المسرح والسينما والفنون الجميلة والموسيقى والقصة إلى الحركية الثقافية الهامة التي عرفتها بلادنا منذ عقود والتي ساهمت كما أشرت في دعم المشروع السياسي الوطني وتفردها مقارنة بعديد المشاريع الأخرى في المنطقة العربية والإسلامية ومن الشخصيات والمبدعين الذين قدمتهم هنا من عاش تحت الأضواء بفضل عمله ليصبح شخصية عامة معروفة ومشهورة.وهناك من اختار الابتعاد عن الأضواء والإعلام ليعطي لفنه كل وقته ولتبقى إبداعاته طريق تواصله الوحيدة والرئيسية مع جمهوره.
ضيفنا اليوم هو من هذا النوع الثاني من المبدعين واقصد الأستاذ والروائي والناقد والناشط الثقافي عبد الواحد براهم. وبالرغم من الدور الذي لعبه في الساحة الثقافية والإبداعية إلّا أنّه بقي مغمورا ولا يعرفه إلا المتابعون للشأن الثقافي وللكتابة الروائية.وربما يتحمل أديبنا جزءا من المسؤولية في بقائه خارج دائرة الضوء باعتباره اختار الاعتكاف للانغماس في عالمه الروائي السحري وللابتعاد عن عالم فقدت فيه الكتابة والكلمة قدسيتها ليفتح المجال للمادة والربح السريع. انه عالم غريب عن الذي كانت له فيه صولات وجولات عالم الستينات وسبعينات القرن الماضي الذي كان الأدب والشعر والنقاش الفكري الراقي مميزاته.
اخترت عنوانا لهذه المصافحة مع عبد الواحد براهم «قاموس البدايات» وهو استعارة من عنوان كتابه الأخير «مرايا متناظرة – قاموس ذكريات» والذي جمع فيه مقالاته الصحفية وصدر سنة 2016 عن دار سحنون للنشر – واختياري لهذا العنوان لهذا المقال لا يجد تفسيره فقط في هذه الاستعارة أو الإشارة بل كذلك لإيماني منذ اهتمامي بأعمال سي عبد الواحد براهم منذ سنوات الصبا بأهمية البدايات وتأثيرها الكبير على مشواره الثقافي والفكري.والبدايات لا تقف عند انتمائه الجغرافي وللحب المتيم الذي يحمله لمدينة بنزرت بل تمتد هذه البدايات إلى الفكر والثقافة والفلسفة لتشكل قاموسا نبع منه سي عبد الواحد طيلة عقود بدون ارتواء.
البدايات تنطلق من بنزرت المدينة التي تيّم بحبها وستكون مسرحا لأغلب رواياته وستؤثث بأزقتها وعالمها خياله وكتاباته. البداية كذلك ستكون مع العائلة والتي ولئن تكن عائلة كتب فإنها كانت عائلة فن وقريبة من الإبداع. ويشير عم عبد الواحد في احد الحوارات مع الجامعي أحمد الحمروني في كتابه «عبد الواحد براهم – روائيا ورحالة» والصادر عن دار سحر للنشر سنة 2013 إلى شباب العائلة الذين «هجروا الكتاب باكرا وشغفوا بالفن – فمنهم من صاحب الشيخ خميس ترنان ولازمه زمنا لحفظ المألوف وآخر حذق عزف الكمنجة والأكورديون وأسس ناديا فنيا» والبدايات كذلك ستكون مع عالم الحكايات وعالم الروايات الذي سيعرفه منذ سنوات طفولته الأولى ليكتشف عوالم سحرية ستؤثث مخزون الحكايات الذي سيرويها في إبداعاته – ويشير في نفس الحديث « لن أنسى ما حييت سهرات خالتي صلوحة قريبتنا التي تأتي بها المناسبات من تونس لتسحرنا بقصص وخرافات تتقن
عرضها ،وترويها بالتواشي والحواشي ،متباطئة في مواقف الحب ومناجاته مسرعة في مواقف الخوف والصراع، فإذا نحن مأخوذون إلى عوالم غريبة عجيبة، تغمرنا بالدهشة والأحلام دون ان نبرح ساحة البيت الكبير ودالية العنب المعرشة فوقه تتخللها بقع خفية من نور القمر».
