى جانب شعراء المقاومة محمود درويش وسميح القاسم الأصوات التي عبرت عن الرفض القومي للاحتلال والاستبداد .
تذكرت إذن بمناسبة هذه المجزرة الجديدة للجيش الإسرائيلي للمواطنين الفلسطينيين العزل الشاعر الكبير نزار قباني وقصيدتيه السياسيتين الأقرب إلى وجداني وهي «هوامش على دفتر النكسة «التي كتبها اثر هزيمة 1967 وقصيدة «متى ستعلنون وفاة العرب» والتي كتبها في منتصف الثمانينات أمام العجز العربي لمساندة الانتفاضة الأولى .
أحببت هاتين القصيدتين لما فيهما من جمالية الصورية والشاعرية والأحاسيس إلى جانب روح التمرد والثورة على الواقع العربي الرديء.أعدت قراءة القصيدتين هذه الأيام لاكتشف إلى جانب الميزات التي أشرت إليها ميزة أخرى وهي قدرة الشاعر لا فقط على قراءة الواقع بل كذلك على استقراء المستقبل والتنبؤ بتجلياته وانكساراته كما آلامه وكأن الشاعر كتبهما لتوه .
وتبدأ قصيدة «متى يعلنون وفاة العرب» بأبيات في غاية الجمال والرقة عن العالم العربي الذي يحلم به ويرنو إليه فيقول :
«أحاول منذ الطفولة رسم بلاد
تسمى – مجازا – بلاد العرب
تسامحني إن كسرت زجاج القمر ..
وتشكرني إن كتبت قصيدة حب
وتسمح لي أن أمارس فعل الهوى
ككل العصافير فوق الشجر ..
أحاول رسم بلاد
تعلمني أن أكون على مستوى العشق دوما
فافرش تحتك صيفا عباءة حبي
وأعصر ثوبك عند هطول المطر ..»
إذن هذه هي البلاد التي يحلم بها الشاعر – بلاد يطيب فيها العيش ويحلو فيها العشق والحب . إلا أن هذا الحلم سرعان ما يتلاشى ويغيب أمام الواقع المفعم بالهزيمة والانكسارات – فلا يجد أمامه مجالا إلا لنعي هذا الحلم ليقول في قصيدة –هوامش على دفتر النكسة» :
«انعى لكم يا أصدقائي اللغة القديمة
والكتب القديمة
انعى لكم ..
كلامنا المثقوب كالأحذية القديمة ..
ومفردات العهر والهجاء والشتيمة
انعي لكم .. انعى لكم
نهاية الفكر الذي قاد إلى الهزيمة»
وقد اهتم نزار قباني بجانب هام من هذا الواقع العربي الرديء والهزائم المتتالية التي عرفتها الأنظمة العربية وبصفة خاصة الوطنية منها منذ 1967- وهذه الهزيمة أذنت لنهاية حلم الحرية الذي حملته الحركة الوطنية ليتحول إلى كابوس استبدادي وقمعي سيدفن معه أحلام الشباب وآمالهم – ولعل أول هذه الأحلام هو حلم تحرير فلسطيني والذي تحول إلى أمل كاذب وبعيد المنال – ويشير نزار قباني في «هوامش على دفتر النكسة» إلى أسباب هذه الهزائم ليقول :
« إذا خسرنا الحرب لا غرابة
لأننا ندخلها ...
بكل ما يملك الشرقي من مواهب الخطابة
بالعنتريات التي ما قتلت ذبابة
لأننا ندخلها ..
بمنطق الطبلة والربابه»
والبارحة كاليوم لم تتغير الأحوال ليبقى العرب على عجزهم للتصدي لآلة الحرب الإسرائيلية أو على الأقل لدعم الشعب الفلسطيني – يتواصل العجز والانكسار ليتواصل معه مسلسل العنف والقتل بدون قيود . ويصلنا صوت نزار قباني من بعيد وكأنه معنا اليوم ويقول في قصيدة «متى يعلنون وفاة العرب»
«أنا منذ خمسين عاما
أراقب حال العرب
وهم يرعدون، ولا يمطرون ..
وهم يدخلون الحروب ولا يخرجون ..
وهم يعلكون جلود البلاغة علكا
ولا يهضمون ..»
وللخروج من هذا الواقع القاتل ومن هزائمنا المتتالية لا يرى الشاعر من حل سوى الانفتاح على العالم للخروج من الانغلاق والعزلة المقيتة فينادي في «هوامش على دفاتر النكسة» :
« خمسة آلاف سنة ..
ونحن في السراب
ذقوننا طويلة
نقودنا مجهولة
عيوننا مرافئ الذباب
يا أصدقائي :
جربوا أن تكسروا الأبواب
أن تغسلوا أفكاركم وتغسلوا الأثواب
يا أصدقائي :
جربوا أن تقرؤوا كتاب..
أن تكتبوا الحروف والرمان والأعناب
أن تبحروا إلى بلاد الثلج والضباب
فالناس يجهلونكم .. في خارج السرداب
الناس يحسبونكم نوعا من الذئاب»
لكن هذه الهزائم المتتالية والانكسارات لم تدفع نزار قباني إلى الإحباط بل حملت قصائده بعدا ثوريا والكثير من التمرد والحلم من اجل تغيير الواقع – فأنهى قصيدة «هوامش على دفتر النكسة» بكلمات تحمل هذا الأمل ليقول
«نريد جيلا غاضبا ..
نريد جيلا يفلح الأفاق
وينكش التاريخ من جذوره...
وينكش الفكر من الأعماق
نريد جيلا قادما
مختلف الملامح ..
لا يغفر الأخطاء .. لا يسامح ..
لا ينحني ...
لا يعرف النفاق ..
نريد جيلا ..
رائدا ..
عملاق ..»
وكأن كلمات نزار قباني كان لها صدى لدى الشباب العربي فظهرت أجيال عديدة قاومت الاستبداد والاستعمار من الشباب المتمرد في نهاية الستينات إلى مناضلي الانترنت والثورات العربية ومناضلي العودة في كل الأراضي الفلسطينية هم مواصلة لهذه المسيرة الكفاحية لشعوبنا وجاؤوا لتأكيد وعلى خلاف ما كتبه نزار قباني انه من الصعب الإعلان عن وفاة العرب طالما هناك شباب يواصلون زرع بذرة التمرد والثورة والانتصار لقيم العدل والحرية والتحرر .