بل حتى الإنساني، حتى ليمكن القول في رأيي، بأن المجتمع التونسي يعتبر من حيث تركيبته القومية والاثنية واللغوية والدينية والمذهبية والطائفية، المجتمع الأكثر تجانسا وانسجاما في محيطه الإقليمي، وأحد أكثر المجتمعات تجانسا وانسجاما على الصعيد الدولي، وهو ما يحول موضوع «التنوع الهووي» (نسبة إلى الهوية) موضوعا ثقافيا وفكريا وسياسيا بامتياز.
إن أغلبية التونسيين الغالبة (تزيد عن 99 بالمائة) هم من الناحية اللغوية (اللسان) عرب مع وجود أقليات قليلة جدا (تقاس بالآلاف فقط) تتكلم اللغة الأمازيغية (نواحي مطماطة في قابس، وشنني والدويرات في تطاوين) أو الفرنسية، وهم من الناحية الدينية مسلمون مع وجود أقليات يهودية (في تونس العاصمة وجزيرة جربة) ومسيحية، وهم من الناحية المذهبية سنة مع وجود أقليات إباضية قديمة (مناطق جربة ومطماطة ونفزاوة) وشيعية جديدة (قابس، قفصة، سيدي بوزيد، قبلي...)، وهم من الناحية الفقهية مالكيون مع وجود أقلية «حنفية» (في تونس العاصمة أساسا) هم ما بقي من أثر الدولة العثمانية التي كانت تعتمد المذهب الحنفي مذهبا رسميا تقيد به مرافق التعليم والإفتاء والقضاء.
ومن هنا وجب الاعتراف بأن جدل الهوية في تونس خلال السنوات السبع الأخيرة ما بعد الثورة، كان خلافا لما جرى في بعض دول المنطقة، خصوصا تلك التي عصفت بها رياح الربيع العربي، جدلا «مفتعلا» استند إلى بنية معاصرة جديدة، لا بنية تاريخية عريقة، واعتمد على قاعدة فكرية/ايديولوجية وسياسية راهنة، وبهدف تحديد وجهة الدولة والمجتمع المستقبلية، أكثر مما هو السعي إلى الاعتراف بأقليات منكوبة أو معالجة تعددية منتهكة من قبل أحد أطرافها المستبدة.
• المبحث الأول: الجدل الثوري حول الهوية والديمقراطية
لقد جلبت حركة الربيع العربي معها ظواهر بدت للحظة متناقضة، فقد كانت من جهة ابنة عصرها، إذ رفعت شعاراتها آخر ما جادت به قرائح الفكر الإنساني، الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والكرامة والعدالة الاجتماعية، غير أنها من جهة أخرى شكلت مجالا لبعض حركات الإسلام السياسي لكي تحلم بتحقيق أحلامها الكبرى في إقامة «الدولة الدينية» واستعادة «الخلافة الإسلامية» في صيغتها «التاريخانية» المتخيلة، ومن هنا تحولت بعض البلدان العربية التي دكت رياح التغيير أنظمتها الاستبدادية، إلى مسارح لأبشع الفتن الداخلية والحروب الأهلية، حيث طفت إلى السطح جميع أنواع «الصراعات الهووية»، العليا والسفلى والظاهرة والباطنة، الدينية والطائفية واللغوية والمناطقية والمذهبية، وبدل أن يتجه التاريخ العربي إلى الأمام بدا وكأنه يعود أدراجه إلى الخلف.
في خضم هذا المحيط العربي العاصف بأسئلة الهوية، الأمر الذي شكل مبررا لدى البعض لإعادة توصيف «الربيع العربي» باعتباره «ربيعا عبريا» أو «خريفا عربيا»، برز الاستثناء التونسي مجددا، الذي امتنع عن مسايرة حركة «العودة إلى الوراء» وتحصن ضد «الفتن الداخلية والحروب الأهلية»، ونجح عند مروره من حالة الثورة (2011 -2013) إلى حالة الدولة، في الإجابة عن أسئلة الهوية المتفجرة، بشكل مبدئي نظريا (الوثيقة الدستورية)، في انتظار أجوبة عملية ابتدأت في التشكل (منذ 2014) مع التغيرات الثقافية والحضارية التي تحتاج إلى تمارين تطبيقية تسندها معالجات تشريعية وحركات فكرية وأخلاقية واجتماعية، تبدو البيئة التونسية اليوم حبلى بها، لعاملين اثنين أساسيين، مجال الحرية الملائم لنمو هذه الإرهاصات «الحداثية» والطبيعة التوافقية التي ميزت الشخصية/الذاتية التونسية عن سواها.
