والصادر سنة 2015 عن دار النشر الباريسية «P.O.L» الكثير من الاهتمام عند الصحافيين الذين قاموا بتغطيته وأعطوه أهمية كبيرة - كما لقي الكتاب نجاحا جماهيريا منقطع النظير وعرف أرقام مبيعات كبيرة خاصة في - نهاية سنة 2015 - .
وقد قدّم الكتاب بطريقة حميمية المسيرة الفنية وأهم الشخصيات الفنية التي أثثت العصر الذهبي للأغنية العربية - فأعاد هذا الكتاب الى الذاكرة أصواتا خالدة كأم كلثوم وعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش ومحمد عبد الوهاب وغيرهم - وقد تناولت لمياء زيادة هذه الفترة وحياة هؤلاء الفنانين بكثير من الحبكة القصصية جعلتنا نتابع هذا المشوار الفني بكثير من الشغف - ولعل ما أسهم في نجاح هذا الكتاب الهام هو الربط والخيط الذي وضعته الكاتبة بين المسار الذاتي وحياة هؤلاء المشاهير والوضع السياسي العام الذي عاشه العالم العربي بعد نهاية الحقبة الاستعمارية وانتصار الحركة الوطنية - فقد واكبت هذه الحركة الفنية والعصر الذهبي للأغنية العربية صعود الحركة الوطنية وانتصارها وبناء دولة الاستقلال - فتغنى أغلب الفنانين بهذه الفترة وحملت أشعارهم وأغانيهم أحلام وآمال الناس في التحرر والانعتاق الاجتماعي - إلا أن هذه الموجة الفنية ستتأثر بهزيمة المشروع الوطني - بداية من هزيمة 1967 وانكساراته لتغيب في منتصف السبعينات وتفتح المجال واسعا منذ ذلك الوقت للرداءة والسقوط الفني والابداعي.
ولعل ما ساهم كذلك في التعريف والنجاح الجماهيري لهذا الكتاب هي الرسوم التي صاحبته فكانت النصوص قصيرة جدا ومصحوبة بعديد الرسوم واللوحات للفنانين وللأماكن التي عاشوا فيها أو المسارح التي قدموا عليها حفلاتهم واكتشفنا من خلال هذا الكتاب الجميل أن لمياء زيادة ليست قاصة فقط بل هي كذلك رسامة فعندما سافرت الى باريس بعد نجاحها في الباكالوريا في بيروت اختارت مواصلة دراستها في مجال الفن التشكيلي والرسم وعند انتهاء الدراسة بدأت حياتها المهنية بالرسم على الأقمشة لمصمم الأزياء المعروف Jean Paul Gaultier ثم واصلت عملها الفني برسم وتزويق الكتب قبل أن تبدأ رحلة فنية وتنظم بعض المعارض في عديد قاعات العرض في باريس.
إذن ساهم كتاب «يا ليل يا عين» في اكتشاف لا فقط القاصة لمياء زيادة بل كذلك الفنانة وجلب لها هذا الكتاب الكثير من الشهرة والتقدير، وتعود لمياء زيادة منذ أسابيع بكتاب جديد بعنوان «Ma très grande mélancolie arabe - Un siècle au Proche-Orient» أو «كآبتي العربية الكبيرة - قرن في الشرق الأوسط» عن نفس دار النشر الباريسية «P.O.L» ولم يلق هذا الكتاب نفس الترحاب في فرنسا من قبل الصحافة أو الرأي العام. وفي رأيي هذا راجع الى الخط السياسي الذي دافعت عنه لمياء زيادة في هذا الكتاب الجديد والذي انتصر لكل معارك التحرر وقدم كل قادة حركة التحرر الوطني والدولة الوطنية بكثير من الحب والاحترام فأشادت الكاتبة بعديد الشخصيات والأماكن والمعارك التي أثرت ولعبت دورا رياديا في تاريخنا المعاصر.
