حديث الأنا: ما الحياة إلا هزء ونفضان الشخصيّة التونسيّة: في كلّ لحظة الأنا آخر

الشخصيّة مفهوم عصيب، معقّد. من الصعب تحديد الشخصيّة. من العسر ضبط ما لها من صفات ومن خصائص. الشخصيّة شبكة من مكوّنات عدّة، متداخلة،

تشدّ بعضها بعضا، متغيّرة. هي شبكة خصال متواترة، في حراك، في تدافع، في تغيّر متّصل. تتشكّل الشخصيّة مختلفة مع كلّ حدث،مع كلّ حديث. حسب تمثيليّة الفرد تكون. في كلّ لقاء تتغيّر. يقول فريد “في كلّ لحظة، أنا أهدم (ذاتي). في كلّ لحظة، أنا أبنى (ذاتي)”. الشخصيّة هي حركة. الانسان مخاض.هو صلصال. في تشكّل دائم. الشخصيّة ريح تجري. ماء يسري في ظلّما كان من فهم، من مصلحة، من اتّصال، من علاقة. يولد الانسان بلا رسم، بلا خصائص. ورقة بيضاء. يولد على الفطرة وأبواه ومن كان من الناس حوله يؤلّفون خصاله وطبعه، يفتحون صدره، يوصدون عقله. بين الفتح والغلق، بين البناء والهدم، بما كان من تأثيرات مختلفة، يتأسّس الفرد.ينشأ. يتبلور...للمحيط أثر في رسم الأنا الأوحد وللفرد أثر. ليس الانسان بناء يأتيه الآخر ولا هو تأسيس من الأنا وحده. الإنسان، شخصيّته، تتألّف بين الأنا والآخر. هي مدّ وجذب، دفع وشدّ. الشخصيّة صيرورة...

كيف تتأسّس الشخصيّة وما هي العناصر الثابتة فيها والمتغيّرة؟ كيف تتشكّل وكيف يحصل الرسم والفسخ؟ هل هناك شخصيّة تونسيّة؟ أنا لا أرى. أنا لا أعتقد أنّ للتونسيّ شخصيّة خصوصيّة... شدّني السؤال. سألت الناس من حولي. سألت من أعرف من الأجانب ولم ألق جوابا يشفي. كلّ من زاويّته يأتي طرحا. كلّ يرى ما في قلبه من خصائص معيّنة...
قال الحلّاق التركي وكانت له حانوت في النصر مجاورة: “غريب أمر الناس في هذه البلد. يستوي عندهم الحقّ والباطل، الحلال والحرام. عند العديد منهم تضارب... في غالب الأحيان، التونسيّون والتونسيّات هم ككلّ البشر مثلهم مثل ما ترى في جلّ الأصقاع. هم كغيرهم من البشر في سعي لكسب القوت. في مغالبة الزمن... أحيانا، ألقاهم طيّبين وأحيانا ألقاهم شياطين أباليس. قلت «كيف ذلك وهل من مثال». قال التركيّ «مرّة، كنت في مغازة (جيان) ومنها اشتريت حكك جعة وأشياء أخرى. في الباب، عائدا الى بيتي، أوقفت سيّارة تاكسي وهممت بالركوب لمّا نظر فيّ السائق وكان شيخا يحمل لحية بيضاء وعلى رأسه عمامة وقال: «لا أقدر على حملك وأنت تحمل جعة وكحولا. هذا حرام. لا يمتطي سيّارتي، أداة

