إلى مساهمة التجربة الفنية في بناء المشروع السياسي الوطني وخصوصيته.
وسنواصل في هذه المقالة مع وجه هام وهو المخرجة والمناضلة سلمى بكار والتي عرفت نجاحا منقطع النظير مع شريطها الأخير «الجايدة» والى الآن يصعب الحديث وتفسير أسباب نجاح هذا العمل ولعل حبكة الكتابة والإخراج وعودة المخرجة إلى التاريخ في فترة تتميز بحيرة كبيرة حول المستقبل ساهمتا في نجاح هذا الشريط المتميز.
وتجربة سلمى بكار الفنية والسياسية خاصة في المجال النسوي تثير مسالة أساسية وهي قضية المرأة في التجربة السياسية في بلادنا ومساهمتها في خصوصية وتميز هذه التجربة مقارنة بالتجارب الأخرى في المنطقة العربية والإسلامية.فقد وضعت النخبة السياسية التونسية والحركة الوطنية ثم دولة الاستقلال نصب أعينها قضية تحرير المرأة ومساهمتها الكاملة والفعالة في العمل السياسي والاجتماعي والاقتصادي .
فكانت مجلة الأحوال الشخصية والتي أعطت للمرأة العديد من الحقوق والتي بقيت إلى الآن مطالب بعيدة المنال في الكثير من البلدان الأخرى .كما عرفت كذلك بلادنا سياسة تحديد النسل والتي ساهمت مساهمة هامة في تحرير المرأة من الواجبات العائلية وساهمت في دخولها الى معترك الحياة السياسية والاقتصادية.
إذن لعبت هذه الثورة الإصلاحية التي عرفتها بلادنا في مجال المرأة دورا مهما في بناء ونحت معالم المشروع السياسي في بلادنا وخصوصيته مقارنة بالمشاريع والتجارب السياسية الأخرى في محيطنا .وستكون هذه التجربة النسوية في بلادنا ومسارات نضالات المرأة مجال اهتمام سلمى بكار الفني .
وقبل الحديث عن هذه التجربة المهمة في مجال الإخراج والإنتاج السينمائي والتي جعلت من سلمى بكار علامة مميزة في التجربة السينمائية في بلادنا أردت أن اعرف منها أصل وأسباب هذه الروح الثورية والرافضة التي تميز لا فقط إبداعها بل كذلك ممارساتها في الحقل السياسي والثقافي والاجتماعي – وتشير سلمى إلى أن هذه الثورة والانحياز للنساء يجدان جذورهما في محيطها العائلي.فمن ناحية هناك الوالد والذي تعامل معها منذ الطفولة كما تعامل مع اخوانها الستة.وتقول بابتسامة كانت في هذه المعاملة الكثير من «الرجالية» مما اوجد عندها هذه الروح الاندفاعية والرافضة والتي نمت على مرّ السنين وكانت سلاحها في مختلف المعارك التي خاضتها في الثقافة والسينما كما في السياسة.
والجانب الثاني في هذا التكوين والتأثر يأتي من الوالدة وجانب الحرمان الذي عاشته أجيال عديدة من النساء في المجتمع المحافظ وامام التقاليد البالية التي ورثناها من قرون من التهميش والخروج من التاريخ فوالدة سلمى بدأت دراستها قبل الاستقلال وكانت ناجحة إلاّ أنّها لم تتمكن من مواصلة تعليمها واضطر ت كالكثيرات من جيلها إلى الانقطاع عن الدراسة والانكفاء في البيت في انتظار الزوج – وقد شكل هذا الحرمان احد روافد التجربة السياسية والثقافية لسلمى بكار لينصب اهتمامها على مساندة النضالات النسوية حتى لا تعيش الأجيال الجديدة هذا الحرمان وهذا الاستبعاد والاستثناء من الفضاء العام.
وستكون المبادئ الرجالية» وقوة الحضور والاندفاع التي تشبعت بها من والديها منذ الصغر نبراسا سيقود سلمى بكار في مسيرتها الإبداعية والسياسية.وستنطلق هذه المسيرة الفنية في مدينتها حمام الأنف سنة 1965 وفي نادي السينمائيين الهواة ككل سينمائيي جيلها والذين بدأوا رحلة الحب والغرام مع الكاميرا ومع الفعل السينمائي على مقاعد الجامعة التونسية للسينمائيين الهواة.وسيكون نادي حمام الأنف المدرسة التي ستتعلم فيها سلمى بكار أبجديات العمل السينمائي لتنتقل علاقتها بهذا الفعل الإبداعي من مجال الهواية إلى مجال الهوس والشغف.