شكّل هذا الكتاب رحلة طويلة وللحقيقة ممتعة في تاريخ منطقتنا خلال القرن العشرين من خلال الرسوم واللوحات التي أعادت بعض الشخصيات وأحيت عديد المحطات المهمة في هذا التاريخ.
وقراءة هذا الكتاب مفيدة وهامة فالى جانب استعادة بعض الشخصيات والأماكن والأحداث فانه يدفعنا الى التفكير في الديناميكية والصيرورة التاريخية لهذا القرن المنقضي فمن خلال الرسوم والنصوص المقتضبة لكنها الهامة من الناحية السياسية نتمكن من استبيان القوى والعوامل التي ساهمت في تحريك التاريخ العربي في هذه المرحلة التاريخية المفصلية.
ويبرز هذا القرن في التاريخ العربي بكل تجلياته من خلال معاركه وأحلامه وآماله كما انتصاراته وانكساراته وتبرز الصيرورة التاريخية لمسيرة هذا القرن في منطقتنا مرتبطة بمعركة التحرر الوطني والخروج من الاستعمار المباشر وكل أشكال الهيمنة الخارجية - صاغت لمياء زيادة هذه المسيرة بالكثير من الذكاء والعطف والمحبة للقادة الذين حملوا هذا الهمّ وهذه المعاناة ولم تقتصر هذه القراءة على تقديم هذه الشخصيات بل ذهبت الكاتبة للبحث عن أثرهم عند الناس وفي التاريخ.
تختلط الصور في مسيرة هذا القرن وتتداخل الشخصيات منها من بقي حاضرا ليومنا هذا ومنها من غاب ولم تبق إلا بعض الملصقات لتحفظ ذاكرته.
ندخل كتاب لمياء زيادة كما نعبر متحف آمالنا التي غاب وضاع منها الشيء الكثير، نجد في هذا المتحف الكثير من الشخصيات المعروفة كأبو عمار وجمال عبد الناصر فالعقيد معمر القذافي والرئيس بورقيبة والملك فيصل والملك فاروق. لكن لمياء زيادة اختارت في هذه الرحلة المليئة بالذكريات والابتسامات والدموع والألم أن تتوقف عند عديد الشخصيات المغمورة خوفا من أن ينسى التاريخ مساهمتها ودروها.
فهنا نجد غسان كنفاني المثقف وابن عكا والذي أصبح من أبرز مناضلي الثورة الفلسطينية، اغتالته المخابرات الاسرائيلية في قلب بيروت في سن السادسة والثلاثين وفي هذه السنوات القصيرة كتب غسان القصة الطويلة والقصص القصيرة والدراسات الأدبية ومئات المقالات في الصحافة وخاصة في مجلة الهدف لسان حال الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وترك لنا أحلى رسائل حب كان بعث بها لغادة السمان القاصة والأديبة السورية.
ونذكر كلنا العلاقة المتينة التي ربطت غسان بلميس ابنة أخته هذه العلاقة دفعته الى الالتزام بكتابة قصة كل عيد ميلاد يهديها الى لميس وهذه العلاقة لن تنتهي بغياب غسان فلميس ستكون الى جانبه في السيارة عند انفجارها لتصاحبه للعالم الآخر.
نجد كذلك في هذه المجموعة من الشخصيات التي بدأ يأخذها النسيان علي حسن سلامة أو أبو حسن أو الأمير الأحمر كما لقبه العديد من الصحافيين وهو من أهم قادة الثورة الفلسطينية وأقرب المقربين للزعيم ياسر عرفات وتعتبره الموساد ومخابرات عديد الدول أنه العقل المدبر لمنظمة «أيلول الأسود» التي قامت بعملية اختطاف الفريق الأولمبي الاسرائيلي في ألعاب ميونيخ سنة 1972 وكان أبر حسن وسيما وجميلا الى جانب قوة شخصيته والتزامه السياسي، وزاد من شهرته وتعلق الناس به زواجه من جورجينا رزق ملكة جمال لبنان والتي ستصبح ملكة جمال العالم ولكن يد المخابرات ستطاله سنة 1979 في بيروت بعد أن وضعته على قائمة الشخصيات التي تسعى لتصفيتهم، وستبقى في ذاكرتنا صورة الزعيم أبو عمار في جنازة أبو حسن الى جانب ابنه الصغير والتي أعادتها لنا لمياء زيادة في هذا الكتاب.
