قهوة الأحد: وجوه من الإبداع (18) الناصر خمير : الفن والغوص في أعماق الروح

نواصل هذه الرحلة مع المبدعين الذين ساهموا في بناء المشروع الثقافي الوطني والذي كان لهم دور في دعم تميز وخصوصية

المشروع السياسي للنخب في بلادنا مقارنة بالمشاريع السياسية الأخرى في المنطقة العربية الإسلامية. وسنتوقف في هذه الرحلة اليوم مع فنان متميز ومتفرد على الساحة الفنية التونسية وهو الناصر خمير . أسباب تفرد وخصوصية هذا الفنان عديدة ومن ضمنها مسكه لعديد الفنون وتميزه فيها .فإلى جانب الكتابة والإخراج السينمائي كانت للناصر خمير تجارب فنية هامة أخرى في مجالات عديدة ومختلفة ومنها القصة والرسم ومسرح العرائس وفن الحكاية حيث قدم ألف ليلة وليلة على أهم المسارح الأوروبية ومع اكبر المسرحيين الفرنسيين.

لكن الذي شد انتباهي في مسيرة الفنان ناصر خمير انه من الفنانين التونسيين القلائل الذين عرفوا نجاحا واهتماما كبيرين على المستوى العالمي .فلم يعرف غيره من المبدعين التونسيين أو قلة منهم هذا الاعتراف والاهتمام.فأفلامه تم عرضها في عديد البلدان كما حازت على اهتمام التلفزات الأجنبية والتي قامت كذلك ببثها - كما أن أفلامه ورواياته تدرس في عديد الجامعات العالمية وفي عديد البلدان كالولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا والهند ومصر وغيرها من البلدان – كما يمكن الإشارة إلى أن أعمال وأثار الناصر خمير أثارت اهتمام النقاد في عديد البلدان وحظيت أعماله بتغطية من أهم المجلات

المختصة – كما لاحظت خلال تجوالي وسفري في عديد البلدان الأوروبية الاهتمام الذي تحظى به أفلام الناصر خمير عند عديد الأصدقاء المهتمين بالأعمال الفنية القادمة من الشرق .

والسؤال الذي يطرح نفسه بكل إلحاح هو أسباب ودوافع هذا الاهتمام الذي تحظى بها أعمال الناصر خمير على المستوى العالمي والذي يتجاوز بكثير الاستقبال الذي تعرفه في بلادنا ؟ أو بالأحرى سنحاول الإجابة في هذا المقال عن أسباب هذا الترحاب بأعمال هذا الفنان ؟
ولكن قبل محاولة الإجابة دعونا نعود إلى البداية والى نشأة الناصر خمير.

أخذت هذه التساؤلات وذهبت لملاقاة الصديق ناصر – وككل مرة كان الحديث معه شيقا وممتعا.
وزاد حضور زوجته نوارة من إمتاع اللحظة.وقد ساهمت في الحديث عن تجربة حبيبها وهي المثقفة والفنانة المطلعة على أسرار هذه المسيرة الإبداعية .
بدأنا الحديث وكان صوت الناصر خافتا على عادته ينساب بكثير من الهدوء ليستحضر أهم مراحل هذه التجربة المميزة.

وكانت البداية بالرجوع إلى مدينة قربة والتي شهدت مولد محمد الناصر خمير ذات يوم من سنة 1948.وكان السؤال الذي تبادر إلى الذهن هو كيف انتهى ابن جبال خمير على ضفاف المتوسط في هذه المدينة الساحلية. وحسب الرواية فالناصر هو سليل القبائل البربرية التي اجتازت المتوسط للشمال في إطار الفتوحات الإسلامية وبالتحديد إلى جزيرة صقلية.
وقد عادت هذه القبائل في القرن الخامس عشر اثر هجومات فريدريك الثاني والتي قامت بطرد المسلمين .