وقد لعب نادي حمام الأنف والذي يعتبر أحد أهمّ نوادي جامعة السينمائيين الهواة على مر التاريخ دورا مهما في مسار سلمى بكار لا فقط في المجال التقني حيث تعلمت أول أسرار الكتابة السينمائية والتصوير السينمائي بل كذلك على المستوى الثقافي والسياسي.
فالى جانب حصص التكوين التقني كانت نوادي السينمائيين الهواة تعرض العديد من الأفلام الأجنبية لدعم الثقافة السينمائية عند منخرطيها .وكانت اغلب هذه الأفلام تطغى عليها الصبغة النضالية كالأفلام السوفياتية ومنها «المدرعة بوتمكين» و»الأم « للمخرج ايزنشتاير وكذلك أفلام دزيقا فورتوف و أفلام الواقعية الجديدة الايطالية وأفلام روسيليني ودي سيكا وغيرهم.
وقد لعبت هذه العروض والنقاشات الساخنة التي كانت تعقبها في بلورة الرؤيا الإبداعية والفنية لسلمى بكار فمنذ أيامها الأولى في حركة السينمائيين الهواة اختارت أن تتبع النظرة النضالية للسينما .واعتبرت أن للسينما دورا هاما في التدخل السياسي و الاجتماعي ويمكن لنا بالتالي تغيير الواقع من خلال السياسي فسلمى بكار دافعت من خلال اعمالها على هذا الدور السياسي للسينما واعتبرت أن الكاميرا هي سلاح وضعته لخدمة قضايا المرأة وتحررها في اغلب أعمالها الفنية.إلاّ أن هذا الخيار السياسي والنضالي لسينما سلمى بكار لا يعني السقوط في الأفلام الدعائية الفجة فقد أعطت للجمالية وللحبكة الفنية دورا أساسيا لتصبح أعمالها محطات ثرية وإبداعات تجد قبولا كبيرا عند النخبة وكذلك عند عامة الناس.
والى جانب الجوانب الفنية والثقافية فان مرور سلمى بكار بحركة السينمائيين الهواة ستفتح أمامها آفاق النضال السياسي الديمقراطي والحركات الشبابية الرافضة والثائرة على الاستبداد .وستواصل سلمى بكار انخراطها إلى جانب قضايا التغيير السياسي الديمقراطي والاجتماعي منذ سنوات الشباب وستخطو اثر الثورة الخطوة التي رفضت القيام بها طيلة حياتها بالانخراط في العمل السياسي المباشر.فستكون رئيسة قائمة القطب الديمقراطي في ولاية بن عروس في انتخابات المجلس التأسيسي سنة 2011.وستكون عنصرا فاعلا في كل النضالات التي ستخوضها الكتلة الديمقراطية والتي ترأستها سلمى بكار وبصفة خاصة اعتصام الرحيل وكتابة واعتماد دستور الجمهورية الثانية في بداية 2014.
وستتواصل رحلة سلمى بكار مع التكوين في الميدان السينمائي في باريس سنة 1968 في أحد أهمّ المعاهد السينمائية في العالم وهو معهد التكوين السينمائي أو Institut de formation cinématographique والى جانب الدراسة والتكوين السينمائي ستعيش سلمى بكار ثورة الشباب في ماي 1968 وشعاراتها كالراديكالية التي ستساهم في دعم آرائها التحررية على المستوى السياسي ونظرتها النضالية للسينما .
ثم سترجع سلمى بكار إلى تونس سنة 1970 لتلتحق كالعديد من أبناء جيلها بالتلفزة التونسية لتقوم بتجربة هامة الى حد سنة 1975 حيث ستساهم من مواقع مختلفة في عديد البرامج والأفلام التلفزية وبقي في ذاكرتي من كل هذه الأعمال مسلسل «كموشة» والذي أخرجته فاطمة سكندراني وكانت سلمى بكار مساعدتها الأولى ولعبت فيها جليلة بكار احد ادوار البطولة إلى جانب الممثل الكبير عبد السلام البشّ.ومن طرائف هذا المسلسل أن فاطمة سكندراني وسلمى بكار كانتا حبليين أثناء العمل على هذا الفيلم.
وستكون الانطلاقة الحقيقية لسلمى بكار كمخرجة سنة 1975 مع فيلم «فاطمة 75» والذي سيصبح أحد اسطورات السينما التونسية.وقد قامت سلمى بكار من خلال هذا الشريط وبمناسبة السنة العالمية للمرأة بقراءة نقدية للتناقض بين القوانين والإجراءات التي ارستها دولة الاستقلال لفائدة المرأة والواقع الحقيقي للمرأة خاصة في الأرياف وفي الطبقات الشعبية .وهذه القراءة النقدية لواقع المرأة ستكون وراء منع الفيلم من العرض لمدة ثلاثين سنة .إلاّ أن هذا المنع لم يمنع الفيلم من المشاهدة فتم عرضه في تظاهرات السينمائيين الهواة ونوادي السينما ليصبح من أكثر الأفلام مشاهدة بالرغم من منعه من طرف السلطة.