البدايات أيضا ستكون في المدرسة الابتدائية ومع اكتشاف اللغة العربية وجماليتها وحساسيتها لتكون اداته للتعبير عن لحظات الأرق واختلاجات النفس. ويؤكد في نفس الحديث أن «هذه الميول التي هيأتها دائرة الأسرة تبلورت في فترة المدرسة الابتدائية على أيدي مدرسين حببوا إليّ اللغة العربية وأذاقوني موسيقاها وأسرار معانيها وفهم القرآن عوض حفظه ببغائيا ،واستخرجوا لي من التاريخ تجاربه الإنسانية الحية بطريقة تجمع بين التشويق والاعتبار»
والبدايات أخيرا ستكون مع الأدب الذي سيختاره عم عبد الواحد من جملة الفنون الأخرى ليكون مجال التعبير عن آماله وانفعالاته ولحظات فرحه وحزنه.
فيقول في كتابه «مرايا متناظرة – قاموس ذكريات» «هكذا أحببت الأدب وتلويناته المتوهجة وكانت النصوص التي تعلمتها في المدرسة ثم في المعهد ينابيع فرح وبهجة وبها ومنها اندفعت نحو الكتابة لأعبر عن ذاتي وما يجيش في نفسي من انفعالات ثم في مرحلة لاحقة ومع تقدم العمر – لتكون وسليتي للتأثير في الكون والمحيط وللدفاع عن قيم الحق والجمال» .
اذن ستكون هذه البدايات من مخزون الحكايات والانفتاح على الفن والموسيقى والشغف باللغة العربية والوله بالأدب الأسس التي سترتكز عليها تجربة عبد الواحد براهم الإبداعية .وستنطلق تجربة عبد الواحد براهم المهنية مع التعليم باكرا اثر تخرجه وفي مدينة بنزرت – إلا أن هذه الرحلة مع المدرسة لن تطول فسرعان ما سيطلبه مسؤولو وزارة الثقافة ويفتحوا له مجال المساهمة في بناء المشروع الثقافي الذي مازال في إرهاصاته الأولى وستكون نقطة البداية في مدينة بنزرت أين تحمل مسؤولية اللجنة الثقافية حيث أسس واشرف على نادي خميس ترنان للموسيقى
ثم ستأخذ المسيرة منحى وطنيا بعد دعوته للالتحاق بوزارة الثقافة أين سيتحمل عديد المسؤوليات من ضمنها الإشراف على نشر الكتب الثقافية في الشركة التونسية للتوزيع وغيرها من المسؤوليات في وزارة الثقافة ولم تقتصر هذه التجربة المهنية على الإدارة التونسية ووزارة الثقافة تحديدا بل امتدت كذلك إلى بعض المؤسسات الدولية كالالكسو أين اصدر مجلة التربية وكذلك مجال القطاع الخاص حيث كون شركة مهمتها تصدير الكتاب التونسي للخارج.وقد اصدر في هذا الإطار نشرية الكتاب التونسي وهي حوليات لتقديم الكتب الصادرة حديثا .وضمن هذه التجربة المهنية في العمل الثقافي فقد أدار سي عبد الواحد براهم إحدى دورات مهرجان أغنية البحر المتوسط في بنزرت.
والى جانب هذه التجربة المهنية المتعددة والمتنوعة في الحقل الثقافي فان أهمية تجربة سي عبد الواحد تكمن في مساهمته في بناء ودعم إلى جانب آخرين كثيرين الإرهاصات الأولى للأدب والقصة التونسية في فترة ما بعد الاستقلال وذلك من خلال ثلاثة منابر أساسية في هذه
الولادة – المنبر الأول هو اتحاد الكتاب التونسيين والذي تكفل بإدارته في سنواته الأولى – وقد ساهم هذا الاتحاد في السنوات الأولى في دفع العمل الأدبي ويتذكر سي عبد الواحد بكثير من الحنين مؤتمر اتحاد الكتاب العرب الذي استضافه اتحاد الكتاب التونسيين سنة 1973 والذي شهد مشاركة أهم الروائيين واهم الفاعلين في الحقل الأدبي العربي ويذكر منهم سهيل إدريس وجبرا ابراهيم جبرا وعبد الوهاب البياتي ويوسف السباعي وغيرهم .