• مجال الحرية:
إن مجال الحرية هو بلا شك المجال الأكثر ملاءمة لإيجاد أجوبة مقنعة ومستدامة على أسئلة الهوية المطروحة، على الرغم من الطابع «المغامر» الذي قد يبدو لكثير من الحريصين على الدولة الوطنية والمؤمنين بضرورتها وأهمية الحفاظ على وحدتها، إذ لطالما استمدت الأنظمة الاستبدادية والتسلطية والشمولية شرعيتها من استدعائها للهواجس والمخاوف المعششة في العقل الجمعي، محذرة مما قد تجلبه الحريات من ويلات على تماسك المجتمعات ووحدة الدول، غير أن سيرة الأنظمة طيلة العقود الماضية أثبتت أن مزاعمها في الجواب لم تكن سوى تأجيل للقضايا المطروحة، أو ترقيع أو تخفيف للألم باستعمال الأدوية والحقن المسكنة، أما المعالجات الحقيقية فلا يمكن أن تجرى إلا في بيئة صالحة تتوفر على الشروط الضرورية وفي مقدمتها الحرية.
لقد شكل مجال الحرية الذي توفر كاملا للتونسيين بعد ثورة الحرية والكرامة (17 ديسمبر 2010-14 جانفي 2011)، هذه البيئة الصالحة لطرح الأسئلة المترسبة دون حواجز معيقة وبأكثر قدر من الوضوح والصراحة، وكانت الإجابات في الغالب مسارات تستهل بمرحلة «التوتر» ثم تمر إلى مرحلة «الصراع» لتنتهي غالبا بمرحلة «التوافق»، ففي جميع القضايا الكبرى التي قام التونسيون بطرحها طيلة السنوات السبع الماضية، اتسمت البدايات بكثير من التشنج والصراخ، لتتباين لاحقا الأطروحات والآراء والحلول المقترحة ويتصارع أصحابها فيما بينهم، كل طرف يحدث نفسه بفرض ما يعتقده صوابا وحقيقة، لتتعالى أصوات الحكمة والتسوية لاحقا، ويبحث الفرقاء في الخاتمة عن الحلول التوافقية المناسبة، التي ستحتاج وقتا لاعتمادها في أرض الواقع.
إن ما ناقشه التونسيون خلال سنوات قليلة من قضايا مصيرية وحاسمة لطالما أخمدت نيران طرحها بقوة الدولة وعنف السلطة، وفي مقدمتها أسئلة الهوية الحارقة، فاقت بكثير تلك التي عرضت للنقاش العام منذ قيام الدولة الوطنية العصرية المستقلة في 20 مارس 1956، وعلى الرغم من منغصات المرحلة الانتقالية المتقلبة والمتأزمة غالبا، فإن ما توصل إليه التونسيون من أجوبة حرة لهذه الأسئلة الشائكة، وقاموا بتدوينه في دستورهم المصادق عليه في 26 جانفي 2014، دستور الجمهورية الثانية، باعتباره «عقدا سياسيا» جديدا يؤطر حركة دولتهم و»ميثاقا غليظا» تستند إليه سيرورة مجتمعهم، فالثابت إذا أن الحرية هي لنمو الإنسان السياسي والحضاري كالمطر لسائر الكائنات حيث الماء أصل الحياة وشرط استمرارها السوي والصحي.