قائمة الشهداء طويلة والمتحف الذي فتحت أبوابه لمياء زيادة يعج بالشخصيات التي عاشت انتماءها للوطن في دمها، لن أذكر كل الذين تحدثت عنهم، سأقف عند البعض فقط والى جانب غسان وأبو حسن سأشير الى وائل زعيتر ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في ايطاليا والذي طالته يد الاغتيال سنة 1972 أمام بيته في روما، وائل كان الى جانب نضاله السياسي أحد أهم مثقفي الثورة الفلسطينية، ترجم أهم الفلاسفة الفرنسيين والكتاب مثل Voltaire Rousseau وMontesquieu إلى اللغة العربية وكان صديق أهم المثقفين والفنانين الايطاليين كالروائي Alberto Moravia والمخرج Paolo Pasolin وعند اغتياله كان قد بدأ ترجمة ألف ليلة وليلة إلى اللغة الايطالية.
أسماء أخرى يمكن أن نضيفها الى هذه القائمة من القادة الذين تتيموا بحب هذا الوطن والانحياز لآماله ومنهم القادة كمال عدوان وكمال ناصر وأبو يوسف النجار والذين اغتالتهم المخابرات الاسرائيلية يوم 10 أفريل 1973 في بيروت وكان لهذا الاغتيال تأثير كبير وصدمة في كل السياسيين اللبنانيين وحتى ألد أعداء الثورة الفلسطينية كبيار جميل رئيس حزب الكتائب. ولا يقتصر هذا المتحف وهذه القائمة الطويلة لشهداء الوطن على القادة اليساريين بل نجد فيها القوميين والاسلاميين كالامام موسى الصدر وصلاح شهادة وغيرهم.
ومن خلال تقديم بعض صورهم وبعض حقائق حياتهم اليومية تمكنت لمياء زيادة من رسم صورة انسانية لهذه القافلة الطويلة من الشهداء الذين دافعوا عن قضايانا، لم يكونوا ارهابيين كما تسعى بعض وسائل الاعلام الغربية الى تصويرهم ولم يكونوا مصاصي دماء أو من هواة الموت بل كانوا محبين للحياة، تنزف قلوبهم حبا وعشقا لهذا الوطن، كانوا قادمين على
العالم بجمالهم وسحرهم وابتسامتهم العريضة والكثير من الالتزام السياسي والعشق حد الهوس لآمالنا وأحلامنا وربما هذا الهوس جعلهم لا يهابون الموت ويجابهونه بالكثير من التحدي.
لم تقتصر هذه الجولة مع لمياء زيادة على الشخصيات بل شملت كذلك المثير من الأماكن كانت محطات هامة في تاريخنا خلال هذا القرن، أذكر منها مقبرة شهداء الثورة الفلسطينية في بيروت ومعتقل الخيام والذي سعت القوات الاسرائيلية الى محوه عند اجتياح لبنان سنة 2006 وجامع الأمويين في دمشق والمسرح الذي ألقى فيه جمال عبد الناصر خطابه الشهير سنة 1956 للإعلان عن تأميم القنال، هذه الأماكن وأخرى كأماكن دفن أم كلثوم وجمال عبد الناصر في القاهرة تعرضت لها لمياء زيادة في هذا الكتاب وحاولت مسك سحرها.
