والتبادل التجاري والثقافي نجد فترات ومراحل هامة من الصراعات والحروب الدموية والتي تركت تأثيراتها إلى اليوم في هذه العلاقة وجعلت الخوف يشوبها إلى اليوم .ومن هذه المراحل الدموية والمليئة بالعنف والهلع نذكر مرحلة الحروب الصليبية في العصر الوسيط والتي تركت جرحا مؤلما في ذاكرتنا الجماعية .كما يمكن أن نشير كذلك إلى الحقبة الاستعمارية في العصر الحديث والتي حاولت خلالها البلدان الأوروبية فرض سيطرتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية ببلداننا وإلحاقنا بدورتها . وتصاحبت هذه الهيمنة الاستعمارية مع سياسة قمعية لكسر كل محاولات الرفض والصمود في بلداننا.
وهذه العلاقة المتوترة والحادّة أحيانا والمنفتحة أحيانا أخرى خلقت اهتماما فكريا لمحاولة فهم الآخر وإشكالياته وطرق تفكيره .وقد ظهرت في الغرب تيارات فكرية وفنية وثقافية هدفها دراسة الشرق وبناه الفكرية والثقافية والسياسية وهو ما اصطلح على تسميته الاستشراق أو «orientalisme» وقد ظهرت هذه التيارات منذ العصر الوسيط لتدافع في البداية عن المسيحية في مواجهة الإسلام . إلا أنها تطورت مع التاريخ لتشمل مجالات فنية وثقافية وفكرية وفلسفية عديدة .وقد اشتهر الاستشراق في عديد المجالات لعل أهمها والتي عرفها الناس هي المجال الفني واشتهر عديد الرسامين اذكر منهم اوجان دولاكروا (Eugène Delacroix) وبنيامين كونستان jean joseph Benjamin-constant والكسندر روبتزوف Alexandre roubtzoff وغيرهم.
وقد رسم هؤلاء الساحات والنساء والحمامات وعديد الأماكن الأخرى وأكدوا في أعمالهم الفنية صورة الشرق الهائم في أجواء ألف ليلة وليلة والبعيد عن أجواء الحداثة الأوروبية والعالم الجديد الذي بدأ يبرز تحت تأثير الثورات السياسية والصناعية وفلاسفة الأنوار .
في ميدان العلوم الاجتماعية والإنسانية يمكننا تقسيم الاستشراق إلى ثلاث مدارس واتجاهات كبرى - الاتجاه الأول يهم مجموعة الباحثين والأساتذة الذي درسوا الشرق والإسلام وتشبعوا بتاريخ المنطقة العربية والإسلامية وعملوا على فهم وقراءة ديناميكيتها وصيرورتها التاريخية بطريقة علمية وبمنهجية جدية .وقد لعب هؤلاء المستشرقون دورا كبيرا من الناحية العلمية وساهموا مساهمة كبيرة في إعادة اكتشاف مراحل هامة من تاريخنا وإعادة كتابتها وصياغتها -والى جانب النزاهة العلمية فقد ارتبط هؤلاء المستشرقون بعلاقة صداقة واحترام وحتى وله لجزء منهم بالعالم العربي والإسلامي. ومن بين هذه الفئة من المستشرقين يمكن أن نذكر بعض المؤرخين كماكسيم رودنسون .
الاتجاه الثاني من الاستشراق هو الاتجاه الذي يرى في الشرق الإسلامي العالم السحري الذي فقده بعد انتصار الحداثة وفلسفة الأنوار في الغرب. وعند نظرهم للشرق يحافظ هؤلاء المستشرقون على رؤية انطباعية فيها الكثير من الحنين لعالم ما قبل الحداثة بما فيه من هيمنة للفكر الديني وعالم الخرافة والقراءات المابعدية وحتى السحرية .ولئن لا يحمل هذا الاتجاه نظرة عدائية للعالم العربي والإسلامي فإن نظرته وقراءته لنا تتميز بالانطباعية التي لا تمكنه من قراءة التطورات والديناميكية التي يعيشها عالمنا .