• الشخصية التوافقية
يشبه المؤرخ التونسي الهادي التيمومي الشخصية التونسية في كتابه «كيف أصبح التونسيون تونسيين؟» الصادر قبل سنوات قليلة، بـ»شخصية التاجر»، من حيث رغبتها الدائمة في توسيع هامش الربح مع استعدادها شبه الغريزي إلى التوقف والقبول بالحلول الوسطى أو الحلول التوافقية متى ما اقتربت الحالة من وضعية خطرة تهدد بتبديد رأس المال، فالتونسيون على اختلاف شرائحهم وفئاتهم يعرفون مسبقا طبيعة «اقتصادهم الإنتاجي» المرتبط بالعمل وقيمته، خلافا لما هو عليه الحال في عديد البلدان في جوارهم القريب والبعيد على السواء، حيث «اقتصاد الريع» و»الطفرة النفطية»، الذي يجعل شعوبها متطرفة أحيانا في سعي أطرافها إلى اعتماد «القوة» وسيلة أساسية لحسم الصراعات حول القضايا الكبرى، وعلى رأسها قضايا الهوية.
لقد عاش التونسيون سنوات صعبة بين 2011 و2014، عندما لاح شبح العنف «الأصولي» في أفقهم، فقد ظهرت جماعات إرهابية «قاعدية» و«داعشية» وغيرها، تخطط لإقامة «دولة ثيوقراطية»، وما رافق ذلك من صراع ايديولوجي وسياسي وإعلامي بين معسكرين متباينين في تصورهما لهوية الدولة والمجتمع، معسكر «حداثي علماني» ومعسكر «إسلامي ديني»، وصل ذروته في انقسام ساحة «باردو» (ساحة البرلمان) إلى قسمين يفصل بينهما حاجز حديدي يحرسه الجيش الوطني التونسي الذي حافظ على حياديته والتزم بوظائفه الدستورية، حتى توصل الفرقاء إلى حلول توافقية.
إن اهتداء التونسيين إلى آلية التوافق، هو الذي ساعدتهم على ابتكار الحلول المناسبة لإشكالياتهم الفكرية والايديولوجية والسياسية المستعصية، فآلية «الحوار الوطني» التي نال لأجلها الشعب التونسي جائزة نوبل للسلام سنة 2015، والتي كانت المدخل إلى صياغة دستور توافقي وقبلها تشكيل حكومة انتقالية (حكومة الحوار الوطني) قادت البلاد إلى انتخابات حرة ونزيهة ثانية في الربع الأخير من سنة 2014، تعد أبرز تجليات هذه الشخصية الميالة إلى الاعتدال والوسطية.
• المبحث الثاني: من الثورة إلى الدولة
يؤكد كثير من الباحثين الذين تابعوا الحالة التونسية باعتبارها نموذجا فريدا في ثورات الربيع العربي، على أن تونس دفعت الكلفة الأقل ثمنا لمسيرة الانتقال الديمقراطي، أي الانتقال من وضع الثورة على النظام الاستبدادي، إلى وضع الدولة ذات النظام الديمقراطي التعددي العصري، وهو الأمر العائد كما أسلفت الإشارة إلى عاملي الحرية المتوفرة والتوافقية المعتمدة، والقائد إلى تحقيق مجموعة من المكاسب الدستورية والقانونية الضامنة لأجوبة قابلة للاستدامة فيما يتصل بمسألة الهوية، متى ما سارت التحولات الثقافية الجارية وأداء المجتمع المدني الشريك وفقا للمسارات الإيجابية المأمولة واعتمادا على تراكمات تاريخية ايجابية للحركة الوطنية التونسية الإصلاحية التي يقارب عمرها اليوم القرنين من الزمان.