وسيكون لهذا المنع تأثيراته النفسية على سلمى بكار التي ستبتعد عن الكتابة السينمائية ولكنها ستنغمس في العمل السينمائي وفي عديد المهام كمساعدة مخرج ومديرة إنتاج ومنتجة لتكون أول امرأة تتحمل هذه المسؤوليات الهامة بعد أن كان دور النساء يقتصـر علــــى التركيب وscript.
إلا أن هذا الابتعاد عن مجال الكتابة والإخراج السينمائي لن يطول فستعود سلمى بكار للعمل على فيلم جديد منذ منتصف الثمانينات وهو فيلم حبيبة مسيكة.وسيثير هذا الفيلم جدلا كبيرا خاصة بعد حصوله على دعم من وزارة الثقافة.فرفضت عديد الجهات هذا الشريط واعتبرت أن دعم الدولة لا يمكن له ان يتجه لإنتاج فيلم عن مغنية يهودية.ولم تتمكن سلمى بكار من إنتاج هذا الشريط وتصويره إلا سنة 1994 بدعم من وزير الثقافة آنذاك المرحوم الحبيب بولاعراس.
وستعود سلمى بكار للإخراج بعد أكثر من عشر سنوات وبالتحديد سنة 2006 مع شريط «الخشخاش» والذي لقي إقبالا كبيرا وتحصل على العديد من الجوائز.
وستبدأ سلمى بكار التفكير في فيلم «الجايدة» سنة 2007 وستبدأ الكتابة مع سمير العيادي وستساعدها الممثلة وجيهة الجندوبي في كتابة الحوار.وسيتحصل الشريط على دعم وزارة الثقافة سنة 2010.إلاّ أن الثورة مرت من هنا لتنقطع سلمى بكار عن العمل السينمائي وتنخرط في العمل السياسي بكل طاقاتها .فستلعب دورا كبيرا في دعم المهاجرين القادمين من ليبيا في مخيم الشوشة.ثم ستترأس قائمة القطب الديمقراطي في ولاية بن عرس في انتخابات المجلس التأسيسي لتخوض تجربة سياسية هامة ولتكون المدافعة الشرسة عن الحريات وعن حقوق المرأة في الدستور الجديد.
وستعود سلمى بكار اثر الانتهاء من تجربة العمل السياسي والمجلس التأسيسي لإخراج هذا الفيلم الحدث «الجايدة» ويبقى التساؤل الهام والأساسي حول أسباب هذا النجاح الجماهيري المنقطع النظير والذي تجاوز توقعاتها بكثير طبعا لهذا الفيلم كما لأفلام سلمى بكار السابقة العديد من الميزات كحبكته الفنية وكتابته الراقية إلاّ أن هذه الأسباب لا يمكن أن تفسر لوحدها النجاح الجماهيري الذي لايزال يعرفه الشريط منذ خروجه إلى القاعات وفي كل الجهات والمدن التي عرض فيها.
تجول عديد التخميات في ذهن سلمى بكار حول أسباب نجاح فيلم «الجايدة» – قد تكون الانكسارات التي عرفناها وتراجع الحلم في بناء غد أفضل بعد الثورة – قد تكون كذلك العودة إلى التاريخ والتي تغنينا عن حيرة وتساؤلات الحاضر – قد يكون كذلك هذا النجاح نتيجة لتخوفات العديد من العودة إلى الواقع الذي كانت فيه المرأة ونفي الحقوق التي تمتعت بها مع دولة الاستقلال .
عديد التخمينات تجول في ذهن سلمى بكار لفهم هذا النجاح .ولكنها لا تقف على سبب وحيد لتفسير هذا النجاح.
ولكن ماذا لو كان هذا النجاح عربون وفاء وتحية محبة من الجمهور العريض لهذه المرأة التي وهبت كل طاقاتها وإبداعها من اجل الدفاع عن قضايا المرأة والمساهمة في تدعيمها في تجربة التحول الديمقراطي في بلادنا.هذا الإقبال الجماهيري يتجاوز الشريط وقيمته الفنية الثابتة ليتحول إلى تحية إلى هذه المخرجة المناضلة ومن ورائها إلى كل القضايا التي دافعت عنها في أعمالها الفنية والسياسية وخاصة قضيتها المركزية أي حقوق المرأة والتي كانت لعقود وراء خصوصية مشروعنا السياسي وتجربتنا التاريخية.