قهوة الأحد: هل انتفى العنف في العالـم ؟

أنتمي لجيل له علاقة خاصة وحميمية بالكتاب والقراءة بشكل عام .لم تكن لنا نفس مجالات الترفيه عن النفس والتثقيف المتاحة اليوم كالشبكات الاجتماعية والألعاب.

وكانت التلفزة في بداياتها الأولى فكانت البرامج محدودة ومدة البث كذلك قصيرة.إذن بقيت مجالات محدودة للترفيه عن النفس خاصة في فترات العطل المدرسية.وكنا نراوح الوقت بين كرة القدم والاستماع للراديو أو الذهاب إلى قاعات السينما لمن كان منا يسكن في مدن مازالت فيها قاعات عروض سينمائية. وفي تلك الأيام كان عدد القاعات السينمائية أهم من

عددها اليوم ولم تشهد بعد هجمة المحلات التجارية والماركات الكبرى لتجعل منها ذكرى بعيدة وغير واضحة المعالم في أذهان البعض .فأخرجت هذه الحملات والهجمات للمحلات التجارية الحلم من مدننا لتعوضه باليات الربح والتحصيل السريع.
وفي جملة هذه المجالات المحدودة للترفيه كان للكتاب وللقراءة بصفة عامة موقع الريادة.فكنا نرتاد المكتبات العمومية لنحصل على الروايات والكتب الفكرية ونقضي أياما وخاصة الليالي في مطالعتها بل قل في التهامها.

إذن كانت علاقتنا مع الكتاب علاقة خاصة وتتميز بالنهم والكثير من الإدمان. وكانت كذلك العلاقة مع كل كتاب هي علاقة تختلف عن الأخرى. فهناك الكتاب الذي يفتح أمامنا مجالات كبيرة وعالما رحبا من العلم والمعرفة تجعلنا لا نتركه إلا بعد الانتهاء من قراءته وهناك الكتاب الذي يجيب عن بعض تساؤلاتنا وحيرتنا أمام العالم فننغمس فيه علنا نجد ما يشفي الغليل على الأقل بعض الإجابات عن رحلة الشك التي يعيشها كل الشباب. وهناك كذلك الكتاب الذي يستفزنا ويزعزع قناعاتنا وآراءنا ومواقفنا والذي نواصل قراءته للنهاية بالرغم من البلبلة الفكرية وحالة اللبس التي يدخلنا فيها.

والكتاب الذي سأتحدث عنه اليوم هو من النوع الأخير أي الذي يشكك في أفكار وقناعات اعتقدتها ثابتة ولا مجال لوضعها موضع التساؤل لسنوات طويلة.وهو للأستاذ الجامعي ستيفان بنكر (Steven Pinker) الذي يدرس علم النفس في جامعة هارفارد الشهيرة في الولايات المتحدة الأمريكية وهو بعنوان:

(La part d’ange en nous- Histoire de la violence et de son déclin)
أو «جانب الملاك الطاهر فينا – تاريخ العنف ونهايته» وقد صدر في نسخته الفرنسية منذ أسابيع في دار النشر الفرنسية Les Arènes .

وقد عرفت بعض مؤلفات الأستاذ ستيفان بنكر شيئا من الشهـرة في الولايات المتحـدة الامريكية و خاصة الكتاب بعنـوان «The blank Slate» والـذي تمـت ترجمته إلى الفرنسية سنة 2005 عن دار Odile Jacob تحت عنوان «comprendre la nature humaine» أو «فهم الطبيعة الإنسانية» .وقد بدأت مغامرة الكتاب الذي نحن بصدده بتعليق للكاتب على موقفه في الفايسبوك سنة 2007 تحت عنوان «ما يجعلني اليوم متفائلا ؟» وقد أجاب انه من جملة أسباب تفاؤله تراجع العنف في العالم.وقد أثار هذا التعليق العديد من ردود الفعل من قبل احد أصدقائه والعديد من متابعي صفحته والذين انتقدوا هذا الموقف واعتبروا أن العالم شهدا تطورا كبيرا للعنف وتراجعا للأمن وللاستقرار مع تصاعد الإرهاب في العالم والحروب في عديد المناطق من العالم.