• المكاسب الدستورية والقانونية
لقد اعتمد الدستور التونسي الجديد الصادر في 26 جانفي 2014 بمصادقة 200 نائب للمجلس الوطني التأسيسي من مجموع 216، الكثير من المقاربات العصرية والمرنة في حل الإشكاليات المطروحة على الدولة والمجتمع، بشكل عام في قضايا الحريات والنظام السياسي، وبشكل خاص في قضايا الهوية التي تعنينا في هذه الورقة، ونكتفي في هذا الصدد بمثالين لها:
الأول يتعلق بموضوع الهوية العربية الإسلامية للبلاد، فقد أشار الدستور التونسي الجديد بخصوصها في الفقرة الثانية من ديباجته إلى ما يلي:
«تعبيرا عن تمسك شعبنا بتعاليم الإسلام ومقاصده المتسمة بالتفتح والاعتدال، وبالقيم الإنسانية ومبادئ حقوق الإنسان الكونية السامية، واستلهاما من تاريخنا الحضاري على تعاقب أحقاب تاريخنا، ومن حركاتنا الإصلاحية المستنيرة المستندة إلى مقومات هويتنا العربية الإسلامية وإلى الكسب الحضاري الإنساني، وتمسكا بما حققه شعبنا من المكاسب الوطنية...»
وكما تجدر الملاحظة، فقد جمعت الوثيقة القانوينة الأعلى في تونس بين البعد الوطني المحلي المتصل بهوية عربية إسلامية للبلاد يصر عليها التيار الإسلامي الديني، وبعد عالمي يتمثل في هوية إنسانية عصرية منفتحة ومرنة للبلاد يتشبث به التيار العلماني الحداثي.
الثاني يتمثل في تبني الدستور التونسي لمقاربة ثقافية متعددة الأبعاد، تجمع أيضا بين عناصر من الأصالة وأخرى معاصرة، وتضمن وجود هويات جزئية أو تكاملية مع هوية كلية رئيسية، وهو ما ورد في نص الفصل 42، ومضمونه:
« الحق في الثقافة مضمون . حرية الإبداع مضمونة، وتشجع الدولة الإبداع الثقافي، وتدعم الثقافة الوطنية في تأصلها وتنوعها وتجددها، وبما يكرس قيم التسامح ونبذ العنف والانفتاح على مختلف الثقافات والحوار بين الحضارات. تحمي الدولة الموروث الحضاري وتضمن حق الأجيال القادمة فيه».
• التحولات الثقافية ودور المجتمع المدني
لقد ساهمت فضاءات الحرية في صناعة مناخات مناسبة للتحولات الثقافية الممكنة، فما كان بالأمس القريب من المحرمات دخل اليوم في اختبارات حقيقية وحاسمة، ولم يعد إضفاء «القداسة» على المواضيع الأساسية، من قبيل مواضيع الهوية، محصنا لها من التناول العام. لقد أضحت أعقد الأسئلة وأكثرها إحراجا مطروحة في وسائل الإعلام وفي منتديات المجتمع المدني، وأصبح لجميع الظواهر من يمثلها ويتحدث باسم مصالحها ويدافع عن المعنيين بها، وهو ما يبشر – رغم التشنجات البادية للعيان- باستقرار علاجات وحلول لها، ذات قابلية للتجذر في بيئة جديدة أكثر تسامحا وتحضرا.
إن «المسألة الأمازيغية» مثالا، وسائر المسائل اللغوية والاثنية والطائفية والمذهبية عموما، التي كانت تثير انشغال القائمين على النظام عادة، لم تعد في تونس الراهنة من المحرمات أبدا، بل لقد تجاوزت القدرة على إثارة الموضوعات «الهووية» حدودا لم تستقر إلا لتوها في بلدان عريقة في ممارسة الحرية والديمقراطية، من قبيل «المسألة المثلية» و»الهوية الجنسية» إلخ، وهو ما ظهرت إرهاصاته تونسيا منذ مناقشة ديباجة الدستور الجديد الذي اعترف بحرية «الضمير» وأقرها.
لا شك أن التحولات الثقافية وحركية المجتمع المدني في تونس، في مناخ من الحرية وسعي إلى تكريس مبادئ التسامح ونبذ العنف والقبول بالآخر، تعتبر محددا في إنضاج جدل الهوية والديمقراطية في تونس، وهو ما يتطلع إليه بلد مغاربي وعربي وإسلامي من خلاصات أصيلة ومآلات عصرية، يرنو إلى إرساء تجربة حضارية ترنو إلى تأثيث ركن في بيت الإنسانية.
بقلم: خالد شوكات