حول السنة المنقضية والجهد الذي أقوم به لفهم ومحاولة استخراج الخيط الرابط الذي يجمع الأحداث المتفرقة التي عرفها العالم.
قرأت هذه القصة ككل أعمال الروائي حنّا مينة منذ سنوات لكنها سكنتني وملكت فكري في الأيام الأخيرة وأنا أخط هذه الأفكار والآراء حول السنة المنقضية وعوض التركيز على المقال ومحاولة قراءة أحداث السنة المنقضية وجدتني أحاول الإجابة عن هذا التساؤل – ما علاقة حنّا مينة وروايته «بقايا صور» بالسنة المنقضية ؟ ولماذا سيطرت هذه الرواية على أفكاري وآرائي لدرجة جعلتني اهتم بها أكثر من الموضوع الرئيسي لهذا المقال.
والاهتمام المفاجئ بالروائي السوري وبراويته وأنا بصدد التفكير في أحداث السنة المنقضية يعود في رأيي إلى سببين – الأول هو أهمية هذه الرواية في أعمال وإبداع حنّا مينة والروائي المولود في اللاذقية سنة 1924 عرف حياة صعبة وتقلب في عديد الأعمال الصعبة ومن ضمنها حمالا في ميناء اللاذقية وبحارا على السفن والمراكب.وبعد هذه المهن المختلفة انتقل إلى الكتابة الصحفية قبل أن يتفرغ للرواية وليكتب أكثر من 30 رواية غذاها بتجاربه المهنية المختلفة ومعاناته في هذه التجارب.وانطلق حنّا مينة في الكتابة الروائية سنة 1954 برواية «المصابيح الزرق» لتتوالى الروايات والكتب التي اهتم فيها بالبحر وليحكي لنا فيها معاناة البحارة وقساوة عالمهم.وسيكتب عديد الملاحم الروائية اذكر منها «الياطر» و»حكاية بحّار» و»الثلج يأتي من النافذة» و»المستنقع» و»فوق الجبل وتحت الثلج» و»الذئب الأسود» و»صراع امرأتين» و»المرفأ البعيد» و»عاهرة ونصف مجنون» وغيرها من الأعمال الروائية الهامة والتي أصبحت معالم مهمة في تاريخ السرد الروائي العربي.
وقد تميزت أعمال حنّا مينة بواقعيتها وصدقها في التعبير عن معاناة البحارة وقساوة الحياة في البحر وبين المراكب في الموانئ.ولم يكتف حنّا مينة بتصوير هذه المعاناة والقهر الذي يعيشه البحارة بل ساهم كذلك في التعريف بكفاحهم ونضالاتهم من اجل التصدي للقهر الذي يعيشونه وفي الدفاع عن حقوقهم ومصالحهم.
وفي مجمل هذه التجربة الروائية الثرية فان رواية «بقايا صور» تتميز بمكانة خاصة لا فقط في هذه التجربة بل كذلك في الرواية العربية.ونظرا لأهمية هذه الرواية فقد قام المخرج السوري نبيل المالح بتحويلها سنة 1973 إلى شريط سينمائي من إنتاج المؤسسة العامة للسينما السورية وبطولة أديب قدورة ونائلة الأطرش وجورج كنعان.
أما السبب الثاني والذي جعل حنا مينة يحاصرني وقصة «بقايا صور» تملأ فكري وأنا بصدد كتابة هذا الموضوع عن أحداث السنة المنصرمة فهو بالتأكيد الموضوع الذي تناولته هذه الرواية . فمن خلال ذاكرة طفل في قرى اللاذقية يصور حنّا مينة الشقاء والفقر وانسداد الأفق والأمل من ناحية ومن ناحية الأخرى محاولات إعادة بناء الحلم الإنساني والمشروع الليبرالي في العالم.هذه إذن الصور التي ستبقى وستحفظها الذاكرة للسنة المنقضية. صور العنف الداعشي والهجومات الإرهابية وتنامي الشعبوية الرافضة للآخر من جهة ومحاولات إعادة بناء علاقات تعايش جديدة بين الشعوب والدول والخروج من منطق الفوضى لإعادة بناء عالم متوازن يحكمه التعاون والتآخي .
وقبل الحديث عن أهم أحداث السنة المنقضية وقراءة أهم دلالاتها لابد لنا من وضعها في إطارها التاريخي .ونحن إذ ندرس هذا التطور التاريخي فلا يمكن لنا أن ننسى أننا نحتفل بعد بضعة أشهر بمرور خمسين سنة على ثورة الشباب في العالم بداية من شهر ماي 1968.وقد انطلقت هذه الثورات الشبابية في جامعات فرنسا لتنتقل إلى اغلب المدن والجامعات الكبرى في العالم ولتصل الى اغلب بلدان العالم الثالث المستقلة حديثا.ولنفهم هذه الثورات لابد من وضعها في إطارها التاريخي وفي تطور النظام الرأسمالي العالمي.وقد تميز هذا النظام بظاهرتين متلازمتين منذ بداية القرن العشرين.الأولى هي هيمنة النظرة التسلطية على المستوى السياسي والاجتماعي والثانية هي الجانب الليبرالي على المستوى الاقتصادي بهيمنة السوق وفتح المجال للمؤسسات الاقتصادية والشركات الاقتصادية الكبرى والتي بدأت في تجاوز الحدود الوطنية للأنظمة الوطنية لتشكل النواتات الأولى للعولمة الاقتصادية.