رزقي، من بيده بضاعة محرّمة» وانصرف الشيخ الى شأنه وتركني تحت لهيب شمس حارقة في قيلولة صيف. لعنت الشيطان وأصحابه وانتظرت سيّارة أخرى... بعد شهرين أو أكثر، كنت عائدا من نفس المغازة. أوقفت تاكسي وكان سائقها ذاك الشيخ نفسه. صاحب اللحية البيضاء والعمامة.لم أشتر يومها جعة ولا كحولا وكنت محمّلا بسلع أخرى. بعد التحيّة، ركبت الى الخلف وقلت له عنواني وانطلقنا الى حيّ النصر. تبيّن السائق أنّي أجنبيّ وهذه لهجتي مختلفة. انطلق يسعى. يمشي يمينا وشمالا. يشقّ الحيّ هذا ويعود إليه. ثم يمشي الى حيّ آخر يشقّه طولا وعرضا. كنت أنظر في ما يفعل دون أن أقول شيئا. كنت أتّبع سيره. أذكّره بعنواني... أخيرا، وصلنا الى الدار.نظرت في العدّاد وقد جاء فيه عشرة دنانير ونيف. عادة وفي كلّ مرّة، لا تتجاوز التعريفة خمسة دنانير. نظرت اليه. حدّقت في عينيه وقد شدّني عجب وقلت للشيخ صاحب اللحية البيضاء والعمامة:”يا شيخ، الخمر حرام أمّا عشرة دنانير فهي حلال” وانصرفت بعد أن دفعت...

إحدى طالباتي في جامعة خاصّة، سألتها يوما «كيف العيش في تونس وكيف ترين الناس في البلد؟» قالت بعد نظر وتردّد «العيش في تونس عسير.الحياة هنا عذاب، للسود مثلي». قلت كيف؟ قالت «التونسيون في معظمهم عنصريون وخاصّة منهم أولائك الذين يعيشون في الأحياء الشعبيّة... في السنة الماضيّة، اكتريت وأختي بيتا في باب الخضراء. قضيت وأختي سنة ضنكا. كان عيشنا شقاء متّصلا وعرفنا ألوانا من العنصريّة واللمز. كلّ يوم، في كلّ مكان، في الشارع، في المغازات، في الأسواق، في الأجنّة، لمّا نركب الحافلة، لمّا نمشي على القدمين، كنت وأختي محلّ ازدراء وغمز. ترى الناس من كلّ الأعمار وبخاصّة الشباب منهم يتهكّمون، يتعسّفون يقولون بذاءة صغرى وبذاءة كبرى. كلّهم دوما يردّد «كلمة السرّ»، تلك التي أسمعها وأختي وجميع السود هنا صباحا وعشيّة وفي الليل: «كحلوش»...

تواصل طالبتي القول “في ما أرى، لا يعرف التونسيون ما يجري في العالم من اختلاط، من تطوّر. هم لا يسافرون ولا يعلمون ما يجري في الدنيا من تغيّرات كبرى. لم يتحرّر الشباب من تلك العقد المعقّدة. لم يتخلّص من تلك القيم المحنّطة. كلّ أسود عند التونسيين هو مخلوق أدنى، هو عبد”... أمّا الأسود الآخر الذي اعترضني يوما يبيع قلائد تقليديّة، من جلد قبالة سوق سقط الثياب بالمنزه الثامن فكان من السينغال، مسلما، يتكلّم عربيّة بيّنة وكنت كتبت عنه منذ زمن، في جريدة المغرب، فكان يقول «يعتقد التونسيين أنّهم صرّة العالم وأنّهم أفضل البشر وأفطنهم عقلا. يعتقدون أن لا احد مثلهم من الخلق والخلق. هم الحقّ والكمال... كلّ من خالفهم اللون أو الدين أو اللغة، عند التونسيّين، هم جهلة، هم بقر...التونسيّون راضون تمام الرضا على أنفسهم. لا يعرفون حيرة. لا يسألون عمّا كان في النفس من طهر ورجس...»