ولكن ينظر الناصر خمير لهذه الأصول التاريخية بمسافة كبيرة فقد ساهمت في رأيي وبدون أن يعي ذلك في تكوين مجاله الفكري ونحت معالم شخصيته الفنية .فستأخذ تجربة الطرد وخروجنا من التاريخ حيزا هاما في تفكيره وحتى تجربته الذاتية وستكون رحلته الفنية محاولة متواصلة لفهم أسباب هذه الهزائم المتتالية وخروجنا من التاريخ بالرغم من كوننا ساهمنا لفترة طويلة في إنارة مسيرته.فهذه التجربة – الصدمة ستؤثث تساؤلات الناصر خمير وحيرته الدائمة والتي سيعبر عنها في مختلف أعماله الفنية وسيحاول على خلاف النخب الحداثية المهيمنة في المجال الفكري والفني في سنوات ما بعد الاستقلال إيجاد الإجابات لا في العقل بل في إثراء الروح من خلال الغوص في أعماقها ومحاولة إيجاد الإجابات على حيرته الوجودية في ثناياها .

إذن ستكون الانطلاقة من مدينة قربة أين سيبدأ الناصر دراسته الابتدائية ثم سيواصل هذا المشوار الدراسي في عديد المعاهد الثانوية قبل أن يذهب إلى باريس سنة 1966 أين سيبدأ دراسته الجامعية بعد حصوله على منحة من منظمة اليونسكو. سينطلق الناصر خمير في مشواره الجامعي في دراسة الآداب قبل أن يتخصص في مجال الفن حيث سيهتم بالصور المتحركة ثم سيعد شهادة الدراسات المعمقة في مدرسة الدراسات العليا تحت إشراف الجامعي الكبير حول فن العرائس .

واثر الدراسة الجامعية ستنطلق رحلة الإبداع للناصر خمير بين فرنسا وتونس وعديد البلدان الأخرى وستراوح هذه الرحلة بين عديد الفنون دون اختيار مجال محدد. ولئن ابتدأت هذه الرحلة مع الأطفال فإنها ستشمل عديد المجالات الفنية والإبداعية الأخرى لترسم لنا مسيرة متميزة جعلت من الناصر خمير من أهم المبدعين في بلادنا .
نعود إذا إلى التساؤل الذي ارقنا منذ البداية ويهم أسباب هذا الاهتمام على المستوى العالمي بأعمال الناصر خمير وإبداعاته.

في رأيي هناك ثلاثة أسباب رئيسية تفسر هذه الحظوة والاهتمام والاستقبال الذي تعرفه أعمال الناصر خمير على المستوى العالمي والسبب الأول يكمن في رأيي في المراوحة التي ستعرفها أعمال هذا الفنان بين ثلاثة مجالات فنية أساسية وهي القصة والرسم والسينما.ويشير الناصر إلى انه منذ البداية كان مترددا بين هذه المجالات الفنية الثلاثة وهذا التردد لايزال موجودا إلى اليوم مما دفعه لمواصلة العمل في مختلف هذه المجالات .ففي ميدان الرسم والفنون الجميلة قام الناصر خمير بعديد المعارض والمشاريع بدأت بمعرض شخصي سنة 1973 في مدينة تونس .وقام في سنة 1974 برسم عديد اللوحات لإعادة إصدار ديوان الشاعر الألماني الكبير Rainer Maria Rilke بعنوان «Le champs de l’amour et de la mort» كما سيقوم برسم لوحات ضخمة سنة 1975 في مدينة طبرقة مع مجموعة من الأطفال وستتبع هذه المعارض عديد المعارض الأخرى اذكر منها معرض حول ألف ليلة وليلة في مركز جورج بمبيدو الشهير في باريس سنة 1980 ومعرض «60 اسم للحب « سنة 1992 والذي تجول في عديد المدن الأوروبية اذكر منها غرناطة وميلان وبروكسال وجنيف ولم تقتصر معارضه على المدن الأوروبية بل ستحتضن تونس عديد المعارض لعل أهمها معرض الرسوم والمنحوتات الذي سينظمه سنة 2004 في متحف الفن الحديث لمدينة تونس .
والى جانب الرسم والفنون التشكيلية سيخوض ناصر خمير تجربة الكتابة الروائية وسيصدر عديد الروايات والكتب اذكر منها «Le conte des conteurs» سنة 1984 عن دار La découverte في باريس و«Chahrazed» عن دار Mascaret سنة 1987 في فرنسا و«Paroles d›Islam» سنة 1995 عن دار النشر المشهورة Albin Michel