وسيتواصل هذا النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي بعد الحرب العالمية الثانية ليبرز التناقض الأساسي بين السلطوية السياسية والاجتماعية من جهة والليبرالية الاقتصادية من جهة ثانية.وستبرز الهيمنة والتسلط في أربعة مجالات أساسية المجال الأول هو هيمنة الدولة على المجتمع في المجال السياسي لتشكل المؤسسات الرسمية للدولة المجال الوحيد للتعبير السياسي وتخنق بالتالي كل التعبيرات الحرة والمستقلة للحركات الاجتماعية- المجال الثاني للهيمنة والتسلط يخص المجموعات Communautes les والتي ستحد من التعبيرة الحرة للأفراد.وسيكون الفرد تابعا لحركة المجموعات المنظمة وغير قادر على التعبير عن أحاسيسه وآماله أمام هيمنة الهياكل والمؤسسات الرسمية .
المجال الثالث للعلاقات السلطوية في المجتمعات الرأسمالية الموروثة من الحرب العالمية الثانية يخص سلطة الأب وهيمنة المبادئ الرجالية في هذه المجتمعات والتي همشت إلى درجة كبيرة التنوع العرقي والجنسي الذي تعرفه هذه المجتمعات.أما المجال الرابع والأخير لهذه الهيمنة والتسلط فيخص العائلات البورجوازية الكبرى والتي ستبسط نفوذها في المجال الاقتصادي من خلال امتلاكها لكبرى الشركات والمؤسسات الصناعية والمالية السائدة في هذه المجتمعات .
وستشكل انتفاضات الشباب في نهاية الستينات ثورة على هذه الانواع من التسلط في المجتمعات الرأسمالية ومحاولة للقطع معها وبناء علاقات اجتماعية جديدة تسودها الحرية ورفض الهيمنة.وستعرف هذه الثورات الشبابية عديد التيارات والتوجهات الفكرية والسياسية لعل أهمها التيار الثوري المتمثل في الحركات الشيوعية والماوية والتي كان هدفها تقويض أسس النظام الرأسمالي وبناء أنظمة اشتراكية.كما نجد ضمن هذه الثورات الشبابية بعض الحركات الليبرالية والتي كانت تهدف أساس إلى فتح المجتمعات الرأسمالية إلى مزيد من الإصلاحات الديمقراطية دون الوصول ضرورة إلى التغيير الثوري.
وفي هذا المخاض الفكري والسياسي والاجتماعي ستكون الغلبة في نهاية الآمر للتيارات الليبرالية والتي ستكون قادرة على انجاز ثورة داخل الثورة وستنجح في فك سلطوية الأنظمة الرأسمالية لتفتح مجالا هاما للتغيير الليبرالي .وستنجح هذه الثورات الشبابية في بناء أنظمة سياسية واجتماعية واقتصادية جديدة تقطع مع واقع التسلط الذي عاشته المجتمعات الرأسمالية
لعقود طويلة.فستتمكن هذه الثورات من الحد من هيمنة الدولة على المجتمع وفتح مجال كبير للديمقراطية والتعبيرات السياسية المستقلة – كما ستنجح هذه الثورات الشبابية في إعطاء الفرد حرية اكبر وهامشا اكبر مقارنة بدور المجموعات واللوبيات والطبقات الاجتماعية ليصبح الفرد حرا بذاته.
كما ستشكل هذه الاحتجاجات الشبابية ثورة مهمة على سلطة الأب لتفتح مجالا كبيرا لثقافة التنوع والتعدد والاختلاف لا فقط على المستوى العرقي بل كذلك على المستوى الجنسي.كما ستساهم هذه الثورات الشبابية في الحد من هيمنة العائلات البرجوازية الكبرى لتدخل نظاما جديدا لتسيير الشركات الكبرى يعتمد على الإداريين وmanagers عوضا عن هذه العائلات.
إذن لعبت هذه الثورات الشبابية دورا أساسيا ومركزيا في تغيير العالم.وان لم تنجح في تقويض أسس النظام الرأسمالي فإنها نجحت في بتر السلطوية وبناء نظام ليبرالي يعتمد على الحرية واحترام سلطة الفرد.
وستساهم هذه المبادئ الليبرالية في المجال السياسي والاجتماعي والاقتصادي في بناء أسس النظام العالمي الجديد والعولمة وإعطاء نفس جديد للنظام الرأسمالي.