عدت الى أصحابي أسألهم عمّا يلقون في الشخصيّة التونسيّة من صفات. سألت سي المنصف وله في الحياة تجربة ضاربة وعلاقات متنوّعة. هو رجل أعمال ناجح وتقلّد وظائف عليا.في نفس عمري. متديّن. يصلّي. كثير الحجّ. وفير الصدقة. سألته كيف يرى الشخصيّة التونسيّة. كيف يلقى ملامحها المميّزة. فكان جواب صاحبي غريبا، غير منتظر. بدأ الجواب أولا بالبصاق يمينا وشمالا. كان في بعض توتّر.قالدون تردّد، واثقا: “التونسيون عرب والعرب كرب، كلّهم نفاق وكفر. هم أسقط ملّة. حيث مرّ العرب، حلّ الفساد وعمّ الخراب... أنا أكره العرب جميعا، من أسلاف ومن أحفاد لأنّ ديدنهم في الأرض الإفساد والمكر...”. كنت يومها، في الصباح الباكر، مع سي المنصف وبعض من صحبي نمارس رياضة في المسلك الصحّي بالمنزه. كلّ صباح، يمارس الفريق رياضة. غضب عمار صاحبي لما قاله سي المنصف من سبّ وشتم. انفرد عمار في السير ومشى وحده، يجري. غضبت زوجتي وقالت “كلامك سي المنصف فيه مبالغة. قديما كان العرب أسيادا ولهم فضل. حكّام العرب هم سبب التخلّف والبلوى”. زوجتي معارضة. هي يساريّة النظر. كثر الجدل. كلّ في حماسة يقدّم الحجج. يعارض. يعترض...

هذه ورطة أخرى في هذا الصباح المبارك. ليتني لم أسأل. كنت أسعى الى التوفيق بين المواقف. كنت ارجو أن يتوقّف الجدل. لم أوفّق. كلّ يعتقد أنّه محقّ ورأيه هو الأصوب. خفت أن يفجّر الفريق التنابز.خفت أن يغضب الكلّ. يجب أن أغيّر الوجهة. أنننتهي من الشخصيّة. أن نمشي الى موضوع مختلف. سألت سي المنصف عن الحوثيين وأصلهم، عمّا جاء بين الشيعة والسنّة من فرق... سي المنصف رجل مطّلع. كلّ صباح، باكرا، في المسلك الصحّي، أسأله في أمر، في مذهب، في آية قرآنيّة فيجيبني في الحال أو يرجئني الى الغد. سي المنصف شخصيّة فريدة، مميّزة. في المسلك الصحّي، له دوما شرح وقول. له ذاكرة فذّة...
في الختام، الشخصيّة هي مفهوم جدّ معقّد. هي كينونة متقلّبة المسالك والأركان ومن العسير تحديد ما لها من ميزة ومن خصوصيّة. الشخصيّة صيرورة لا تنتهي. صفتها التقلّب. سمتها الحركة. لا وجود لشخصيّة قارّة، ثابتة. لا وجود لوحدة ذاتيّة تونسيّة عامّة، مشتركة. الشخصيّة التونسيّة ككلّ الشخصيّات في الأرض هي اختلاف وتنوّع. هي تأليف دائمّ. التونسيّ هو انسان كغيره من الناس. هو بشر. لا أكثر ولا أقل...

يرغب بعضهم في استثناء التونسيّ، في خوصصته. في القول أن له خصالا مميّزة تتجلّى في دينه، في تاريخه، في لغته الأمّ. عند هؤلاء، التونسيّ عنصر منفرد. هو جنس لوحده. له أصالته وذاك أصله ومنبته ولا مفرّ من الأصل. للموروث على نفسه أثر بليغ لا يمحي. للتاريخ فعل ضارب في الفرد، في شخصيّته... ذاك ما يدّعيه الاستثنائيّون. ذاك ما يؤكّده العنصريّون.هم عنصريّون لأنّهم يفضّلون العنصر، لأنّهم يدعون الى التمييز بين الناس، الى التفريق بينهم. بالتمييز بين الأفراد يكون الرفض للآخر المختلف. بالتفرقة بين الناس يحصل التباغض والمنكر...

لا وجود لشخصيّة منفردة. هناك فقط بشر. للبشر شخصيّات عديدة، متباينة. ما كان الانسان شجرة لها عروق ثابتة وتربة ومنبت. لا منبت للإنسان. لاأرض، لا وطن. الانسان حركة. هو ريح عابرة. هو سحاب يسري. هو كائن متغيّر. حسب المكان والزمان يتألّف قلبه. حسب القدرات يتأسّس، يتأقلم، يتغيّر...كغيره من البشر، ككلّ البشر، التونسيّ حركة.هوصيرورة...

(انتهى)

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115