أما الاتجاه الثالث فهو يجمع عديد المفكرين والباحثين والذي يسعون من خلال نقدهم اللاذع للعالم العربي والإسلامي إلى التأكيد على علوية الآخر الغربي. وقد أكد هؤلاء الباحثون على مر التاريخ أن العالم العربي والإسلامي عاجز عن دخول عالم الحرية والعقل – فهنالك خصوصية تجعل من هذا العالم حبيس عالم الخرافة والعنف وعدم احترام الآخر – وقد شرّعت هذه القراءات كل محاولات الهيمنة الغربية على مدى التاريخ وأعطت للحملات الاستعمارية غطاءا سياسيا وإيديولوجيا .فالحروب الاستعمارية من هذا المنطلق تهدف إلى إخراج الآخر من تأخره ومن سيطرة قانون الغاب عليه وإدخاله إلى عالم الحضارة والحرية الذي لن يقدر على دخوله لوحده- وقد ساهم العديد من هؤلاء المستشرقين في إعطاء غطاء
للحروب الأخيرة كحرب العراق. ومن بين هؤلاء المستشرقين نذكر برنار لويس Bernard Lewis ولعل السمة الأبرز عند هذه الفئة المرور السريع من موقع الأستاذ الجامعي والباحث إلى مواقع سياسية عدائية تجاه العالم العربي والإسلامي. وقد عرفت هذه الاتجاهات الكثير من النقد ولعل أهم قراءة نقدية هي التي قام بها ادوارد سعيد في كتابه الصادر في نهاية السبعينات في نسخته الأصلية الانقليزية تحت عنوان «الاستشراق» وقد قام سعيد في هذا الكتاب بقراءة نقدية جذرية للاستشراق واعتبر مفكريه في تواصل مع الفكر الكولونيالي الذي يؤكد على علوية وتفوق الحضارة الغربية على كل الحضارات الأخرى وبصفة خاصة الحضارة العربية الإسلامية والتي تبقى رهينة العنف والهمجية والتوحش .ودعا سعيد إلى الخروج من الفكر الكولونيالي وبناء أنماط تفكير جديدة منفتحة على الآخر وعلى تجربته السياسية والثقافية .
عرف كتاب «الاستشراق « لإدوارد سعيد نجاحا منقطع النظير وكان وراء بروز دراسات وحتى تيارات فكرية في العلوم الاجتماعية نقدية لآراء وأفكار الاستشراق وعملت على فتح الدراسات على تجارب الآخر والخروج من مقولة هيمنة وعلوية الآخر الغربي على العالم .
إلا انه وبالرغم من هذا النقد وظهور وتطور العولمة والتي ساهمت في فتح العالم الغربي على الآخر فان التيارات الاستشراقية بقيت هامة وفاعلة لا فقط في الأوساط الجامعية بل كذلك في المجال السياسي.
وفي هذا المقال أريد الإشارة إلى كاتبة وباحثة في العلوم الاجتماعية تلعب دورا هاما عند المستشرقين وتعتبر إحدى آخر أيقوناتهم بمناسبة صدور كتابها الجديد حول تجربتها الفكرية والسياسية- وأريد الحديث عن الكاتبة بات يور أو Bat Yéor والكتاب الجديد صدر بفرنسا منذ أيام بعنوان «L’autobiographie politique» عن دار نشر مغمورة اسمها les provinciales وتكمن أهمية هذه المفكرة في كونها أصبحت المرجع الفكري لأكثر المستشرقين وبصفة خاصة للحركات السياسية اليمينية المعادية للعالم العربي والإسلامي .فعلى سبيل المثال أشار الروائي الفرنسي المثير للجدل ميشال هولباك Michel Houellebecq في روايته الأخيرة soumission والذي أثار الكثير من النقد حيث تنبأ فيه بفوز مرشح من حزب إسلامي في الانتخابات الرئاسية في فرنسا سنة 2022.وقد أشار الروائي في الصفحة 157 في الرواية الصادرة في جانفي 2015 « أن تنبؤات بات يور لم تكن مجرد أضغاث أحلام بل ستصبح حقيقة وسيهيمن المسلمون على أوروبا العجوز» ومكن هذا الكتاب الذي عرف نجاحا جماهيريا كبيرا بعد أن تجاوزت مبيعاته النصف مليون نسخة في فرنسا لوحدها الكاتبة بات يور من الخروج من النطاق الجامعي الضيق للدراسات الشرقية لتصبح معروفة على المستوى الجماهيري .ومن ذلك الوقت أصبح العديد من صناع الرأي والقرار والعديد من الأحزاب السياسية اليمينية في أوروبا يشيرون إليها ويؤكدون على أهمية آرائها بالرغم من غلوها .
فمن تكون بات يور وما هي أهم آرائها ؟
بات يور هي مصرية من عائلة يهودية ولدت في القاهرة سنة 1933. وقد عاشت تطورات هذه الحقبة العصيبة في تاريخ مصر المعاصر من وصول الجيوش النازية بقيادة رومل للحدود المصرية في الحرب العالمية الثانية والهلع والخوف من أن يقع تحويل الجالية اليهودية الى معتقلات الموت في أوروبا .كما ستشهد القاهرة مظاهرات ضخمة سنة 1945
وستعرف أملاك الجالية اليهودية الكثير من الاعتداءات والتخريب.وستتواصل حالة التوتر بين الجالية اليهودية ومختلف مكونات الشعب المصري لتعرف تأزما اكبر بعد بعث دولة إسرائيل سنة 1948.
وستصل هذه الخلافات أوجها سنة 1954 بعد الاعتداء الثلاثي على مصر من قبل فرنسا وإسرائيل وبريطانيا على اثر تأميم القنال .وستكون هذه الخلافات وتوتر العلاقة بين الجالية اليهودية والشعب المصري وراء هجرة اغلب أعضائها نحو أوروبا أو إسرائيل .