وقد كانت حدة بعض الانتقادات دافعا لستيفان بنكر لبداية مشروع بحثي ضخم تواصل لعدة سنوات حول تاريخ العنف في العالم .قد ختمت هذه المسيرة البحثية بإصدار هذا الكتاب الضخم لأكثر من ألف صفحة الذي صدر في الولايات المتحدة الأمريكية .وقد عرف هذا الكتاب نجاحا متوسطا عند صدوره سنة 2001 ككل كتب ستيفان بنكر السابقة .وكان يمكن لهذا الكتاب أن يتناساه القراء بعد أكثر من ست سنوات من صدوره – إلا أن حادثة طريفة ستقع لهذا الكتاب منذ أسابيع ستعطيه حياة جديدة ليعود الى دائرة الضوء ويعرف نجاحا منقطع النظير لا فقط في أمريكا بل في كل بلدان العالم بعد ترجمته إلى عديد اللغات.ففي شهر ماي الفائت كتب بيل غايتس Bill Gates تغريدة على حسابه في تويتر يقول فيها أن كتاب ستيفان بنكر هو من أهم الكتب «الملهمة» التي قراها في السنوات الأخيرة .فأعطت هذه التغريدة حياة جديدة لهذا الكتاب الضخم والهام وليصبح احد أهم الكتب مطالعة في العالم.

لئن ساهمت هذه التغريدة لبيل غايتس في شهرة الكتاب فإنّ نجاحه الجماهيري يعود في رأيي إلى سببين هامين : الأول هو قيمته العلمية أمّا الثاني فهو انعكاساته السياسية والفلسفية.

فمن الناحية العلمية يعتبر هذا المؤلف الضخم احد أهم المؤلفات التي تمت صياغتها على مسالة العنف في التاريخ الإنساني .ومن ناحية المنهجية العلمية فقد ابتعد الباحث عن التحاليل والإنشائية وقام بعمل إحصائي كبير لضحايا العنف على مدى التاريخ الإنساني وقد تطلب هذا العمل الإحصائي جهدا كبيرا من قبل الباحث والعودة إلى عدد كبير من المراجع أشار إليها في أكثر من خمسين صفحة في آخر كتابه لتحديد عدد ضحايا العنف بكل دقة على مر التاريخ .

وهذا الجهد البحثي الكبير مكـن ستيفـان بنكر من الوصول إلى نتيجـة بحثية هامة أساسيـة وهي تراجع العنف على مر التاريخ لتدخل الإنسانية في فترة اسماهـا «La Longue paix» أو فترة سلم طويلة منذ سنة 1945 ونهاية الحرب العالمية الثانية.وهذه النتيجة فيها في رأيي جانب استفزازي كبير باعتبارها على خلاف وفي تناقض مع الرأي السائد اليوم في تنامي الصراعات والحروب والضحايا في النصف الثاني من القرن العشرين ثم منذ بداية هذا القرن.فقد عرفت هذه الفترة التاريخية العديد من المواجهات والحروب بدءا بالحرب الكورية اثر نهاية الحرب العالمية الثانية واقتسام كوريا إلى بلدين الشمالية والجنوبية.ثم جاءت حرب الفيتنام والالالف من الضحايا العزل تحت قنابل النابالم للجيش الأمريكي.ثم كانت حروب

التحرر الوطني في المستعمرات ولعل أهمها وأقساها وأشرسها هي حرب التحرير الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي والتي انتهت بأكثر من مليون شهيد.كما يمكن أن نشير أيضا إلى عديد الحروب التي عرفتها بلدان أمريكا اللاتينية والمواجهات بين الحركات الثورية المسلحة على الطريقة القيفارية والجيوش النظامية والتي عرفت عددا كبيرا من الضحايا.ثم نعود إلى حرب التحرر الفلسطيني والاعتداءات المتواصلة لإسرائيل والتها العسكرية وما خلفته من ضحايا تشريد في صفوف الشعب الفلسطيني .ثم ستأتي نهاية القرن معها بنوع جديد من المواجهات والعنف مع نمو الحركات الجهادية والإرهاب المتعلق بالدين.وستتطور هذه المواجهات إلى حروب طاحنة بعد ثورات الربيع العربي خاصة في سوريا وليبيا واليمن .