و«Le chant des génies» سنة 2001 عن دار Actes sud وLe livre des djins سنة 2002 عن دار Syros.

كما خاض ناصر خمير إلى جانب الرسم والقصة تجربة العمل السينمائي واخرج مجموعة من الأفلام الهامة اذكر منها «الغول» سنة 1977 ثم ثلاثية الصحراء والمتكونة من فيلم «الهائمون» سنة 1984 و«طوق الحمامة المفقود» سنة 1990 ثم «بابا عزيز» سنة 2005. وستتواصل هذه التجربة مع عديد الأفلام الأخرى لعل أهمها «البحث عن الشيخ محي الدين» سنة 2012 و«ياسمينة وأسماء الحب الستون» سنة 2013 و«من أين نبدأ؟» سنة 2015. وقد أنهى منذ أيام المراحل النهائية لشريطه الجديد بعنوان «همس الرمال».

وكأن غزارة إنتاجه في هذه المجالات الثلاثة لم تكفه فدخل ناصر خمير مجالات إبداعية أخرى كفن العرائس ثم قام بإعداد العرائس لعديد العروض كعرض «سندباد» الذي افتتح مهرجان قرطاج سنة 1978 وعرض «شكوى ياسمين» في نفس السنة والذي تنقل إلى كل المدن والقرى التونسية.
كما عرفت مسيرة الناصر خمير مساهمات في فن الحكاية حيث اعد عرضا اقتبسه من كتاب ألف ليلة وليلة وقد استدعته أهم المسارح الفرنسية لتقديم هذا العرض كالمسرح الوطني Chaillot سنة 1982 بدعوة من مديره المسرحي الكبير Antoine Vitez وكذلك على مسرح Beaubourg في عديد المناسبات.
إذن لعبت هذه المراوحة بين عديد كبير من الفنون ومجالات التعبير دورا هاما في بناء لغة خاصة ونحت منهج فني خاص بناصر خمير وكان وراء تفرد تجربته وخصوصيتها وهذا يفسر في رأيي جانبا كبيرا من الترحاب الذي لقيته هذه المسيرة الفنية على المستوى العالمي .

الجانب الثاني الذي يفسر اهتمام الآخر بهذه التجربة يخص في رأيي التساؤل السياسي والمركزي الذي يشقها وهو أسباب محنة وأزمة الحضارة العربية وخروجها المذل من التاريخ ولعل ثلاثية الصحراء تعبر عن هذه التساؤلات المحرقة التي تؤرق الفنان. والشريط الأول من هذه الثلاثية هو «الهائمون» ويحكي قصة معلم يقع تعيينه في إحدى قرى الجنوب التونسي على حافة الصحراء لتدريس اللغة العربية والنحو. لكن يكتشف أن القرية لا تمتلك مدرسة وفي هذا المجال القريب من الخيال سيكتشف صراع الناس من اجل التغلب على الصحراء كما سيعيش قصة حب مع ابنة شيخ القرية وفي هذا العالم الساحر بين الرمل والصحراء سيعود ناصر خمير إلى طرح تساؤلاته وحيرته أمام ما آلت إليه الحضارة العربية وسيواصل ناصر خمير نفس هذه التساؤلات في الشريط الثاني من الثلاثية وهو «طوق الحمامة المفقود» الذي ينطلق بجملة وفكرة هامة للمستشرق الفرنسي الكبير Jacques Berques الذي يقول «الأندلس نقطة انطلاق جديدة وتعيد طرح نفسها في كل العصور ونحمل معنا في نفس الوقت تراكم حطام الانكسارات من جهة والأمل من اجل انطلاقة جديدة» وتدور قصة هذا الشريط حول شخصية الزين وهو حامل رسائل الحب بين العشاق وينتظر في الأثناء عودة أبيه .كما يصاحب هذا الفلم الشاب حسن الذي يحطم بالحب وهو يتعلم خفايا الخط العربي . ويعود ناصر خمير في هذا الشريط إلى ابن حزم ليشير ويطرح تساؤلا جوهريا وهو فهم ما حدث لهذه الحضارة العربية والإسلامية والتي تفننت وانتشت بالحب في قرون تطورها ثم لترفضه في سنوات قحطها.