وستأخذ عائلة بات يور طريق الهجرة سنة 1957 لتستقر في بريطانيا وهناك ستواصل دراستها الجامعية في كلية لندن في علم الآثار .ثم ستواصل دراستها في جامعة جنيف لتستقر هناك.واثر انتهاء دراستها الجامعية ستتخصص في البحث والكتابة عن شؤون وتاريخ الأقليات المسيحية واليهودية في الشرق الأوسط . ومنذ ذلك الوقت ستتخلى عن اسمها الرسمي وهو جيزال ليتمان – عورابي Gisèle Littman orebi لتختار اسما مستعارا بات يور وهو يعني بنت النيل باللغة العبرية لتمضي به كل مقالاتها وأبحاثها وكتبها .
ستكون لهذه المرحلة العصيبة التي مرت بها في شبابها والخوف والهلع الذي عاشته الجالية اليهودية في مصر خاصة بعد الإعلان عن دولة إسرائيل ومساهمتها في الاعتداء الثلاثي على مصر تأثير كبير على مواقف بات يور وتحاليلها وتموقعها السياسي وعوض أن تحملها هذه التجربة الذاتية الصعبة إلى مزيد من الدراسة والتحليل وأخذ المسافة الضرورية التي يتطلبها كل عمل علمي فقد قادتها إلى اخذ مواقف عدائية ضد البلدان العربية والتي ستعبر عنها في البداية في بحوث جامعية ثم في نصوص أكثر فجاجة وعداءا.
إذن هذه هي بات يور وتجربتها الشخصية. لكن المهم في رأيي هي المواقف والرؤى التي دافعت عنها خلال مسارها العلمي والسياسي وبالرغم من كثرة كتاباتها ومساهماتها فانه في رأيي يمكن لنا تلخيص تأثير بات يور العلمي والسياسي في مساهمتين أساسيتين .
• المساهمة الأولى هي نظرية «الذّمية» أو «Dhimmitude» والتي طورتها وصاغتها في كتاب صدر سنة 1980 تحت عنوان:
«Le Dhimmi Profil de l’opprimé en orient en Afrique du Nord depuis la conquête arabe».
أو «الذّمي – صورة المضطهد في الشرق وإفريقيا الشمالية منذ الفتح العربي» وأمام عودة بات يور إلى واجهة الإحداث فقد تمت إعادة طباعة هذا الكتاب وصدر منذ أيام عن نفس دار النشر «les provinciales» – ماذا تقول بات يور في هذا المؤلف ؟ في الحقيقة تعود بالدراسة إلى موضوع ليس غريبا عنا لكنه جديد في المجتمعات الغربية والتي اكتشفته عن طريق كتاب بات يور وهو قضية الحماية التي أعطتها مختلف الدول والإمبراطوريات الإسلامية للأقليات من حاملي الكتاب أي المسيحيين واليهود.وتشير بات يور في كتابها إلى أن النظام الذّمي ولئن قدم حماية للأقليات فانه اعتبرهم مواطنين من الدرجة الثانية لاحق لهم في حمل السلاح في إعادة بناء أو إصلاح معالمهم الدينية ولبس إشارات خاصة بهم ولا يسمح لهم حتى برفع أعينهم أمام المواطنين الآخرين .وكانت هذه الدراسة نقطة انطلاق لنقد وحتى الهجوم العنيف واللاذع على المسلمين والعرب واعتبارهم لا يحترمون الأقليات ولا يضمنون حق الاختلاف والتنوع .
• المساهمة الثانية لبات يور صدرت في كتاب بعنوان: «عورابيا» أو «Eurabia» وصدر سنة 2006. وهذا الكتاب ليس من النوع الدراسي أو البحثي بل من النوع essai والتي كان لها الكثير من الجدل .وفكرة هذا الكتاب هي أن النخب اليهودية والمسيحية القديمة قد تحالفت منذ حرب 1973 مع النخب الإسلامية وهذا التحالف سيكون نتيجته نهاية أوروبا العجوز وسقوطها في فخ هيمنة العرب والمسلمين ويصبح بالتالي المسيحيون واليهود «ذّمييي» العصور الحديثة .
لقد أثارت كتب وتحاليل بات يور الكثير من النقد من قبل العديد من المفكرين والجامعيين - ففي ما يخص نظرية «الذّمية» أشارت العديد من الدراسات التاريخية أن البلدان الإسلامية والإمبراطوريات الإسلامية في العصر الوسيط كانت الدول الوحيدة التي وضعت نصب أعينها حماية الأقليات الدينية حتى وإن كانت ظروفها ليست بمستوى القوانين الحالية. وفي نفس الفترة كانت الدول الأخرى تخوض حروبا دينية ضروسة وتسلط أقوى أنواع العذاب على الأقليات الدينية الأخرى .أما بالنسبة لنظرية «عورابيا» فقد أشار عديد الباحثين إلى انه من فئة التحاليل التي تتبع نظرية المؤامرة ولا ترتقي إلى مستوى الكتب الجدية.
ولكن هذا النقد لم يمنع الاستشراق بصفة عامة وبات يور بصفة خاصة للعودة إلى دائرة الضوء لتصبح ايقونة ومرجع الحركات الشعبوية واليمينية المعادية للآخر مما يشير الى أن التعايش والتضامن يتطلبان مزيدا من العمل .