إلى جانب الشخصيات والأماكن أضافت لمياء زيادة التواريخ والمحطات الهامة لتمكننا من رسم صورة عن روح هذا القرن وديناميكيته وصيرورته، وفي هذا العديد الكبير من المحطات التاريخية يمكننا في رأيي الوقوف على ثلاث محطات رئيسية الأولى هي تأميم القنال سنة 1956 اثر خطاب عبد الناصر في الاسكندرية وفي رأيي هذا التاريخ يتجاوز مصر ليشكل محطة محورية في تاريخ المنطقة العربية وهي بداية دولة الاستقلال وصعود المشروع الوطني الى السلطة، كانت فترة هامة أنهت الوجود الكولونيالي في أغلب البلدان العربية وعجلت بوصول الحركات الوطنية ليبدأ المشروع الوطني وأهمية هذه الانطلاقة تكمن أيضا في انخراط الشعوبوالتفافها حول قياداتها، حملت الحركة الوطنية أحلام الناس وكان الأمل كبيرا في دخول التاريخ من جديد بعد خروجنا المخزي إثر سقوط الأندلس في 1492 وتهميشنا لحقبة طويلة تواصلت لقرون.
كان الأمل والحلم كبيرين في قدرة الدولة الوطنية علي تحديث مجتمعاتنا وبناء بلدان عصرية ومجتمعات قادرة على حفظ كرامة الناس و إعطائهم حقوقهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
إلا أن هذا الحلم سرعان ما سيتحول الى كابوس وستكون هزيمة 1967 التي توقفت عندها لمياء زيادة نقطة انطلاق تراجع وسقوط المشروع الوطني، فستتحول أحلام الحرية والتحرر التي رفعتها الدولة الوطنية الى شعارات جوفاء ستغطي صعود آلة القمع ودولة الاستبداد.
وستتوالى منذ هذه الهزيمة انتكاسات الدولة الوطنية وستتوقف لمياء زيادة في كتابها على وفاة جمال عبد الناصر في 28 سبتمبر 1970 والجنازة المهيبة التي حضرها قرابة 6 مليون شخص وما انتابها من لوعة وحرقة من الناس العاديين على غياب هذا القائد الوطني.
هزيمة 1967 ووفاة جمال عبد الناصر أذنتا بنهاية حقبة في التاريخ العربي المعاصر وتراجع وانحدار المشروع الوطني وما سيتلوه من هزائم وانكسارات، وسيصبح الاستبداد وجه المشروع الوطني ووسيلته للبقاء في السلطة ومواصلة الهيمنة على دواليب الدولة.
هذه الهزيمة لن تكون نهاية التاريخ في المنطقة العربية بل بالعكس ستفتح المجال لبروز جيل جديد من المناضلين ومن حاملي آمال وأحلام شعوب المنطقة لفتح تجربة تاريخية جديدة، وستشهد نهاية القرن العشرين ظهور حركات جديدة من اليسار الجديد والثورة الفلسطينية والقوميين والاسلاميين ستوجه سهامها للأنظمة الاستبدادية وستفتح هذه التراكمات الطريق نحو ثورات الربيع العربي التي بالرغم من الهزات والعنف الذي شابها ستضع قضايا الحرية والديمقراطية في كنه وجوهر المشروع السياسي العريق.
بالرغم من بعض الهنات والنقد الذي يمكن أن نوجهه للمياء زيادة ولكتابها الجديد، فقد نجحت من خلال رسومها ونصوصها القصيرة في احياء الروح التحررية التي ميزت الوطن العربي خلال القرن المنصرم وقد نجحت من خلال الشخصيات التي توقفت عندها والأماكن والأحداث المهمة في نحت معالم وآمال وأحلام هذه المنطقة في الدخول في حركة التاريخ من جديد والخروج من التهميش والهيمنة اللتين ميزتا تجربتنا السياسية والذاتية منذ الخروج من غرناطة، رجعت لمياء زيادة بكثير من الحنين والعشق في كتابها لهذا التاريخ القريب للوقوف عند الهزائم والانكسارات لكن في نفس الوقت أشارت أن هذه العجلة لن تتوقف وفي رأيي فإن ثورات الربيع العربي هي حلقة جديدة في سلسلة متواصلة من النضالات هدفها فتح تجربة سياسية جديدة في المنطقة العربية تجعلنا نساهم الى جانب الآخرين في بناء أسس ومبادئ التجربة الانسانية وحضارة جديدة قوامها الحرية والديمقراطية واحترام الآخر والتنوع.