وسيتواصل الأرق والأسئلة الحارقة في الشريط الثالث بعنوان «بابا عزيز» وفي هذا الشريط سيصاحب الشاب اشطار جده بابا عزيز في رحلة عبر الصحراء سيلتقي فيها مع مجموعة من الدراويش ليفتح لنا نافذة حول التقاليد الصوفية والحكايات والأساطير التي تختزنها والتي تقترب من حكاية ألف ليلة وليلة.
ستكون هذه الثلاثية فرصة لناصر خمير للرجوع ومحاولة فهم أزمة الحضارة والمجتمعات العربية والإسلامية وأسباب خروجها من التاريخ وقد أثارت هذه القراءة وهذا الغوض في ثنايا الذات اهتمام الآخر ليعتبر الثلاثية من أهم الأعمال التي حاولت فهم أسباب هذا العجز العربي والإسلامي.

أما السبب الثالث والذي يفسر في رأيي الاهتمام الذي لقيته أعمال ناصر خمير في المجتمعات الأوروبية وعلى المستوى العالمي في طبيعة الإجابة التي قدمها حول تساؤلات الأزمة وكيفية وطرق الخلاص والعودة إلى التاريخ وفي رأيي ولئن قدم الناصر خمير بعض الإجابات في الثلاثية عن سبل الخروج من هذا النفق فإن الإجابة الضافية ستأتي في شريط «البحث عن الشيخ محي الدين» والتي ستشمل كل مستويات الفعل من الثقافة إلى اللغة والدين والحضارة واللغة والمعمار – فالخروج من أزمة العرب واندحار الحضارة الإسلامية لن تكون حسب الناصر خمير إلا بالعودة على طريقة الصوفية إلى الروح التي تم تغييبها لسنوات طويلة وينقد الفنان بطريقة فيها الكثير من الجمالية والشاعرية إجابة النخب الحداثية والتي دافعت منذ الحركة الوطنية ودولة الاستقلال أن العقل والعلم هما طريق الخلاص – ويؤكد في هذا الشريط وفي جملة مسيرته الفنية على ضرورة العودة إلى الروح التي تم تغييبها لسنوات طويلة لأنها الوحيدة القادرة على إدراك كنه الأشياء وإعطاء دور جديد للجمال القادر على إنقاذ العالم وفتح آفاق جديدة للحضارة الإسلامية .

هذه بعض الملاحظات عن مسيرة فنية متميزة وتجربة ذاتية دافعت على أهمية الفن في التعبير عن الذات وحاولت من خلال الغوض في أعماق الروح استنباط سبل الخروج من أزمة الحضارة العربية الإسلامية وفتح آفاق جديدة ورحبة لها .وهذا الطريق وهذه الاختيارات الفنية جعلت من تجربة الناصر خمير مسيرة متميزة ساهمت في بناء مشروعنا الثقافي وتفسر الاهتمام والترحاب الذي لقيته في العالم.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115