أما المنبر الثاني فهو نادي القصة بالوردية وكان احد العشرة المؤسسين الأوائل ومن ضمنهم الشيخان البشير خريف ومحمد العروسي المطوي إلى جانب حسن نصر ويحي محمد وعزالدين المدني واحمد الهرقام ورشيد الغالي ومحمد المختار بن جنات وغيرهم.
وسيلعب هذا النادي دورا هاما في التعريف بالأدب التونسي ودعمه وخاصة من خلال لقاءاته الأسبوعية يوم السبت ثم من خلال مجلة قصص التي ستهتم بنشر أعمال أعضاء النادي في صفحاتها وسيعرف هذا النادي مشاركة أجيال كثيرة من القصاصين والأدباء التونسيين يذكر منهم سي عبد الواحد إبراهيم الأسود، ابراهيم بن مراد، احمد ممو محمود التونسي، سمير العيادي، رضوان الكوني، نافلة ذهب، عروسية النالوتي وغيرهم كثير .
أما المنبر الثالث فهو مجلة الفكر لصاحبها المرحوم محمد مزالي والتي عمل فيها سي عبد الواحد براهم نائبا لرئيس تحرير المجلة آنذاك الوزير السابق بشير بن سلامة لمدة ست سنوات في بداية السبعينات. وقد شكلت هذه المجلة منارة فكرية وأدبية وثقافية تجمع كل ما يصدر في الميدان الثقافي والفكري من بحوث ونقد ودراسات تاريخية وشعر وقصة.ولعل أهمية هذه المجلة تكمن في كونها فتحت أبوابها لكل الاتجاهات الفكرية في ذلك الوقت وخاصة مفكري وأدباء حركة الطليعة يذكر منهم الحبيب الزناد والطاهر الهمامي وعزالدين المدني والمنصف الوهايبي وغيرهم.
هذه المنابر الثلاثة أعطت لسي عبد الواحد براهم فرصة لرصد الإرهاصات الأولى للأدب التونسي وفهمها وقراءتها – وقد شهدت هذه الفترة بروز ثلاثة اتجاهات كبرى في مجال الأدب والقصة وهي الاتجاه الواقعي وهو مواصلة لنهج آباء الأدب التونسي كعلي الدوعاجي والبشير خريف ونجد فيهم حسن نصر ومحمد صالح الجابري وآخرين وكذلك الاتجاه الاشتراكي والذي تأثر بالأدب الروسي والواقعية الاشتراكية ثم الاتجاه التجريبي والذي تطور بتأثير من المدرسة الفرنسية والأدباء المجددين في تلــــك الفتـرة مثـل Alain Robbe Grillet وNathalie Sarraute ويشير سي عبد الواحد الى أن الساحة الأدبية شهدت على مر السنين تراجعا كبيرا للتيار الاشتراكي والتيار التجريبي ليحافظ التيار الواقعي على ريادته ودوره الأساسي في الكتابة القصصية في بلادنا.
ولكن مساهمة سي عبد الواحد في هذه البدايات لن تقتصر على النقد وبناء المؤسسات بل ستتجاوزهما لتطرق باب الكتابة والإبداع الأدبي ليكون حصادا أدبيا هاما يتمثل في مجموعتي قصص خمس روايات فازت اثنتان منها بجائزة ومسرحية وخمس قصص للناشئة فازت احداها بجائزة أدب الأطفال وأربع ترجمات .
وقد عرفت روايات سي عبد الواحد براهم الكثير من الاهتمام وخاصة «حب الزمن المجنون» والصادرة عن دار النشر تبر الزمان سنة 2000 و«قبة آخر الزمان» والصادرة عن منشورات المدينة سنة 2003 و«بحر هادئ..سماء زرقاء» عن عالم الكتاب سنة 2004 و«تغريبة احمد الحجري» عن دار الجمل في ألمانيا سنة 2006.
هذه بعض الشذرات في مسيرة كاتب ومثقف ساهم في البدايات ولعب دورا مهما في تشكل المشهد الأدبي في فترة ما بعد الاستقلال سواء بالنقد أو تحمل المسؤولية أو الكتابة – ولعل ما ساهم في نجاح هذه البدايات حسب سي عبد الواحد هو وجود الوزير صديق المثقفين وحامل النظرة المستقبلية لدور الثقافة في تأسيس المشروع السياسي التونسي وخصوصيته ومدنيته وهو الأستاذ الشاذلي القليبي .