إذن لم تخل السنوات الأخيرة من حروب وأهوال وصراعات ومن الضحايا والخوف والرهبة إلا أنه بالرغم من هذه التطورات فإن ستيفن بنكر يؤكد أنه وبالرغم من هذا الاعتقاد الراسخ عند العديد فإن نتائجه البحثية الدقيقة والمرتكزة على إحصائيات ثابتة تشير وتؤكد إلى أن العالم دخل مرحلة سلم طويلة تراجع فيها مخزون العنف مقارنة بالمراحل التاريخية السابقة.
فحتى الحرب العالمية الثانية والتي خلفت ملايين الضحايا وكادت أن تعصف بالنظام الديمقراطي فانه حسب هــذا الكتاب خلفت عددا اقل من الضحايـا إذا قارنا بعدد سكان العالم ممـا خلفتـه حروب جنكيـس Genqis Khan – ويشير ستيفان بنكر إلى أن اعنف حرب في تاريخ البشرية هي الحرب الأهلية اثر ثورة An lushan في الصين ق 8م والتي عرفت 36

مليون ضحية أي سدس سكان العالم أي ما يمثل اليوم أكثر من مليار نسمة – كما رجع الباحث إلى الفترة البدائية وبداية التاريخ الإنساني ليشير إلى أن هذه المجتمعات عرفت الكثير من الصراعات والمواجهات وان نسبة ضحايا العنف في تلك العهود وصلت إلى %10 من إجمالي سكان العالم أي 1000 مرة أكثر من نتائج العنف في عالمنا اليوم.
إذن هذه هي النتيجة العلمية الأساسية لكتاب ستيفن بنكر وهي تراجع العنف في العالم ودخوله منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ومنتصف القرن العشرين في فترة سلم طويلة تراجع معها عدد الضحايا والقتل بصفة كبيرة ولم يعرفها تاريخ البشرية من قبل.

ثم يمر الباحث إلى تحليل وقراءة أسباب تراجع العنف على مر التاريخ البشري - وهنا يشير إلى ثلاثة أسباب أساسية كان لها دور أساسي في هذا الانتفاء التدريجي للعنف في العالم.السبب الأول هو بناء البناء التدريجي للدول على المستوى التاريخي والتي ساهمت في وضع قوانين لعبت دورا أساسيا في بسط النظام واحترام الناس للمؤسسات الجديدة التي سيقع بناؤها.كما عملت الدول تاريخيا كما أشار لذلك عالم الاجتماع ماكس فيبر إلى احتكار العنف واعتبار أن العنف الشرعي (La violence légitime) هو عنف الدول التي لا تقبل أي شكل أو أي نوع من أنواع العنف الأخرى.

أما السبب الثاني وراء تراجع العنف فهو ثورة الحداثة والأنوار والتي أسست لمجتمعات سياسية جديدة قوامها الديمقراطية وحقوق الإنسان واحترام الحريات الفردية.وقد عملت هذه المجتمعات على رفض العنف وإخراجه نهائيا من الفضاء العام.
والسبب الثالث وراء تراجع العنف هو التطور الاقتصادي الذي عرفه العالم وتطور المبادلات التجارية والمالية والتي ساهمت مساهمة كبيرة في هدوء العالم وخروجه التدريجي من دائرة العواصف والصراعات والحروب الطاحنة.

وأهمية هذا الكتاب لا تقف عند قيمته ونتائجه العلمية بل تتجاوزه إلى الانعكاسات السياسية والفلسفية – فقد وجه نقدا لاذعا إلى الفلاسفة والسياسيين الذين يعتبرون أن الحداثة والأفكار الديمقراطية قد قادت العالم إلى نهايته بفعل تصاعد الحروب والضحايا والإرهاب.وهؤلاء المفكرون والذين نطلق عليهم déclinistes أو المدافعين عن فكرة تراجع الإنسانية وحياد العالم عن مبادئ التضامن يعبرون في كتاباتهم عن حنينهم لعالم الأمس الذي كان يأتمر فيه الإنسان بالمبادئ الالاهية .

يؤكد ستيفن بنكر في هذا المؤلف انه وخلافا للرأي السائد فإن المجتمعات الأولى لم تكن مسالمة بل كان لها مخزون كبير من العنف وعدد من الضحايا يفوق ما تعرفه مجتمعاتنا اليوم.وتراجع العنف هو نتيجة لظهور الدولة وتطور الديمقراطية التي كبحت جماح العنف وشدت وثاقه.

لقد شد كتاب ستيفان بنكر انتباه القراء وعرف نجاحا منقطع النظير لقيمته العلمية وكذلك لنتائجه السياسية والفلسفية – فعلى خلاف بعض الرؤى والتحاليل فقد تمكن هذا الكتاب الضخم من تدعيم فكرة تطور المجتمعات البشرية عبر التاريخ وخروجها من الأطوار البدائية الأولى العنيفة إلى مراحل تاريخية تقلص فيها العنف وتغلبت المدنية على الجانب الوحشي وفي بعض الأحيان الهمجي وهذا التطور هو نتيجة لتغلب جانب الملاك الساكن فينا على الجانب الشيطاني .

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115