إلا أن هذه المبادئ والنظام الليبرالي سيشهدان عديد التراجعات والانتكاسات خلال العقود الأخيرة لتشكل السنة المنقضية نقطة تحول وتساؤل أساسية بين نهاية النظام الليبرالي وإعادة بنائه من جديد.وسيعرف التناقض بين هذين الاتجاهين مداه الأبرز خلال هذه السنة المنقضية والتي ستعرف كما أشار حنّا مينة في روايته» بقايا صور» صراعا كبيرا بين أفول عالم الأمس وصعوبات بروز ومخاض عالم الغد.
ويمكن أن نشير إلى بروز هذه التناقضات سنة 2017 في عديد التوجهات والظواهر الكبرى.الظاهرة الأولى تخص ترهل الإرهاب والجهاد الديني في العالم العربي وحتى في بلدان العالم.فعلا بدأنا السنة على أخبار الاعتداء الإرهابي في أنقرة والذي راح ضحيته عديد الأبرياء ومن ضمنهم شاب تونسي وزوجته.وستتواصل هذه الاعتداءات طيلة السنة المنقضية إلا أن هذه الاعتداءات ستكون بمثابة رقصة الديك المذبوح.فستتمكن قوات الجيش السوري والتحالف الذي ساندها من القضاء على هذه الكتائب الإرهابية ودخول مدينة الرقة في سبتمبر 2017 والتي كانت لثلاث سنوات عاصمة ما سمي بدولة الخلافة ومصدرا للإرهاب والعنف على المستوى العالمي.
الظاهرة الثانية التي يمكن الإشارة إليها والتي ستشهد تطورا كبيرا في السنة المنصرمة هي صعود الشعبوية والتي اعتبرها العديد نتيجة لتراجع وتآكل الطبقات الوسطى في البلدان المتقدمة وقد نتج عن هذا الصعود تطور كبير للقوى اليمينية في هذه البلدان المدافعة عن نظرة أحادية للعالم ومن ضمنها نجاح ترامب في الانتخابات الرئاسية ووصوله للسلطة في شهر جانفي من سنة 2017.وسيدافع ترامب منذ وصوله إلى السلطة عن نظرة انفرادية ومتمردة على مبادئ التعاون الدولي وسيدافع عن نظرة تسلطية معادية شديد العداء لمبادئ الليبرالية .
كما ستعرف هذه السنة تطورا كبيرا للقوى المعادية للعولمة وصعود التيارات التي تنادي بالانغلاق والحمائية المفرطة وستشكل مفاوضات انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي ابرز علامات انحسار العولمة – كما سيشكل قرار الرئيس الأمريكي ترامب بالتراجع عن الموافقة عن اتفاق باريس المناخي أحد أهم سمات الأزمة التي ستصيب العولمة وستساهم مساهمة كبيرة في أزمتها وتراجعها .ويمكن أن نشير إلى عديد الأمثلة الأخرى ومن ضمنها قرار الكاتالونيين في اسبانيا المطالبة باستقلالهم والانفصال عن اسبانيا.كل هذه الأمثلة تشير إلى أن السنة المنقضية شكلت سنة محورية وعرفت تطورا كبيرا في جملة من التراجعات عن المشروع الليبرالي الذي ظهر وتطور منذ خمسين سنة في خضم الثورة الشبابية.وستنمو هذه التراجعات وستعرف تطورات كبيرة من ضمنها صعود القومية الروسية والنظرة التسلطية التي ستميزها والحنين الذي ستحمله إلى الأنظمة القومية ورجوع هيمنة الدولة على المجتمعات وعلى السياسة.
إلا أن هذه السنة ستعرف كذلك نمو وتطور التيار الليبرالي والذي سيحاول الخروج من أزمته وإعادة بناء ذاته وأفكاره وممارساته السياسية وابرز دليل على ذلك هو الانتخاب المفاجئ للرئيس الفرنسي ماكرون والهزيمة التي ألحقها بالقوى اليمينية والشعبوية في فرنسا – كما يمكن أن نشير كذلك الى تصاعد نضال الحركة النسوية المناهضة للعنف ضد المرأة والاعتداءات الجنسية والتحرش اثر الحملات التي قامت بها بعض الصحف العالمية لفضح هذه الممارسات في عديد الأوساط ومن ضمنها الأوساط السينمائية في هوليود.
اذن كانت السنة المنصرمة سنة صعود نقد ورفض النظام الليبرالي وعودة الحنين للأنظمة القوية والنظرة التسلطية وهيمنة الدولة وتراجع الحريات الفردية.إلا أن هذه السنة شهدت كذلك بعض إرهاصات عودة الحرية واستماتة بعض مبادئ النظام الليبرالي في الدفاع عن مجتمع منفتح ومتحرر من كل أشكال الهيمنة.
وستبقى صور هذه السنة تتراوح كما في رواية حنّا مينة بين صعود للقهر والهيمنة والعنف من جهة وعودة أفكار الحرية والانعتاق والتحرر من جهة ثانية – وهذا الصراع سيتواصل في رأيي لسنوات طويلة وستواصل القوى السياسية والاجتماعية في محاولات بناء تجربة سياسية جديدة للخروج من الأزمة ومن انسداد الأفق الذي نعيشه اليوم.